التقرير السنوي للسعادة الصادر عن الأمم المتحدة “لبنان يا قطعة سما” ورد في التقرير السنوي للسعادة والذي يصدر عن الأمم المتحدة ان لبنان يتذيّل الهرم ويكاد ينافسُ أفغانستان في احتلال لقب أتعس بلاد الدنيا… إلّا ان الذين قاموا باستخراج هكذا استنتاجات يبدو أنهم بعيدون عن الواقع ولا يجِدون في معيارهم إلّا ما يقاس بالأموال أو الاكتفاء الذاتي! بيد ان الحقيقة قد تخالف ما يتراءى للمتفحّصين لهكذا أمور وقد تكمنُ في قضايا أخرى لا تقاس بمعيار وليس بمقدور أحد أن يلمسها ! قد نجد أناساً سعيدين بتعاستهم بينما نصدفُ آخرين تعساء مهما فلحوا! السعادة الحقيقة هي حالة نفسيّة ميّزَ الله بها بعض خلقه وهي تُعشّش في دماغ المرء وتجعله ينعم بإحساس برضى لا يباعُ ولا يُشترى! كم رأينا من الفقراء سعيدين في حياتهم بينما لقينا أغنياء لا يُعجبهم العجب ولا الصيام في رجب! ولديّ سؤالٌ لا أجدُ جواباً له: “أمِنَ الأفضل أن نسعدَ بالقليل الذي في حوزتنا أم أن نبقى نعيشُ في خوفٍ دائم وقلقٍ مستديم خوفاً من أن نفقدَ بعضاً من ثرواتنا؟” عندما تصلني مقاطع مصوّرة لحفلات تجري إقامتها في لبنان أم صور مطاعم تكتظّ بالروّاد، وذلك على الرغم من انقطاع الكهرباء وشح المياه وانعدام التدفئة وقلّة الموارد وعدم إمكانية الأفراد من سحب أموالهم من المصارف… إلى ما هنالك من مصائب… أجدني عاجزاً عن الفهم! ومن ناحية أخرى نرى معاناة الكثيرين من عدم توفر لقمة العيش لعيالهم وانقطاع الموارد وعدم القدرة على الحصول على الدواء، والتعرض لرفض دخولهم المستشفيات إلّا بعد تأمين المبالغ المطلوبة مسبقًا، ونجدُهم يقبعون في زاوية غرفهم ينتظرون معجزة تحلّ عليهم من شفيع يتضرعون له أو موتٍ لا مفر منه باتوا على عتبة بابه: أيهما يحلّ قبل غيره سيرضون به دون ان يتلفظوا بالباطل تجاه خالق لم يسعفهم وقت الحاجة على الرغم من صلواتهم وعبادتهم له! إلّا ان ما يجمع بين اللبنانيين هو ذاك الأمل الذي لم يختفِ قطْ عن خيالهم! منذ أكثر من ستة آلاف سنة واللبناني لم يعشْ أكثر من ست سنوات متتالية من العيش الرغد واحترام العهد! كل الأديان دخلت ديارنا وأمّت قرانا ومدننا وتوزّعت مرافئنا وقسّمت أقطارنا، إلّا أن أياّ منها لم يستحوذ على إجماعنا وتفرقنا شيعاً وطوائف وقطعاناً، وإن كان علَمُنا مزنّراً بحمرة الدم، إلّا ان ذاك اللون يمثّل الدماء التي نحرناها من دماء أهلنا أكثر من دماء الغزاة الذين تنافسنا على الحصول على رضاهم! سياسيونا ينافسون رجال أدياننا، كلٌّ تذرعاً بالدفاع عن طائفته وبعض رجال أدياننا يجارون سياسيينا سوءاً وشراً، والشعب يميل الى تحميل الفوضى الى الحكام الذين يمسكون بزمام الأمور! إلّا أني أُشارط الجميع أن هؤلاء الحكام إن وُجدوا في بلدان أخرى لكانوا من أفضل المسؤولين خوفاً من شعب يحاسب! عندما تكون جذور الشجرة قد ضربها السوس وهي تُغذّي الجذع فلا نأملنّ بالحصول على ثمارٍ سليمة وجيدة! نحن من نريد الإعوجاج في حكمنا والمسؤول الذي نختاره هو من يلبّي حاجاتنا عندما نطلب منه ذلك وليس من يُطبّق دولة القانون! نحن نحرّض المسؤولين على التعدي على القوانين ومخالفتها! وفي النهاية السؤال: “ما الأفضل: ان تعيش بالأمل رغم فقرك أم تعيش غنيّاً في خوف دائم مما قد يحدث؟” نحن شعب الأمل، ننتظره، وقد لن يأتِيَ أبداً، ونحن شعب سعيد على الدوام رغم أنف الأمم المتحدة وباحثيها! “وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”
في ذكرى اليوم العالمي للمرأة ، أجدُ قلبي يفرح وعيني تدمع في آنٍ معاً. على الرغم من كل الإنجازات التي قامت بتحقيقها وكل القوانين التي تمّ سنّها من أجلها على مدى قرنٍ ونيّف، وبالأخص في البلاد التي تعدُّ نفسها متقدّمة، ألا نفاجأُ بأن هذه القوانين لم تُعطِها أكثر من حبر على ورق وما زال مورد رزقها يقلّ عمّا يحصّلهُ الرجل لنفس المهام، ومازالت تعيش في خوف يلازمها من التحرّش الجسدي او الجنسي وقد لا تجدُ من يحميها إلّا بعد وقوع الواقعة؟
أمّا في بلاد مشرقنا الحبيب فما زالت المرأة في بعض الأحيان لا تُعتبر أكثر من سلعة تباع وتشترى وهي عرضة لمآرب الكثيرين، وما برِحَت مطمورةً تحت التراب وإن تنفّست!
هل يجوز أن نبقى على اعتبار المحاسن التي جعلها الله في المرأة من سيئاتها والعِلمُ الذي تُحصّله بمثابة أثقال تعيقها في مجتمع لا يعترف بكفاءاتها ؟
بانتظار تغييرات جذريّة في مفاهيمنا أتمنى غداً أفضل لكل نساء العالم!
خلال سنيّ طفولتي، لم يكن الاحتفال بعيد ميلادِ أيِّ فردٍ من أفراد الأُسَر أمراً مهماً! كان الكثيرون، وبالأخص الذين وُلِدوا قبل جيلي، يجهلون تاريخ وِلادتهم الحقيقي، ويعتمدون على أحد الأقارب من ذوي الذاكرة الحافظة لسؤاله عن التاريخ الحقيقي! أذكرُ ان والدي كان مرجعاً مهماً لهكذا تواريخ وبالأخص بالنسبة لأولاد أعمامي وعمّاتي!
وكان كثيرون يحملون تاريخَين مختلفين لمولدهم: تاريخاً تمّ تسجيله لدى الدوائر الرسمية ، وتاريخاً آخر لم يتم تسجيله وهو يمثّل الزمن الحقيقي الذي تمّت فيه الولادة !
في عيد ميلادي، كانت والدتي تحضّر قالب الكيك المستدير، المصنوع من الألمنيوم، والمثقوب في وسطه. أمّا للطهي، فكان يوضع مباشرة على موقد الغاز المستدير دون الحاجة الى الفرن. وفي المساء كنتُ أدعو بعض أطفال الجيران لتناول قطعة من الكيك بعد أن أطفئ الشموع.
مع الزمن، انتشرت عادة إقامة الاحتفالات بمناسبة عيد ميلاد الأفراد، ولربّما نقلنا هذه العادة عمّا كان يجري في بلاد الغرب.
ومع ان الأمر قد يكون عادياً بالنسبة لي، إلّا انه ليس كذلك بالنسبة لزوجتي إذ انها تعتبر المناسبة في غاية الأهمية! ولا بد من الإقرار هَهُنا بأنني فشلتُ مراراً وتكراراً في انتقاء هدية تلقى إعجابها. فإذا قدّمتُ لها قطعة ملابس يواجهني سؤالها:” مذْ متى تعرفُني أستذوقُ هكذا ألبسة؟” وإذا أهديتها باقةَ ورود حمراء أجدها تبتسم وتنظر إلى عينيَّ وكأنّي أردْتُ إصلاح عجز الموازنة على حساب هديتها ! أمّا إذا بذخت وقدّمتُ لها قطعة مجوهرات فأجدها ترمقني من طرف عينها وكأنّي أردتُ الاعتذار عن جرمٍ اقترفتُهُ! لذا، وبعد سنواتٍ من التجارب، قرّرتُ أن أتركَ لها مهمّة اختيار ما تجدُه مناسباً لها!
منذ سنوات صدفَ عيدها نهارَ إثنين! كانت قد حجزت مسبقاً لشخصين لتمضية النهار مع جلسة لتدليك الجسم وذلك في منتجع صحّي في بلدة “روزمير” الواقعة شمال مونتريال!
إلّا أنه صدف ذاكَ الصباح أني كنت مضطراً للذهاب إلى مركزعملي الذي كان يقع وقتئذٍ في الضفّة الجنوبية لمونتريال وذلك لتوقيع شيك لأحد المقاولين!
استأذنتها بالتغيب لزمنٍ لا يتجاوز الساعتين! وافقت على مضض. هرولتُ واستقللتُ السيارة وتوجهت مسرعاً نحو مكتبي للذهاب والإياب بأسرع وقتٍ ممكن. في طريق العودة توقفت أمام مخبز پاتيسّري لا غاسكوني La Gascogne والذي كان في ذروة شهرته (للأسف أقفل بعد سنوات من ذلك). كيف بي أُغفلُ استحضار قالبَ كاتو للمناسبة؟ اشتريت قالباً مصنوعاً من الشوكولاتة المغربيّة المقرمشة وطلبت إضافة لوحة صغيرة بيضاء تمّت عليها كتابة عبارة “هابي بيرسدي” بالإضافة الى اسم زوجتي. ما ان دخلتُ بسيارتي كاراج المنزل حتى أخفيت القالب في برّاد صغير موجود هناك.
ناديتُ زوجتي وانطلقنا نحو المنتجع الذي يبعد زهاء نصف ساعة عن المنزل. ما ان وصلنا حتى تسجّلنا وتم تزويد كلٍّ منّا بروب حمام ومنشفة كبيرة أبيضين.
فوجئتُ لدى الدخول بالنظافة المميزة للمكان والعدد الكبير من الروّاد الذين يؤمّونه. كانت الباحة الخارجيّة تتوسّطها بركة سباحة كبيرة، يحيطّ بها زنّار من كراسي التمدّد البلاستيكية المريحة والشبه ممتلئة بالزوّار والذين كانت أشعّة شمس منتصف شهر آب تقوم بتسمير بشرتهم! أما البعض الآخر فكان يدخل الى حمامات السونا المتواجدة في زاوية الباحة اليمنى بينما تطلّ نفس الباحة من الناحية اليسرى على باحة أصغر يتوسّطها حوضُ استحمامٍ ساخن.
بعد تمضية النهار في ذاك المنتجع وانتهائنا من جلسَتَي التدليك، كانت الساعة قد قاربت الخامسة بعد الظهر. اقترحتُ على زوجتي أن أدعوها لتناول وجبة عشاء في مطعمٍ برتغاليّ يُعجبني. مع ان الدعوة راقت لها، إلّا أنها لم تستسغْ فكرة الذهاب الى مطعم لا تعرفه، وفي منطقة من مونتريال لا ترتادها مطلقاً، وهي العليمة والخبيرة بأمور المطاعم ولها تقييمٌ خاص لكلٍّ منها!
كان مطعم “أوكانتينهو” (O’Cantinho) يقع على ناصية شارع “جارّي” عند التقاطع مع “بولفار سان ميشال”. المكان يتميّز بديكور متواضع يذكّر بالبرتغال، من بلاط الأرض المصنوع من “التيرّا كوتا” الى الجدار الجانبي الذي تزيّنه لوحة مرسومة بالألوان على بلاط من السيراميك الأبيض، الى الأثاث الخشبي التقليدي، الى جانب وجود صحن صغير من الزيتون والترمس يُزيّن كل طاولة! وعلى الرغم من وجود المطعم في منطقة سكنية عادية، إلّا انه كان مليئاً بالزبائن على الدوام، وذلك بفضل جودة الطعام التي حافظ عليها أصحاب المطعم الذين امتلكوه منذ عشرات السنوات!
ما ان اركنّا السيارة أمام المطعم حتى بادرتني زوجتي بنظرة استغراب، وكأنها تسألني: إلى أي مكان تأخذني؟
بعد تجاوز الباب الزجاجي الضيّق والمرور عبر رواق يجاور المطبخ على الشمال ويؤدّي الى وسط المطعم، انتابني إحساس بأنّها لم تستذوق المكان! فضّلنا الجلوس على التيرّاس الخارجية التي تطل على شارع “جارّي”. أصرّت النادلة على إجلاسنا على طاولة صغيرة لشخصين تقع في زاوية يمرّ بجانبها النُّدُل لخدمة الزبائن. فضّلتْ زوجتي الجلوس على طاولة فارغة أوسع من الأولى تقع في وسط الحاجز الخارجي للتيرّاس! لدى عدم قبول النادلة بالأمر، طلبت مني زوجتي ان نترك المكان. عندئذٍ تكلّمتُ مع النادلة وأعلمتها أننا، من ناحية، نحتفي بعيد ميلاد زوجتي، ومن ناحية ثانية لن تتسع الطاولة الصغيرة لما سنطلبه من أطباق. في آخر الأمر وافقت على إجلاسنا على الطاولة التي وقع اختيارنا عليها!
وإذ كان روّاد المطعم يقصدونه لتذوق الفواكه البحرية، والأسماك والدجاج المشوي على الطريقة البرتغالية، إلى جانب أطباق أخرى، قمتُ بطلب مجموعة أذكر منها الأخطبوط والصبّيدج (الكلمار)، والقريدس (الجمبري)، الى جانب السلطات. وإذ كان المطعم لا يقدّم إلّا النبيذ البرتغالي، لم يلقَ نبيذ المنزل (House wine) إعجاب زوجتي فما كان مني إلّا ان طلبتُ زجاجة من نوع آخر قامت باقتراحها النادلة. إلّا ان هذه الزجاجة لم تحصل هي الأخرى على الرضى ممّا جعلنا نطلب زجاجة من نوع آخر كانت مقبولة !
بعد الانتهاء من تناول العشاء جاءت النادلة مجدداً تسأل عمّا إذا كنّا نودّ طلب الحلوى. أجبتها بالنفي (ألمْ أُحضِر قالباً الى البيت؟)! ردَّت وقالت أن طبق الحلوى هو تقدمة من المطعم لصاحبة العيد! آنئذٍ قلت لها: “نأخذ قطعة كيك واحدة” (ورجوتها بصوت منخفض ان تضيء شمعة عليها) وهكذا كان، واحتفينا بالعيد، وكنت أرى الدمعة والاحمرار في عيني زوجتي، وكأنّها وجدَت فيّ عيوباً كانت تجهلها طوال السنوات التي تعايشنا فيها !
في طريق العودة، لم نتفوّه بكلمة طوال المسافة. كنت أشعر بأنها حزينة على الرغم من كل ما فعلتُه من أجلها ذاك النهار! كنت أشعر بألمها كلّما تنهّدت، ولم يكن بمقدوري أن أعلمها أنّي خبّأت لها مفاجاة في براد الكراج !
ما ان وصلنا الى البيت حتى نزلتْ من السيّارة وأسرعتْ بالدخول. أطفأتُ المحرّك ونزلت وتوجّهت نحو البراد الصغير. أخرجت علبة القالب ودخلت من باب الكراج وصعدت الدرج الذي يؤدي الى الصالون. تبيّن لي أنها في غرفة النوم. دخلتُ المطبخ وأخرجتُ القالب من علبته وسحبت بضعة شمعات ملوّنة زرعتها في القالب. اشعلتُ الشمعات بعود كبريت وأخذتُ كاميرا التصوير وتقصدتُ أن أحمل القالب باليد اليسرى بينما كنت أحمل الكاميرا باليمنى بشكل تُظهر الصورة القالبَ مع الشموع في الجزء الأسفل تاركاً المنطقة العليا خالية لتظهر هي في أعلاها. صعدتُ الدرج حتى وصلت قرب الباب، وضعتُ إصبعي على زر التقاط الصور وبدأتُ أدخل الغرفة على مهل وأنا أغنّي بصوت مرتفع: “هابّي بيرسدي تو يو، هابّي بورسدي تو يو…” وإذ استدرتُ نحو اليسار لأتوجه الى مصدر الحركة، وجدتها قد انتهت من خلع ملابسها ولم يبقَ عليها إلّا لباس كما خلقتني يا رب! أخذتْ تضحكُ ولم يكن بمقدور يديها أن تُخبيا ما أرادت إخفاءه بينما استمررتُ بالغناء وإصبعي لا يتوقف عن التقاط الصور…
في النهاية أيقنتْ أن عدم طلبي للحلوى في المطعم لم يكن من جانب البخل…
لدى كتابتي “قصّة عود” ظننت أنّي فرغتُ من كتابة الحكاية التي حدثتْ منذ قرابة قرنٍ مضى، وقد حرّك تفاصيلها وجود عودٍ في مونتريال صدفتُه لدى زيارتي للملحّن الأستاذ إميل ديب، في مدينة “تيربون “. إلّا ان وصول رسالة من السيدة “حلوة”، والتي تقيم في ولاية فلوريدا، جعلني أكتب ملحقاً لتلك القصة!
أما الآن، وبعد ان تكشّفت لي معلوماتٌ إضافيّة، كان لا بد من إضافة تلك التفاصيل في ملحقٍ ثانٍ!
كان يوسف فارس لطفي، المتأصّل من بلدة البرجين، في إقليم الخرّوب، قد أمضى قسماً من عمره في المكسيك، وقد جمع ثروة كبيرة قبل أن يعزم على العودة الى بلده الأمّ. وصل لبنان قبل بداية الحرب العالمية الأولى، وكان يصطحب، بالإضافة الى زوجته، ثلاثة أولاد تم إنجابهم في المكسيك: ماري وأنيس وفارس. أمّا بقيّة أولاده، جورجيت وميشال وألبير، فولدوا في لبنان.
تملّك الكثير من الأراضي والبساتين والأملاك موزّعة بغالبيّتها بين سهل الدامور والرميلة واتخذ من المنزل الكبير الذي اشتراه من جدّي يوسف مسكنا له ولعائلته. كان يستحوذ من الليرات الذهبيّة على ما يزيد على عشرين الف قطعة، أما الأموال النقدية فاستودعها في بنك بطرس الخوري في صيدا! إلّا ان اندلاع الحرب العالمية الأولى حمل العثمانيين على الاستيلاء على ممتلكاته الذهبية وممتلكات غيره من أجلِ تغطية الأعباء المالية التي ترتّبت من جراء الحملات الحربية! أمّا بنك بطرس الخوري فقد أعلن إفلاسه بعد فترة وجيزة !
بعد انتصار الحلفاء ودخول الانتداب الفرنسي، غرّته السياسة ودخل ميدانها إذ ربطته علاقة وثيقة مع حبيب باشا السعد، أول رئيس حكومة في لبنان الكبير. خَوْضُ يوسف فارس لطفي عدّة معارك انتخابية جعلَ الديون تتراكم عليه وبالأخص لأن المقاهي في بلدات ك”برجا” وغيرها من بلدات إقليم الخرّوب، كانت تستضيف الزبائن على حسابه وتسجّل المصاريف على دفتر خاص، وتطلب تسديد المبلغ مرّة كل شهر! وإذ ضاقت به الأحوال فترتئذٍ، وعلى الرغم من ان “الست نظيرة جنبلاط”، والتي كانت تلعب دوراً مهماً في سياسة المنطقة ، كانت قد وعدتهُ بتسوية المشكلة، إلّا أنه قام ببيع مساحات كبيرة من الدونمات لتسديد الديون! ولما عاتبته الست نظيرة بسبب تصفيته للأراضي قبل الرجوع إليها، أجابها: “أنا نزعتُ شعرة من شاربيّ وأودعتها للمطالبين إلى أن أسدّد الديون، ولن أخلفَ بذلك مهما كان الثمن!”
سعى يوسف لتزويد أولاده بالعلم في أفضلِ المدارس آنئذٍ وقد برز بينهم ابنه الأصغر ألبير الذي تخرّج بمهنة محامٍ إلّا أنه، لسبب أو لآخر، غادر البلاد وهاجر إلى كندا وذلك في بداية الخمسينات من القرن الماضي! أما ابن يوسف الأوسط، فارس، فقد فاز بشهادة البكالوريا في أواخر العشرينات، وذلك يُعدّ إنجازا مهمّاً زمانئذٍ، بالإضافة إلى أنه كان يحبّ نظم الشعر العربي وقد حضرتُ حفل توقيع أول ديوان له في مونتريال، وذلك بعد ان بلغ من العمر السنة بعد المائة! أما شهادته فكانت قد أهّلته في مطلع شبابه ليتبوّأ منصب رئيس مصلحة الجمارك!
في ظروفٍ ضيقة من الناحية المادية، لم يرِق ليوسف أن يستنجد به عمّي شاهين طالباً مساعدة ماليّة لإتمام مراسم الزواج من ماري، وذلك بعد خطوبة طال أمَدُها ثلاثة عشر عامًا! لذا قرّر في أحد الأيام أن يفسخ خطوبة ابنته ليُزوّجها من شخص ثريّ مقتدر، لا من شابٍ متوسّط الدخل وما زال في بداية حياته، ولم يستطع حتى تلك الساعة من بناء مستقبل مزهر لنفسه! لم يُفكّر، ولو للحظة، أن ذاك الشاب قد يُصبح إنساناً مرموقًا مميّزاً!
وإذ كان يعرف مدى الحب الذي كان يربطُ الخطيبين، كان على يقين بأن الكلام لن يفيد! لذا دخل غرفته ذاك المساء، وفتح درفة الخزانة، ثم بواسطة المفتاح الذي كان يعلقه برقبته فتح الجارور وأخرج منه مسدّسه وتوجه نحو غرفة الجلوس. كانت ابنته تجلس على كنبة وتنظر نحو النافذة. كان شارباه يتراقصان، وحاجباه معقودان، والنار تقدحُ من عينيه. وضع فوهة المسدس في رأسها وقال آمِراً بصوتٍ تتأرجح نبرته من شدّة الغضب: “أتركيهِ الليلة، وليس غداً، وإلّا سأقتلك الآن وسأقتله بعدكِ!”
انهمرت الدموع من عينيها وغلب الحزن على وجهها! في لحظة واحدة رأت الآمال التي عقدت عليها حياتها تختفي وتصبح في جحيم! كانت تعرف أن والدها ما ان يعقُدَ على أمر إلّا ويُنفّذهُ! أحسّت بالإحباط وفقدت القدرة على الكلام وحتى البكاء!
وإذ انحنت عيناها وهما تنظران إلى أرض الغرفة بانكسار، حتى أعادَ تهديدَه لها وبنبرة أعلى! كان عليها ان تختار أهون الشرّين فأومأتْ بالقبول على مضض!
أثار خبر فسخ الخطوبة خضّة كبيرة في البلدة وجوارها، كما خلّف عداءً كبيراً بين عائلتين معروفتين! وفي زمنٍ لم تكن توجد فيه أجهزة الراديو ولا التلفزيونات وحتى الهاتف، كانت فسخة الخطوبة حديث الساعة! والسؤال الكبير الذي لا يجد جواباً: “ما عدا ممّا بدا؟”
أثارت التساؤلات حفيظة فارس الذي كان يداوم في منطقة أبو كمال على الحدود التركيّة. قرّر الانتقام من شاهين، لأنه تسبب بكل هذه المشاكل ، حسب تحليله. لم يأخذ نهار إجازة من العمل، بل استحصل على ثياب كاهن مع بعض المستحضرات للتمويه، وأخفى مسدّساً تحت ثيابه واستأجر سيارة أجرة تقلّه من أبو كمال الى الرميلة. إلّا انه، لحسن حظه وحظ شاهين، لم يكن عمّي في الجوار، وهكذا عاد الى مقره دون ان يُنفّذ المهمة! بعد ذلك، راجع فكره وهمدَ عزمُه على الانتقام!
بعد سنين من تلك الواقعة وبعد ان تزوّج الجميع، وتوفّي زوج ماري، كانت ابنتها عائدة الى البيت وهي ترتدي الزيّ المدرسي. ما ان دخلت الدار حتى فوجئت بزائر في الصالون. قدّمته لابنتها بأنه شاهين القزي. وإذ كانت الطفلة قد سمعت عنه، لم ترد ان تصافحه. جلست بعيدة عنه، وقد أدارت ركبتيها نحو الخارج وادارت كتفيها باتجاهه وكتّفت يديها وهي تنظر اليه وهي تبحلق في وجهه عاقدة حاجبيها! أخذ يحدّثُ الطفلة عن مزايا والدتها وأخلاقها وعظمة شخصيتها…إلّا انها كانت تستمع دون ان تُصغي…
بعد ان غادر الزائر حذّرت والدتها من انها لن تقبل بان تطأ رجلُ شاهين تلك الدار تحت أي ظرفٍ من الظروف…
هل يحق للإعلام التطرّق لمواضيع تطالها المعتقدات الدينية؟
في نقاش يتناول ما حدث في لقاء على الهواء بين الإعلامية رابعة الزيّات مع الشيخ علي الحسين حول موضوع إقامة علاقات جنسيّة من دون زواج أو المساكنة من دون ارتباط شرعي بين شخصين، وجدتُ انه لا بدّ من أن أُبديَ برأيي المتواضع، متجاهلاً ان كثيرين لن يُعجبهم ما سأدلي به! ومع ان ذاك اللقاء بدا أقرب إلى ان يُسمّى بمشادة كلامية بين شخصين منه إلى نقاش حضاري، إلّا أنني سأحاول تناول الموضوع من عدة جوانب:
الإعلام:
هل الإعلام نزيه ؟
في المبدأ يسودُ الاعتقاد ان الإعلام ساميُّ الأهداف وهو فوق الشبهات وبمثابة الدافع المنزَّه الذي يسعى على الدوام الى تصويب أيّ اعوجاج اجتماعي او سياسي او ديني او أخلاقي اوغير ذلك!
في الواقع قلّما نجد فريقاً سياسياً او دينيّاً أو خلافه لا يوجد لديه قسْمٌ إعلاميّ كما قد لا نحظى بالتعرف على إعلامٍ ناجح خالٍ من ارتباطات ماديّة خارجية أو ميول سياسية أو دينية تؤثّر فيه!
كم من الأمثلة لدينا، في بلداننا العربية أم في الكثير من أنحاء العالم، كان الإعلام فيها الدافعَ الأقوى لانتفاضات شعوبها، إلّا ان ما نتج عنها في كثير من الأحيان أدّى إلى أوضاع أسوأ من التي كانت عليه تلك البلدان قبل تلك الثورات!
الإعلام يقاضي الكثيرين إلّا انه يتنصّل من النتائج! إذا نجح تأثيره فالفضل يعود إليه، أمّا في حالة الفشل فذلك يتحمّلُ نتائجهُ من مشى في رِكابه!
في البدء كان الخبرُ ينتقل بواسطة الإشاعة، ومن ثمّ أصبحت الصحافة المطبوعة تتداوله، وبعد ذلك ظهرت أجهزة الراديو والتلفزة إلى أن وصلت وسائل التواصل الاجتماعي التي طغت على كلّ الوسائل، وأضحى الخبر يصل إلى جيب كلّ من يستحوذ جهازاً خليوياً!
الدين المسيحي:
نظرة الى الوراء
في البلدان التي كانت تتّبع المسيحيّة، كان الدين مصدر القوانين وكان الذي يحكم البلاد، ملكاً كان أم امبراطوراً، يعتبرُ نفسه ممثلاً لربّه على هذه البسيطة ويحكم بسيفه دون أن يجرؤ أحدٌ على مخالفة أوامره! ونجدُ الكثير من الإجراءات التعسّفية التي اتُّبعت لقمع أيّة فكرة تخالف المناهج الدينية المتعارف عليها!
فترة ما بعد نشوء الثورات وبداية الأنظمة الديموقراطية
بدأت الأنظمة الجديدة وعلى رأسها الديمقراطيات تسنّ قوانين جديدة وتشريعات قد تختلف عمّا اعتادت على اتّباعه الأنظمة التيولوجيّة.
تمّ اعتماد الزواج المدني وانتفت الحاجة الى زواج كنسيّ في معظم البلدان التي كانت مسيحيّة بغالبيّة سكانها.
الدين الإسلامي
نظرة إلى الماضي البعيد
الدين الإسلامي لدى نزوله أعطى المرأة حقوقًا لم تكن تعرفها في تلك الأزمنة.
إلّا ان المرأة، كانت ولا تزال، تحملُ وِزْرَ أية علاقة تجريها مع رجل لا يُعدّ محرَماً لها، وقد يُؤَدّي بها القصاص إلى حكمٍ بموتٍ همجيّ ومؤلم، كأن يتجمّع حولها القومُ ويرجمونها بالحجارة حتى تلفظ أنفاسها!
أما الرجل فكان قصاصه الموت عندما تثبتُ التهمة عليه!
نظرة إلى الماضي القريب
أصبحت هوّة كبيرة تفصل بين بلدان ما زالت تطبّق ذات الأحكام التي كان يجري تنفيذها في بداية المدّ الإسلامي، كقطع الرأس وبتر الأطراف او الرجم بالحجارة، وبين بلدان أخرى أنزلَت تشريعات أخفّ وطأة وإسوةً بالأحكام التي يتمّ إبرامها في بلدان العالم المختلفة!
من المفارقات ان بعض السُّلُطات أيام الخلافة العثمانية وغيرها تسامحت تجاه قيام دور البغاء وكانت تجبي الضرائب منها، بينما كانت تتشدّد تجاه أية علاقة غير مشرّعة بين شاب وفتاة!
تساؤلات:
هل يجوز ان يُحكمَ على من خطف قلبه الحب بعقاب يجاري ما يلقاه القاتل المجرم؟
إذا كان الزواج المدني بوجود المأذون والشاهدين وُجد لحماية المرأة في حالة الحمل، أمَا فحصُ الحامض النووي يجاري ويزيد على أية شهادة؟
هل من الواجب ملاحقة رجال الإعلام لمجرّد تطرّقهم لمواضيع متعارف عليها لدى بعض الأديان في الوقت الذي تتعارض به مع قوانين البلدان التي تقدّمت علينا في حضاراتها ؟
في الواقع ما زال شرف الرجل يتجلّى في نسوته، عند المسلمين او عند المسيحيين على السواء، وأعدادُ جرائم الشرف لا تُحصى ولا تُعدّ حيث يلجأ الرجل إلى ذبح ابنته او أخته او زوجته أحياناً لمجرد إنتشار إشاعة تطالها!
لدى كتابتي القصّة، أغفلتُ ذكرَ بعض الأمور وذلك خوفاً من الإطالة بالنصّ وتحاشيًا لأن يتملّك المللُ قُرّاءَ الموضوع. إلّا ان رسالةً غير منتظرة وصلتني منذ يومين وجعلتني أُعيدُ النظر في ما كنتُ عزمتُ عليه، وسأخبركم بالمضمون فيما بعد.
لدى تعرّفي بالأستاذ إميل ديب أعلمني أن وجه العود الأصلي نشفَ وتشقّقَ بعد تمضية عقدٍ أو أكثر في الربوع الكنديّة. لذا اضطرّ لتكليف أحد الاختصاصيين بالقيام باستبدال ذاك الوجه الخشبيّ بوجه جديد يتحمّل تغيّرَ درجات الرطوبة في هذه الأصقاع ، مع العلم أن هكذا عمل على العود قد يقلّل من قيمته التاريخية.
وإذ كنت قد أخبرت ابنة عمي دنيا بقصّة العود، رجتني بعد وفاة والدها سنة١٩٩٤ أن أسعى لدى الأستاذ إميل بطلب شراء الآلة، مهما كان الثمن، وذلك لوضعها إلى جانب الألبسة والقبعات الرسمية التي ارتداها عمّي شاهين بالإضافة الى الأوسمة والميداليات التي حصل عليها خلال سنيّ خدمته، وقد تألّق في آواخر تلك الأيام بمركز رئيس الشرطة القضائية! للحقيقة، تلكّأتُ في السعي لتلبية طلبها نظراً لأن تاريخ العود يشهد على الكثير من المواقف التي تسبّبت بخلاف دام عقوداً طوالاً بين عائلتين!
وأعود الى الرسالة التي وصلتني من سيدة اسمها “حلوة”، وهي تُعتبر بالفعل إسماً على مسمّى! هي صديقة للعائلة، وتسكن فلوريدا منذ فترة طويلة، وقد أوردت في النص تفاصيل لم أكن أعرفها! كما أكّدت لي صحّة ما رويتُه في “قصة عود”، وذلك لأنها تعرف العائلتين ملياً، وعلى علمٍ بكلّ ما حصل. ومع انها تجاوزت الآن العقد الثامن من عمرها، إلّا أنها لم تنسَ ما حدث في أيام طفولتها!
في تلك الأيام، كانت والدتها تربطها صداقة متينة بماري، التي كانت تسكن بالجوار مع ابنتها وزوجها في حي البرغوت بمدينة صيدا، في منزل مقابل مستشفى سعدالله الخليل على الطريق التي تربط المدينة بمدينة صور.
وممّا تذكُرُهُ ان ماري حضرت مساء أحد الأيام برفقة أخيها أنيس المعروف بضرب المندل، ويبدو أنه حصل على كتاب يتناولهما الموضوع . وقد تعرفتُ على أنيس في تسعينات القرن الماضي لدى زيارتي لمنزله في مونتريال، وكان يعاني من إعاقة في يده اليمنى أجبرته على ارتداء يد اصطناعية. ذكَرَت “حلوة” في رسالتها أنه تمّت دعوة الجيران وقتئذٍ لحضور جلسة ضرب المندل ثم أغلقوا الأبواب والشبابيك. طلبَ أنيس كوب ماء وقبل ان يبدأ، تمنّى على الجميع المحافظة على السكون وعدم ذكر أي من أسماء الرسل والقديسين. ثم أخذ يُحدّق بوجه الماء بهدوء وهو يردّد ويتمتمُ بصوت منخفض صلوات وعبارات غير مفهومة أوغير مسموعة بوضوح! ومن المنتظر ان يتراءى له حينئذٍ جنّ، ثمّ يقومُ هو بطرح الأسئلة عليه وهو يُجيب! إلّا ان “حلوة” لارتعابها وتديّنها أخذت تُردّد في قلبها اسم المسيح وأسماء قديسين. وانتهى اللقاء دون ان يتمكّن أنيس من استحضار أيّ جِن!
واستطردت الرسالة تُخبر أنه في أحد الأيام تعرّض عمّي شاهين لحادث سيارة. إثر إصابته، شاءت الصُّدفُ أن يتم نقله إلى مستشفى سعدالله الخليل مقابل منزل ماري. حين علِمتْ بالأمر، ارتدت فستانا أنيقاً على جسمها وقطعت الطريق ودخلت المستشفى وسألت عن غرفة المصاب. ما ان وصلت الى جانب سريره وما ان تلاقت نظراتهما حتى انهمرت الدموع من أعينهما وأخذا يبكيان بتلوّع دون ان يستطيعا التوقف! جلست على كرسي بجانبه، إلّا ان البكاء والنحيب طالا دون أن يتمكّن أي منهما التفوّه ولو بكلمة واحدة! بعد اقل من نصف ساعة، انتصبت ماري على رجليها وغادرت الغرفة مودّعة شاهين بنظرة من فوق كتفها!
عرّجت على منزل والدة “حلوة” قبل العودة الى المنزل. ما ان استقبلتها حتى فوجئت بالتورّم الكبير في عينيها. سألتها عن السبب فما كان منها إلّا ان قصّت ما حصل معها وهي تلعن والدها على الموقف الذي اتخذه ومنعها من العيش مع الشاب الذي أحبّتهُ والذي بادلها بنفس المشاعر!
لا أدري ما إذا كانا قد التقيا مجدّداً بعد تلك الحادثة، إلّا انه قيل لي أنه زارها مرّة للاطمئنان عليها!
مرّت السنون ومات شاهين بعد ان فاق في سنّه التسعين، فيما عمّرت ماري الى عمرٍ لا يصل إليه إلّا قلائل من البشر، وفارقت هي الأخرى الحياة ولم يبقَ من شاهدٍ على ذاك الحب إلّا العود القابع شمال مدينة مونتريال، والذي ما أن يُقسّم صاحبه ألحاناً على أوتاره حتى تتردّد أصداء قصة حب من الماضي تفوق في رأيي أسطورة روميو وجولييت… فالذين يختارون العيش في آلامهم هم أقوى من الذين يختارون الانتحار كوسيلة للهروب من واقع مرير!
قد تكون هناك الكثير من القصص المماثلة، إلّا أنّها لا تُبصر النور حتى يأتي من يكتب تفاصيلها!
وبالنهاية أستخلص بالقول: إنّ من لم يُعانِ من الحب، لم يعشْ…