هل اللغة العربيّة الفصحى تحتضر؟

هل اللّغة العربيّة  الفُصحى تحتضر؟ 

حيفي على أُمَمٍ تتغنّى بلغةٍ لا تُحسنُ صياغتها، وتعتبرها أفضل لغات العالم قاطبة ً، دون ان تجد السبيل إلى إنعاشها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة! 

قد نكون آخر جيل تمرّس بلغته الى حدٍّ ما، وحاول الحفاظ عليها قدر المستطاع، إلّا ان الكثيرين منّا لم يُتقنوا آدابها ويُخفقون في كتابتها بالشكل الصحيح! وإذ إنّ كلّ جيلٍ يصبو الى انتظار مجيء الأجيال التي ستليه باعتبار أنها ستفوقه علماً ومعرفة، إلّا أننا نجد ان الأجيال القادمة لا تُبشّر بالخير، وستكون أعجز من جيلنا في براعة كتابة اللغة العربيّة! جيلنا الذي نشأ قبل ظهور التكنولوجيا تلقّن اللغة من أفواه مذيعي نشرات الأخبار الذين كانوا لا يخطئون في قراءاتهم، ومن مطالعة الصحف التي كانت نصوصها سليمة، بينما الأجيال الجديدة همّها غير ذلك وتمزج في أحاديثها جملاً مقتبسة من اللغات الأجنبية وأهمها الإنجليزية! وأودُّ أن أسأل :” من منا يجد أولاده يُتقنون اللغة العربيّة بنفس القدر الذي كنّا نُتقنه لمّا كنّا في أعمارهم؟”

قد تكون اللّغة العربية من أضعف لغات العالم، كون قواعدها من أصعب ما وُجد بين اللغات، وعدد كلماتها حِمْلُهُ ثقيلٌ جدّاً ممّا يجعلُ المعاجم عاجزةً عن استيعابه! فما الفائدة من كثرة عدد كلماتٍ لا نستعملها؟ وعدا عن ذلك أنّنا لا نجد ضمنها مرادفات عربية تُسمّي الأشياء التي نستعملها في أيّامنا الحاضرة!

يقال ان عدد كلمات اللغة العربية يتجاوز ١٢٫٣٠٠٫٠٠٠ كلمةً  بينما إذا أحصينا عدد الكلمات الواردة في المصحف الشريف دون تِكرار فهي ١٤٬٧٢١ كلمة وهذا يعني ان عدد كلمات اللغة العربية يساوي ما يزيد على ٨٣٥ مرة عدد الكلمات الورادة في القرآن الكريم!

إنّ النسبة المئوية بين المتعلمين الذين يجيدون كتابة اللغة العربيّة  قد لا تتجاوز ٥٪؜

منهم، وهذا إخفاق كبير من الواجب وضعُ حدٍ له لدى الفئة التي  لديها القدرة على استيعاب القواعد السليمة!

حسب المعلومات التي وردتني، نجد ان الانسان المثقّف العربي يُجيد استعمال كلمات يصل عددها إلى ألف كلمة، أما إذا كان من كبار الأدباء فقد يصل إلى ألفي كلمة! وإذا كان المغزى من الكتابة هو إيصال الفكرة إلى الذين يطالعون النص، فما الفائدة من اللجوء الى كلمات قليلة التداول ولا يفقهها أحد؟

منذ سنوات عِدّة كنت أرافق صديقي الإعلامي ڤكتور دياب الى بعض منتديات ثقافيّة. في أحداها كان مشاركون، عددهم لا يتجاوز الثمانية، يتسابقون على إلقاء أشعارٍ من نظمهم، وكان يتم بثُّ اللقاء مباشرة على الفيسبوك. ومع أنّي لا أُعدُّ نفسي، لا من قريب ولا من بعيد، من سلالة سيبويه، إلّا أنه يؤلمني الإصغاء الى نصوص مليئة بالأخطاء التشكيليّة واللغويّة! وكنت في كلّ مرة أردّدُ على مسامعهم أن لا ضير في اللجوء إلى أناس ينقّحون النصوص قبل تلاوتها، وبالأخص لانها تُقرأ ببثٍ مباشر على الفيسبوك!

في إحدى المناسبات ، وإذ تأخّر البدء في البرنامج، طلب مني أحد المشاركين تنقيحَ نصّه! جلستُ جنبه وبدأتُ أراجعُ النصّ وأصحّح بعض التشكيلات! وإذ بي أقعُ على كلمة “الهِزَبْر” وقد فاتني معناها! فسألته:” ما هو الهزبر؟ “بَحْلقَ نحوي بعينيه الواسعتين وانتفض ثم انتشل ورقة القصيدة من بين يديّ، وصاح مزمجراً :” تُصحِّح لي قصيدتي وانت لا تعلم من هو الهزبر؟ الهِزبر هو الأسد!” تذكّرت حينئذٍ ان تلك الكلمة وردت أمامي في الصفوف الابتدائية ووجدتها مع اترابي مثيرة للضحك أكثر من أنها تفي بالواجب اللغوي! وقد ازددتُ قناعة منذ ذاك الوقت ان الكثيرين من الذين يكتبون النصوص الأدبيّة يعتبرون ان استعمال كلمات صعبة غيرمستعملة، وتتوجّب اللجوء الى المعاجم، هو قِمّة في الأدب، بينما رأيي الشخصي يجعلني أمتعض كلّما وجدتُ نصّاً يفوق تعداد كلماته المشكَّلة بشكلٍ خاطئ تعداد كلماته التي تحتاج اللجوء الى المنجد لفهم معانيها!

بشير القزّي 

قياسي

تمنياتي بعيد الفطر لهذه السنة

صورة

لِمَ أنا؟

لِمَ أنا؟

منذ قرابةِ أكثر من عقدٍ مضى، قرّرتُ زيادةَ قيمة المبلغ الذي تتقاضاه عائلتي في حال وفاتي من شركة التأمين، وذلك ان المبلغ الذي كان مُتّفقاً عليه ضمنَ وثيقة التأمين الأساسية بدا ضعيفاً بمعيارالأيام المتقدّمة! طلَبَتْ مني الشركة إجراء بعضِ الفحوصات الطبية تحت إشرافها، وهكذا كان! لدى صدور النتائج، فوجئتُ بان الشركة أرسلت لى نتائج الفحوصات التي أُجْرِيَت مرفقةً برسالة تقول فيها أنها ترفض رفع قيمة مبلغ التأمين ما لم أقم بإجراء فحوصات طبيّة إضافيّة تحت إشراف طبيب العائلة!

قمتُ بزيارة الطبيب الذي أقصده منذ مدة لمتابعة الإشراف على صحتي عند اللزوم وعرضتُ عليه النتائج التي وصلتني مع رسالة الرفض! استغربَ ذاك الرفض في بادئ الأمر ثمّ قام بتحويلي على عددٍ من الأخصّائيين منهم طبيب المسالك البوليُة وطبيب المعدة والجهاز الهضمي وطبيب القلب… كما طلب مني إجراء فحوصات إضافية للدم.

بعد أن أخذت مواعيد مختلفة لدى الأطباء قمتُ بزيارة كلٍّ منهم حسب التواريخ المحددة. أمّا لدى زيارتي لطبيب القلب فاكتشفَ لدى الفحص بالسمّاعة الطبّيّة أن لديّ صفرة على القلب ممّا يعني ان لديّ مشكلة في الصمّام الأبهر (الصمّام الأورتي) ممّا يتطلّب إجراء عمليّة جراحيّة لتغييره بصمّام اصطناعي. وقد يعود ذلك الى عامل وراثي! وطلبَ مني ان أخفف من أي نشاط رياضي. طلب مني إجراء فحوصات إضافيّة للتأكّد، وكان منها اختبار الإجهاد، والتصوير تحت الاختبار النووي في حالة الركود أو تحت الإجهاد، إلّا انه لم يظهر أي دليل على الإصابة! أما لمّا قمتُ بتصوير الصدى تبيّن ضيقُ المجرى الذي بات قريباً من الحدّ الأدنى المسموح به، قال الطبيب أن عليّ إجراء عملية قلب مفتوح في غضون أقل من سنة! صُعقتُ بالخبر الذي لم أكن انتظره في ذاك العمر!

بعد ستّة أشهر قمتُ بتصويرٍ ثانٍ للصدى وتبيّن ان ضيق مجرى الصمّام قد نزل تحت المستوى المسموح به. وإذ كنت أعدُّ العدة للسفر لتمضية أعياد الميلاد وراس السنة في دُبي لدى ابنتي التي كانت تعمل هناك، رفضَ الطبيب السماح لي بالسفر قبل القيام بفحوصات إضافية، وهي ضرورية ومن الموجب إجراؤها قبل القيام بالعملية لدى عودتي من السفر!

في يوم تلى فحوصات الدم التي تمّ إجراؤها، تلقّيت اتصالاً من مكتب طبيب “الأنكولوجي” أي المختص بالأمراض الخبيثة! فوجئتُ في بادئ الأمر وبادرتُ بأخذِ موعدٍ معه على عجل! 

دخلتُ في البدء إلى مكتب الطبيب المساعد، وكانت زوجتي ترافقني. أعلمني بأني مصاب بمرض “المايلوما المتعددة”، وهو أحدُ أنواع أمراض السرطان القليلة الوجود، وهو يًشخَّص لدى التأكّد من وجود زيادة ملحوظة في بروتينات الدم، ممّا يؤدّي لاحقاً الى تآكل في عظام الجسم… ثمّ استطرد قائلا، وكأنُه أراد أن يُطمئنني على طريقته، ويُخفّف من ارتيابي:”لا تخفْ! ان الذين يُصابون بهذا المرض يعيشون، بعد التشخيص، من ثلاث الى سبع سنوات!”

بعدئذٍ دخلتُ مكتب الطبيب المختص وشعورٌ يتملّكني: “لِمَ أنا؟ هل من الممكن ان أُصابَ بمرضين خطيرين دفعة واحدة؟” تفحّصتُ شكلَ الطبيبُ، كان يوازيني طولاً، خفيف الشعر الأشقر، أزرق العينين، أبيض البشرة، شاحب الوجه ونحيل الجسم! همستُ في أذنِ زوجتي: “ألا يبدو هو أكثر مرضاً مني؟”

طمأنني الطبيب بأنه بإمكاني إجراء عمليّة القلب وما أن أُكمِلَ فترة النقاهة، حتى يكون بإمكاني العودة الى عيادته لتلقّي العلاج اللازم!

سافرتُ برفقة زوجتي إلى دُبي وعُدنا بعد الأعياد، وكان تسجيل صوتي على رقم هاتف البيت ينتظرني للاتصال بالطبيب الجرّاح!

لدى الاجتماع بالطبيب تمّ تحديد موعد العمليّة. وفي الليلة التي سبقت موعد العمليّة تمّ إدخالي للمستشفى وكان أفرادُ عائلتي الصغيرة يرافقونني! في صباح اليوم التالي، وبعد إدخالي في عالم الغيبوبة من تحت تأثير البنج، تمّ إجراء العمليّة وذلك قد يكون استغرق ساعات طوال!

لا بدّ من الذِّكر انّي عشتُ اياماً، بعد تلك العمليّة، لا أصدّق أنها مزيّفة على الرغم من نكرانِ من كان حولي لوقوعها ! وكأنّي بارحتُ مكان إقامتي وسافرتُ الى أمكنة بعيدة… أمضيتُ ثلاثة أسابيع في المستشفى إلى ان انتقلتُ الى البيت لتكملة المعافاة!

وإذ بدأتُ باستعادة قواي ونشاطي بعد شهرين أو أكثر، انتابني وجعٌ في ظهري، كان يزدادُ ألمُهُ يوماً بعد يوم، ولم تكن المسكّنات التي تمّ وصفها لي قادرة على تخفيف الأوجاع التي كانت تؤرقُ نومي وتمنع عنّي راحتي!

بعد معاناةٍ فاقت كلّ احتمال، دخلتُ مجدداً الى المستشفى حيث تبيّن أني مصاب بكسور في بضعةِ خرزات من سلسلة الظهر. وتبيّن أيضاً ان ذلك يعود الى إصابتي بمرض “المايلوما المتعدّدة”!

طوال فترة اقامتي في المستشفى كنت مستلقياً على ظهري، انظرُ الى سقف الغرفة وأفكاري تجوب آفاقاً لم تصلها من قبل! كنت أتساءل:” هل نهايتي قد قربَ ميعادها؟” مع اني كنت على يقين من أن كثيرين يعيشون عشرات السنين وهم على فراش الموت، بينما يموت غيرهم بلحظات وهم في تمام الصحة والعافية!

كنت أنظر إلى العلى وأُسائلُ ربّي: “انتَ من أرسلتَ بي الى هذه الدنيا، وقد زوّدتني بمُهمة، وقد قمتُ بإنجاز بعضٍ منها، إنما لم أتمكن من تكملة كلّ ما أتيتُ من أجلهِ! إذا أردتَ ان تُنهيَ ايّامي، فهذا شأنكَ وانت القادر القدير! إنما، للأسف، لن أتمكّن من إتمامِ كلّ ما طلبتهُ مني!”

لم تتأخّر ابنتي بالمجيء من دُبي كي تكون إلى جانبي أثناء تلك الأوقات العصيبة! وإذ كانت قد تعرّفتْ في تلك البلاد على شابٍ من أصول هنديّة، اسمه “مانجو”،لاقى شهرة واسعة بمعالجته لأشخاص يمرّون بظروف صعبة، وذلك عن طريق التكلّم وإيّاهم ومحادثتهم، أرادت أن تجمعني به بواسطة مكالمة هاتفيّة. اتصلتْ به وسلمتني الهاتف وخرجتْ من الغرفة! تكلّمتُ معه قرابة الساعة وقد سألني الكثير من الأسئلة كي يتعرّف على طريقة معالجتي للمصاعب. بعد الانتهاء من المخابرة، تكلّم “مانجو” مع ابنتي قائلاً: “والدكِ سيُشفى لا محالة، ولديه القدرة على مقاومة المرض!”

وإذ شفيتُ من معاناتي، وإذ كان “مانجو” يُؤدّي وصلةً كوميديّة على أحد المسارح في دُبي، وقع فجأة على المسرح جثّة هامدة، وكان في بداية الثلاثينات من العمر!

بشير القزّي 

قياسي

ألا نَتَّعِظ؟

ألا نَتَّعِظ؟

لاقى عشرات الآلاف من المواطنين حتفهم نتيجة الزلزال المدمّر الذي ضرب مناطق شاسعة من شمال سوريا وجنوب تركيا، كما تسبّب بتشريد عشرات الملايين من العائلات بعد ان فقدوا مساكنهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم! وفي الوقت الذي أصبح فيه الذين نجوا من الموت، فوق الأرض المدمَّرة، ينتظرون ما يصلهم من الإعانات في القوت والأغطية والخيم للاستمرار في العيش، نجد ان كثيرين ما زالوا تحت الأنقاض، بدون ماء ولا تدفئة، ينتظرون ان تصل لهم يدُ أحد المخلّصين قبل ان يلفظوا أنفاسهم الأخيرة!

أكثر ما آلمني إثرَ هذه الفاجعة هو بعض التعليقات التي قرأتها على صفحات التواصل الاجتماعي ، والتي وإن كانت في ظاهرها تدعو الى مدِّ يدِ العون الى المحتاجين، إلّا انها لا تُخفي بصمات كاتبها، وتدلّ على تفاصيل هويّته، وعلى الخط الضيّق الذي يلتزمه!

وإذ أسمعُ عن صراعات دمويّة ما زالت مستعرة على الأرض التي تعرّضت للكارثة، تنتابُ فكري أسئلةٌ كثيرة حول ذلك، وأسردها فيما يلي:

  • هل أصابَ الزلزالُ وطناً واحداً دون ان يعبرَ الحدود لتدمير دولةٍ أخرى؟
  • هل اقتصرَ تدميره على ديانة محدّدة؟
  • هل نجا أصحابُ طائفةٍ معيّنة من آثاره؟
  • هل نجا مصابون بترداد صلاة معيّنة؟
  • هل حيّد الزلزال عن أفراد عُرقٍ معيّن؟
  • هل لم يساوِ القتلُ بين الفقراء والأغنياء؟
  • ·      هل ميّزَ بين المتعلّمين والأميّين؟
  • هل فرّق بين المعمّرين والأطفال ؟
  • أو بين الأبرار والأشرار؟
  • أو بين أصحاب الجمال وأصحاب القباحة؟… والكثير من الأسئلة المماثلة!

إن الذي حصل كارثيٌّ بامتياز ولا يجوز ان نُفكّر بأنه وُجدَ للاقتصاص من أحفادِ من كانوا سبباً في تشريد أو قتل أجدادنا!

إنما ما يُثيرُ حافظتي اليوم هو أني نشأت في صِغري على التخيّل ان الدول الكبرى هي صاحبة مبادئ وقِيَم وقوانين، وقد أنشِئت لحماية الضعيف وإحقاق الحق والدفاع عن المظلوم ومساعدة المحتاج والفقير! إلّا ان الواقع يجعلني أتردّد في تفكيري وبدأتُ أقتنع بأنّ الواقع هو غير المُعلن عنه وقد تكون بعضُ تلك الدول قويةً في بطشها وسلاحها وبعيدةً كل البعد عن تحقيق الديموقراطية والمساواة بين أبناء البشر! 

بشير القزّي 

قياسي

أوَ ما نتَّقي؟

أوَ ما نتّقي؟

في خِضمِّ الكوارث الطبيعية المتتالية التي تحلُّ بشعوبنا بين الحين والآخر، نقفُ مكتوفي الأيدي لِقلّة دِرايتنا بالأمور المستجدّة، وانعدام معرفتنا بأسرار نشأة تلك الكوارث، وضعف قدراتنا لمواجهة سطوتها وجبروتها! كلّ العلوم التي تمّ اكتشافها على مدى العصور ما زالت عاجزة عن التنبّؤ بما سيحصل!

ما أصعبَ أن يأويَ المرء إلى فراشه في بلاد الغرب، والأرقُ الممزوج بالألم يمنع جفنيه من الإنغلاق، بعد ان سمعَ بأخبار الفاجعة التي حلّت بالموطن الذي تأصّل منه! 

أعداد القتلى لا تُحصى ولا تُعدّ! مع كلّ ضحيّة رواية كانت قد بدأت… إلّا أن الفاجعة جعلت منها قصّةً مبتورةً وقد انتهى سردها دون أن تتسلسل أحداثها بشكلٍ طبيعي! تتركُ وراءها جراحاً لا تلتئم مهما مرّت عليها الأزمنة، وسيبقى ذكرها عالقاً في ضمير التاريخ كواحدة من أسوأ الكوارث التي حلّت بالبشريّة!

إنّ تعداد أنواع الفواجع كبيرٌ جداً وإن تفاوتت قدراتها واختلفت أحجام الرقع التي تطالها بسَطوتِها وجبروتها! فمن الإعصارات، الى الزوابع، الى الهوائج، الى الطوفانات، آلى الفيضانات، الى البراكين، إلى الحرائق، الى الجفاف ، وإلى الزلازل وعدد كبير آخر من أسماء كوارث تحلّ بالبشرية ولا نقوى على التصدّي لها! أضف الى ذلك الجوائح والامراض التي تفتك بالشعوب دون تمييز…

إلّا ان أخطر ما يحل بالبشر هو ذاك الجشع المتأصّل في نفوس شعوبنا وهو المسؤول عن العدد الأكبر من الضحايا على مرّ العصور! كم نجد من الأفراد يسعون حتى أخر رمق في حياتهم إلى تحصيل المزيد من متاع هذه الدنيا، رغم أنهم يعرفون أنهم زائلون؟ من تمكّن من أن يحمل معه حبة رمل في رحيله الأخير؟ كلّ من استبدّ وقاتل واستظلم الشعوب واستولى على الأراضي والممتلكات لم يحمل معه مقدار طول ذراعيه من تلك الأراضي، لا بل طُمِر جسده بالتراب بمقدار طول ذراعيه! الجسدُ زائلٌ لا محالة والأرض باقية مهما اهتزّت!

نعلّل  المآسي التي نتسبّب بها بالغيرة على الوطن، أو الغيرة على الدين، أو الغيرة على الأصول والأعراق… إلّا ان كل ذلك زائف والكلّ سيفنى مهما تجبّر!

في نهاية هذه الكلمات نسأل الله ان يُنجّينا من شرّ ما فينا، ويساعدنا على الترؤّف بمن كان من حولنا!

بشير القزّي 

قياسي

عام جديد

صورة

قصّة ثانية لتسجيل أغنية في الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٦٥ 

قصّة ثانية لتسجيل أغنية في الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٦٥ 

في مقال سابق رويت تفاصيل ما حدث في ستوديو الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٥٨ وما حال دون تسجيل أغنية ” أمسيات” والتي كانت كلماتها من نظم الشاعر جورج غريّب! أمّا السبب الرئيسي لإيقاف التسجيل فكان معزوّاً الى تعنّت المدير الجديد للإذاعة، وقلّة درايته بالأمور اللغوية، وهو الذي حصل على مركزه بناءً على قاعدة ٦ x ٦ مكرّر! إثر ذلك، ترك الأستاذ إميل ديب الإذاعة! أما المدير الجديد فلم يدم طويلاً في وظيفته وقد تمّت إعادة حليم الرومي الى المنصب، ومن ثمّ توالى غيرُه على نفس المركز، ومن ضمنهم المايسترو توفيق الباشا!

بعد آن صفت  الأجواء عاد الأستاذ إميل الى الإذاعة وكان عليه أن يُسجّل أغنيتن جديدتين من ألحانه كلّ شهر. وكان يدور على الشعراء لانتقاء أفضل الكتابات المتوافرة لتلحينها وتسجيلها في استوديوهات الإذاعة!

سنة ١٩٦٥ انتقى الأستاذ ديب قصيدة معدّة لتكون نشيداً للأطفال من نظم الشاعر فيكتور البستاني تحمل عنوان “قطف العنب”:

قَطف العنب

أيُّها الكَرَّامُ هَيَّا      نَقْطِفُ اليَومَ العِنَبْ

                      نُرسِلُ الشَدْوَ شَجِيًّا      نَمْلَأُ الدُنْيَا طَرَبْ

                                          -١-

        هُوّ ذَا الكَرْمُ عَلى سَفْحِ الجَبَلْ      يَتَدلَّى فيهِ عُنْقودُ الذَهبْ

           أبْيَضٌ أَوْ أَشْقَرٌ مِثْلَ العَسَلْ     أَصْفَرٌ يا حُسْنَهُ مِثْلَ اللَّهَبْ

يَبْسِمُ الفَجْرُ بِثَغْرِهْ

والنَّدى دُرٌّ عَلَيْهِ

كَمْ تَغَنَّيْنا بِخَمْرِهْ

وَهَفا القَلْبُ إلَيْهِ

-٢-

إِسْرَحوا في ظِلِّ هاتِيكَ الدَّوالي         واقْطِفوا العُنْقودَ كَالدُّرِّ يُلالي

       وتَغَنَّوا بِالعَتابا وَالمَوالي          يَرْقُصِ السَّفْحُ  وَتَهْتَزِّ الأعالي

وَإِذا جاءَ المَسَاءْ

وضِيا الشَّمْسِ انحَجَبْ

إملَأوا الدُّنْيا غِناءْ

حَبَّذا قَطْفُ العِنَبْ

                             فيكتور البستاني     

قام الأستاذ إميل بكتابة الألحان، ومن ثمَّ  بإعداد وتدريب الفرقة الموسيقيّة والجوقة المنتقاة لغناء الأغنية حتى يصبح النتاج على أفضل ما يكون! 

وما ان حان الوقت للتسجيل، حتى كان كلّ شيء على أتم جهوزية للأداء على أفضل وجه. بدأ التسجيل في الاستوديو بعد ان تم إغلاق الباب وتحت نظر مراقبين يتابعونه من وراء زجاج عازل للصوت!

ما أن وصل الغناء الى قرابة ثلثي النشيد حتى تمّ إشعال الضوء الأحمر، وبما معناه: “أوقفوا التسجيل!”

توقّفَ كلّ شيء وفُتحَ الباب ودخلَ أحدُ المراقبين. كان طويل القامة، معتدل العمر، يفرد شعره من اليسار الى اليمين ليُخفيَ صلعة في قمة رأسه! قال: “هناك خطأٌ لُغويٌّ فادح!  “يرْقص” فعل مضارع ويجب رفعه لا كسرهُ كما ورد في الأغنية!”

احتدم النقاش وحاول الأستاذ إميل شرح السبب الذي سبّب كسر الفعل، إلّا لم تكن توجد أية فائدة، لأن جميع أعضاء الفريق المراقب كانوا على موقفٍ واحد: يجب رفع الفعل المضارع!

بعد أن ارتفعت الأصوات، تمّ استدعاء الشاعر مصطفى محمود (وهو من مواليد بلدة بعاصير في منطقة إقليم الخرّوب من جبل لبنان) والذي كان يُعتبرُ مرجعاً لُغويّاً في أروقة الإذاعة! كان طويل القامة ، ذا مقدّمة رأس تتسع نحو الوراء! بعد آن اضطلع على سبب النقاش، أفتى ان “يرقص” هو فعل مضارع ويجب ان يُرفع!

عندئذٍ تدخّل الأستاذ إميل قائلاً: “في اللغة العربية فعلُ الأمر يأتي مجزوماً وجوابه يجب ان يكون مجزوماً أيضًا! هل من اعتراض على ذلك؟” 

وافق الجميع على هذه القاعدة! بعدئذٍ قال: في اللغة العربية ايضآ لا يجوز أن يلتقي ساكنان! “فيرقص” من المفترض ان يكون ساكناً، و”السفح” بدايته ساكنة، لذا لا مفرّ من كسر “يرقص”.

جمُدَ الجميعُ تجاه تلك القاعدة اللغوية التي يبدو أنهم أغفلوها على مرّ الزمن، وتعجّبوا ضِمنياً من ان الأستاذ إميل يفوقهم ضلاعةً في لغة الضاد! حدّق الأستاذ مصطفى في عيني الأستاذ إميل وقال: “أو تظنّ ان هذا هو الصحيح؟” أجابه الأستاذ إميل: “نعم! بدون أي تردد!” قال الأستاذ مصطفى:” سأخرج للاطلاع على مراجعي اللغوية وأعود أليكم!” وخرج ولم يعد!

تمّ إنهاء التسجيل بالصورة التي ارتآها الأستاذ إميل دون أي اعتراض لاحق وكانت أغنية ناجحة! حاولتُ الوصول الى الاستماع اليها إلّا ان الضياع الذي حصل ابّان الاحداث التي بدأت سنة ١٩٧٥ حال دون ذلك! سأحاول مجدداً البحث عنها وأطلب مساعدة الجميع للوصول الى ذاك التسجيل!

قياسي

شمعة عيد ميلاد

شمعة عيد ميلاد

ولا تَفرَحَنَّ بِشَمْعةٍ تُطْفِئْنَها         إنَّها أيّامٌ وَلَّتْ، ولنْ تعودَ

  بشير القزّي                                 ١٣ كانون أوّل ٢٠٢٢

قياسي

قصّة تسجيل أغنية في الإذاعة اللبنانيّة سنة ١٩٥٨

قصّة تسجيل أغنية في الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٥٨ 

في مطلع عمري وإذ كنت على مقاعد الدراسة ، كانت العادة أن يلُجَّ الأهلُ على أولادهم للسعي إلى التحصيل العلمي ونيل الشهادات، لأنّ الفَلَاحَ مضمونٌ لخرّيجي الجامعات! والكفاءة تنمو أيضاً مع سنيّ الخبرة وتؤهّل أصحابها لاعتلاء المناصب المهمّة التي تعود بمردود مهمّ على الذين يتبوأونها!

إلّا أن الشهادات وسني الخبرة، في بلدانٍ كبلدنا لبنان، لم تكن كافية للحصول على المركز، ما لم تكن مقرونة بما نُسمّيه “الواسطة”، وهي الدعم الذي يؤمّنه أحد أصحاب النفوذ للمُتقدم، أكان الداعمُ سياسيّ الارتباط أم إداريّ السلطة!

قد نجد العديد من هذه الحوافز المؤهِّلة موجودة في الكثير من الأقطار، إلّا أن ما يتميّز به لبنان يفوق بأهمّيته كلّ الشهادات والخبرات، ألا وهو شهادة الانتماء الطائفي الذي يتقارن مع هويّة الفرد، والذي تتقدّم أولويّتُه على مجمل الكفاءات المطلوبة! والانتماء الطائفي لا يعني الالتزام الديني، وقد يكون الانسان بعيداً عن دينه، إلّا ان تصنيف دينه على هويته يحمي حقوقه (وقد يضرّ بها أحياناً).

في الماضي كان الانتقاء الطائفي يقتصر على عدًّة مراكز سلطويّة، إلّا ان الزمن لعب دوراً في توسيع النطاق على مجمل المراكز وحال دون إعطاء الأفضلية لذوي الكفاءة، وأصبح الانتقاءُ يعتمد على المذهب الديني المُسجّل على الهويّة الرسميّة!

بعد ما سُمِّيَ بثورة ١٩٥٨ بدأ تطبيق  قاعدة ٦ x ٦ مُكرّر على المراكز الحكومية ، وذلك بإناطة كلّ وظيفة تابعة للدولة بمذهب ديني معيّن! بين هذه التعيينات تمّ إنهاء عقد مدير الإذاعة اللبنانيّة، الذي كان في عُهدة حليم الرومي ، وتمّ تعيين بديلٍ له مسجّل حسب السجلات الرسمية تحت المذهب الديني المطلوب!

في تلك الأيام، كان الأستاذ إميل ديب أحد الملحّنين المُعتمدين في الإذاعة اللبنانية، وكان يواظب على إنتاج الأغاني والألحان بشكلٍ منتظم! في يومٍ من الأيام، كان الأستاذ ديب متواجداً في الاستوديو يُشرفُ على تسجيل أغنيةٍ من ألحانه ومن كلمات الشاعر الداموري جورج غريّب، وكانت تُنشِدها فتاة تتمتّع بصوتٍ أخّاذ، الى جانب احتفاظها بمظهر متكامل وجميل، وقد وُلدت في البرازيل من أبوين من أصول لبنانية ! لمَحَ الأستاذ ديب أن الضوءَ الأحمر تمّت إضاءته، وذلك يعني الطلب من الإدارة التوقّف عن التسجيل! وإذ كان التسجيل وصل الى منتصف الأغنية، سأل: “هل نُكمل التسجيل ونتوقف بعد ذلك؟” كانت الإجابة بالطلب بالتوقّف الفوري عن تكملة التسجيل! تعجّب الأستاذ إميل ديب من هذه البادرة المفاجئة ، وقد كانت القطعة قد لاقت موافقة أعضاء اللجنة المشرفة كافة، حتى ان أحدهم كتب عبارة إعجاب بيده: “فوق المستوى!”

دخل الأستاذ إميل مكتب مدير الإذاعة الجديد، وكانت المرّة الأولى التي يلتقيه بها! كان أسمر السحنة، معتدل البنية، أسود الشعر، يُحدّق بعينيّ الذي يودُّ أن يُبسط سيطرته على مركزٍ استلمه لتوِّهِ! كان الأستاذ عبد الجليل وهبه، وهو شاعر معروف، جالساً على إحدى الكنبات الجلدية السوداء مقابل المكتب الخشبي الذي يجلس وراءه المدير الجديد، بينما تُغطّي الحائط وراءه مكتبة من نفس اللون الخشبي، وتحوي العديد من كتب الدواوين واسطوانات التسجيل.

وإذ كان يعقدُ حاجبيه، سأل المدير الجديد بنبرةِ السائل وهو يُوجّه كلامه إلى الأستاذ إميل: “هل أنت من كتب الكلمات ؟” أجابه الأستاذ إميل:” لا! أنا من قام بكتابة اللحن، أمّا من كتب الكلمات فهو الأستاذ جورج غريّب!” قال له المدير: أعطني الكلمات!” وإذ كان نصّ الكلمات بيده، قام بتسليمه الورقة. وكانت الأغنية كالتالي:

أمسيات

سكراتٌ للمُحالِ     ساهراتٌ في خيالي

علّلتني بالأماني      في مجالاتِ الجمالِ

إنّها في روضِ حبّي        أمسياتٌ للظلالِ

دِنُّها من غير خمرٍ       وأنا عفُّ السؤالِ

فليكن يا دهرُ سجنٌ     وقيودٌ وليالي     

غامت الرؤيا بعيني     عند أعطافِ الزوالِ

إنّني أحببتُ وهماً        هامَ في دنيا الخيالِ

لا تلمني يا زماني           ففؤادي في اشتعالِ

يا حبيبي لا تدعني          أبتني فوق الرمالِ

الأستاذ جورج غريّب

بصوتٍ خشبي، وبإلقاءٍ بعيدٍ عن فنّ قراءة الشعر، أخذ المدير يقرأ كلمات الأبيات الثلاثة الأولى من القصيدة، ثمّ عقّب مستهزئاً: “أهذا يُعدُّ شعراً ؟” 

أجابه الأستاذ إميل: إسمح لي يا أستاذيَ الكريم أن أُعيدَ قراءة النص، وأخذ يقرأهُ بحسب أصول قراءة الشعر، وبدا النصُّ جميلاً وذا رونق بديع! 

بعد قراءة بضعة أبيات، قاطع المدير الأستاذ إميل سائلاً: “أهكذا يُقرأُ النصّ؟” أجابه الأستاذ إميل قائلاً: نعم! وقد ذكّرتَني يا سعادة المدير بما حدث في إحدى قرى الجبل، واسترسل قائلاً:

بعد ان أوفد والدان ابنهما الى الخارج بقصد التحصيل العلمي للتخرّج بشهادات عالية، وصلت برقيّة من الابن. قرأها الوالد، ثمَّ استشاط غضباً وتوجّه نحو زوجته سائلاً: “أيُرسلُ لنا ابننا أوامرَ بعد أن زوّدناه بمدّخراتنا كافة وقمنا ببيع البقرة الحلوب كي نؤمّن له مصاريف دراسته في الخارج؟” أجابته زوجته: “ماذا قال لك”؟ قال بصوتٍ آمر : “أبي… أرسل دراهم!” طلبت منه قراءة البرقيّة، الّا ان الزوج قال:” أنت لا تُحسنين القراءة مثلي!”

بعد فترة قصيرة من ذلك وبعد ان لاحظت الغيظ الذي ألمّ بزوجها، رضيَ الزوج بتسليمها البرقيّة، وقامت بقراءتها أمامه بصوت دلوع ولطيف: أب—ي! أرس—-ل داراه—م

أجابها وقد انفرجت اساريره:” لمَ لم يكتب هكذا في برقيّته منذ البداية؟”

في تلك اللحظة، وإذ كان الأستاذ عبد الجليل وهبه واقفاً أمام مقعده، أخذ يقَهقه بصوتٍ عالٍ وارتمى على الكنبة من كثرة الضحك!

بعد ذلك توجّه الأستاذ إميل نحو المدير وقال له: بعد كلّ هذه الجهود سألغي تسجيل الأغنية وسأتوقف عن تسجيل أية أغنية لاحقاً!

خرج الأستاذ إميل ديب من المكتب والمدير يناديه للعودة…

(وللقصّةِ تكملة)

بشير القزّي 

قياسي