معايدة بمناسبة عيد الفطر

IMG_2999

فيما يؤلمني ما يحدث في شرقنا الحبيب من مجازر وانتهاكات وحوادث مؤلمة، تعود الى مخيّلتي كلمات المتنبي “عيدٌ بأيّة حالٍ عُدْت يا عيدُ؟” واطلب من المولى ان يعيد هذه الذكرى على كل فردٍ وعائلته باليمن والخير والبركات وان يوقف أِهراق الدماء ويعيد الصفاء للقلوب المعكّرة ويعيد السلام الى ارضٍ طاهرة .
بكل محبة
بشير القزّي

قياسي

قصص قَص شعر

IMG_3078

خلال ايام طفولتي كنت أقصد دكّان الحلاق بانتظام وكانت المدة التي تفصل بين قصّتي شعر لا تزيد على أسبوعين. ونظراً لصغر سني وقامتي الصغيرة في ذاك الوقت، كان الحلاق يجلسني على لوحةٍ خشبيّة يُركّزها على ذراعي المقعد. وبعد ان يلف فوطة الحلاقة البيضاء حول عنقي كان راسي يصبح بالارتفاع المطلوب. كلفة قصة الشعر كانت ليرة واحدة في بيروت بينما نصف ليرة عند “ابن الأعمى” في بلدة الدامور والذي لم يكن محلّه يبعد كثيراً عن منزل جدّتي!

أما الكبار فكانوا يدفعون للحلّاق مبلغاً شهرياً يغطّي كلفة قَص الشعر للشهر كله كما وحلاقة الذقن التي تستعمل فيها الأدوات التقليدية من فرشاة مصنوعة من وبر حيواني وطاسة من الالمنيوم لرغي الصابون وموسى حادة يتمّ سنّها على سير جلدي بحركة فنية بحيث يشدّ الحلاق طرف القشاط بيده اليسرى بينما يمسّد الشفرة على الجلد من ناحية ثم من أخرى. اما اذا ما شطب بشرة احد الزبائن بالخطأ وسال القليل من الدم فكان يوقف السيلان باستعمال قلم شبّة! اما في أيامنا هذه فقد اختفت كل هذه الأدوات وامتنع الحلاقون عن حلاقة الذقون خوفاً من الملاحقات القانونية!

كان جميع الصبيان يجزّون شعرهم بنفس الموديل. كان الحلّاق يترك الشعر طويلاً بعض الشيء بحيث كنا نرفعه فوق رأسنا بشكل نسميه “شينيون” ونستعمل مساحيق لتجميده تحت اسم “بريانتين”. وفِي احدى المرات بعد ان كانت والدتي قد سئمت من قَص الشعر المتواصل، طلبت مني ان اطلب من الحلاق ان يقصه بشكل “آ لا بروس” (A la brosse) وقالت لي انها “أحلى قصّة”! عندما طلبت ذلك من الحلاق، وكان أخي صلاح يرافقني، سألني بنظرة تعجّب: “أكيد؟” أجبته: “نعم!” وإذ به يعدّل شفرة الألة الميكانيكية ويبدأ بالحلاقة والتي كانت أشبه بالحلاطة! ما ان اجرى اول خط لم يعد بالإمكان ايقافه قبل اتمام العمل. وهذا ما جعل صحابي في المدرسة يضحكون على منظر “قرعتي”!

مرت الأيام وكبرت وكنت احيانا اقصد احد الحلاقين في مدينة صيدا خلال ايام الصيف. كان حانوته على مقربة من ساحة النجمة. وإذ كنت أنتظر دوري سمعته يتكلم مع أحد الزبائن عن قَص الشعر “على الشمعة”. بعد سؤاله عن الموضوع أجابني لتلك القصة فائدة في تقوية بصيلات الشعر. طلبت منه ان يقوم بقص شعري بتلك الطريقة.

أخذ “مفك براغي” من النوع الذي يستعمله الميكانيكيون ولفّ على رأسه الحديدي قطنة ثم غرسها في قنينة “سبيرتو زرقاء” ثم أشعلها بالكبريت. بينما كان يحمل “المشعل” بيده اليمنى أخذ يرفع شعري بواسطة المشط ليحرق طرفه بالنار. أخذ الجوّ يعبق بالدخان وتتصاعد رائحة اللحم المشوي كلما حرق خصلة من شعري. وكدت اموت رعباً حينما تقترب النار من أذنيّ. المهم اني انهيت التجربة دون حروق ولم أَحصل فيما بعد على أية فائدة لبصيلات شعري.

مرت السنون واذ كنت في زيارة رسمية للبنان دعاني مع نخبة مميزة من الرجال صديقي الحاج زهير الى حفل عشاء والحاج هو من أعيان الجالية اللبنانية في مونتريال. كانت الدعوة في مطعم فخم في منطقة المنارة من بيروت وخلال العشاء أخذ يحدثني عن رقابة صاحب المطعم لنوعية الطعام. قال انه يراقب كل طبق قبل ان يقدم وإذا لم يحز على رضائه فإنه يرجع الى المطبخ كل الاطباق الموجودة على الصينية.

وما ان انتهينا من اكل المشاوي حتى تذكرت حادثة قَص شعر حدثت لي في بداية الأحداث المؤلمة سنة ١٩٧٥ . كانت قد درجت موضة الشعر الطويل والسوالف العريضة واستعمال “السشوار” (مجفف الشعر الكهربائي) واستعمال “الفيكساتور” اي المركّز للشعر! وكنت قد واظبت على ارتياد محل للحلاقة في منطقة قريبة من جنينة الصنائع تسمى “الوِتوات”.

أخذت أروي للموجيدين وقائع آخر مرة ترددت فيها على المكان. كانت قد بدأت الأحداث وكانت تهدأ الأوضاع من وقتٍ الى آخر. وإذ وصلت الى جوار المحل وجدت عدداً كبيراً من السيارات المتوقفة على جانبي الطريق على غير عادة. حاولت ان انعطف نحو اليمين من الشارع الذي وصلت اليه فوجدت صعوبة بالانعطاف. كانت سيارة أمريكية سوداء من نوع بونتياك ذات مؤخّرة عريضة موديل تلك السنة متوقفة على ذاك المنعطف. واذ بي احاول المرور والسيارات ورائي تزمّر حتى التطمت بالسيارة. نزلت من وراء المقود لاتفقد الضرر الذي احدثته فالتقيت بسائقي سيارتي تاكسي متوقفتين امام السيّارة التي لطمتها. قال احد السائقين:”ضربت السيّارة!” قلت له: “اعرف ذلك! من صاحب السيّارة؟” قال لي: الريّس زكٌور”. قلت له: “نادِه لو سمحت”. قال : ” لا! انت تذهب له بنفسك! هو نائم! هذا ريّس زكّور!”

ما ان ذكرت اسم الريّس حتى لمعت عينا مستضيفي الكبيرتان وأفرجت شفتاه عن ابتسامة صغيرة تحت شاربيه الكثيفين وأظهر شغفاً في الاستماع للمزيد من القصة!

اكملت حديثي: كنت واثقاً انه لم يكن بإمكاني مغادرة المكان دون ملاقاة الريّس زكور. بدا لي آنذاك ان الجميع يخشى غضبه وبالأخص في تلك الحقبة من الزمن. أشار لي السائق الى البناية الجديدة التي كانت وراءنا وقال لي: “إصعد على الدرج حتى تصل الى الطابق الثاني فالكهرباء مقطوعة. ثم تنحرف على اليمين حتى تصل الى آخره وهناك تواجه باب الريّس.”

ما ان صعدت بضع درجات حتى كان كل شيء مظلماً. فاخذت أتحسس الدرجات والجدران حتى وصلت الى الطابق وأنا أناشد نفسي:”شو هالوقعة!” بقيت أتحسس طريقي حتى وصلت الى الباب بعد عبور الرواق. قرعت مرة ثم مرة ثانية ثم ثالثة. اخيراً سمعت صوتاً خشناً من الدخل: “من؟”. أجبت: “انا بشير”

فتح الباب. تراءى لي جسم رجل مربوع متوسّط القامة. كان بصيص من النور يدخل من احدى النوافذ ليظهر لي ان شعر رأسه مزعتر بلون فاتح وكان جسمه عارياً تماماً . تمالكت نفسي وشرحت له وضعي. سألني: “هل الضربة كبيرة؟” أجبته بالنفي فقال لي:”روح! (بمعنى إذهب)” فتركت وانا اتطلع للوارء!

ما ان انتهيت من سرد قصّتي حتى قال لي الحاج: “هل تعرف ان الريس زكور هو صاحب هذا المطعم الذي حدّثتك عنه؟” ثم صرخ للنادل: “اطلب من الريس زكور ان يأتي الى هنا!” بدأ قلبي يدقّ خوفاً من ان يتذكر الريس الحادثة ويكون قد استخلص ان الضربة اكبر مما كنت قد شرحته له! المهم انه كان قد غادر المطعم ولم أحظَ بلقياه بكامل هدومه!

قياسي

In Canada, are we ready for the legalization of the marijuana?

IMG_3068

In Canada, are we really ready for the legalization of marijuana?

Have we conducted enough studies on the dangers of consuming “marijuana” before its legalization comes into effect?
o Do we have doubts about that the government has decided on the marijuana legislation without having relied on extensive and comprehensive studies, despite the existence of the substance on the markets for centuries?
o This is assuming that disparate and limited studies exist on the usefulness of the substance in relieving pain, on the addiction and of subsequent loss of concentration caused by consumption.
o Aren’t we under the impression that the Prime Minister ordered this legislation after having publicly admitted that he had used this substance in the past?
o Can we ever forget that there is a political party in the country by the name of ‘’Marijuana Party’’?

Comparing marijuana with cigarette consumption:
o Who among us forgot the “Marlboro” advertisement depicting a cigarette smoking cowboy on horseback in the heart of the countryside?
o Did we forget that governments encouraged growing tobacco and provided subsidies for farmers?
o While at the time, for marijuana, the government attacked and sued consumers, producers, promoters and resellers. Culprits were tried, imprisoned and whipped in some countries!
o Would the media promote marijuana consumption?

Are tax revenues enough of a reason to push for the legislation?
o All tax revenues collected by the government over decades on cigarette trade have not been enough to cover for treatment costs of tens of millions of people that were consumption addicted!
o We can observe that the large amounts of money spent and continue to be spent on providing medical care are among the main causes of the Ministry of Health deficit!
o Can we predict in advance the adverse health effects and the negative impacts that marijuana consumption will have on its users?
o Are there schools and / or other programs that would educate young people and society on the harmful effects of dependence to such substance?

قياسي

هل نحن جاهزون لتشريع الماريجوانا في كندا

IMG_3049

هل نحن جاهزون لتشريع الماريجوانا ؟

قبل التشريع، هل أجريت دراسات كافية حول مساوئ استهلاك “الماريجوانا” او ما نسميه “بحشيشة الكيف”؟
– لا أظنّ ان الدولة قد استخلصت الى تشريعها بعد دراسات كاملة وشاملة وذلك على الرغم من توفر المادة في الأسواق على مدى أزمنة تعدّ بالقرون. توجد دراسات متفرقة تتعلق بفائدتها او مضارّها في نطاق محدود كمدى إفادتها لتخفيف آلام بعض الأمراض أو لمساوئ استهلاكها والأِدمان عليها وفقدان المقدرة على التركيز لمستهلكيها.
– لدي انطباع ان رئيس الحكومة سعى وأمر بتشريعها وقد كان قد اعترف علناً بانه قد استهلكها سابقاً! ولا ولن ننسى انه يوجد حزب في كندا يسمى “بحزب الماريجوانا”!

مقارنة مع استهلاك السجائر
– من منا قد نسي دعاية “مارلبورو” التي كانت تظهر راعي بقر يمتطي جواده في الغابة وهو يُدخّن تلك السجائر؟
– هل نسينا ان الدول كانت تشجّع زراعة التبغ وتقدم تسهيلات لزارعيها!
– أما فيما يتعلق “بحشيشة الكيف” فكانت الدولة تطْبقُ على مستهلكيها ومنتجيها ومروجيها وبائعيها وتحاكمهم وتسجنهم وحتى تجلدهم كما يحدث في بعض البلدان!
– هل سنجد مستقبلاً على شاشات التلفزة وفِي المجلات ودور السينما دعايات لترويج استهلاك الماريجوانا ؟

هل العوائد الضريبية المرتجاة كافية للدفع لتشريع استهلاكها؟
– كل العوائد الضريبية التي جمعتها الدولة عبر عقود من تجارة السجائر لم تكفِ لتغطية تكاليف علاج عشرات الملايين من الناس الذين تعلقوا باستهلاكها!
– نجد ان أموالاً طائلة صرفت وما زالت تصرف بغية معالجة الملايين من الناس وقد يكون العجز في خزينة وزارة الصحة عائداً لمدى كبير الى ادمان الملايين على استهلاك السجائر!
– هل بإمكاننا التكهن مسبقاً بالعوارض الصحية التي سيتعرض لها مستهلكو الماريجوانا بشكلٍ مباشر او غير مباشر؟
– هل توجد برامج مدرسية تعلم الناشئين على مضارّ الادمان على هكذا موادّ

 

قياسي

Sommes-nous prêts pour la législation de la marijuana?

IMG_3050

Sommes-nous vraiment prêts pour la légalisation de la marijuana?

Avons-nous effectué suffisamment d’études sur les dangers liés à la consommation de la «marijuana» avant que sa légalisation ne rentre en vigueur?
– Avons-nous des doutes sur le fait que le gouvernement a décidé sur la législation de la marijuana sans avoir eu recours à des études approfondies et complètes, malgré la disponibilité de cette substance sur les marchés depuis des siècles?
Ceci est en admettant qu’existe des études disparates et limités sur l’utilité de la substance à soulager la douleur ou encore sur la dépendance et la perte de concentration qui s’en suit.
– N’avons-nous pas l’impression que le Premier ministre ait commandé cette législation après avoir publiquement admis qu’il avait consommé cette substance dans le passé?
Pouvons-nous oublier qu’il existe au pays un parti politique qui porte le nom de Parti de la marijuana!

Pour comparer la marijuana avec la consommation de cigarettes
– Qui d’entre nous a oublié la propagande de “Marlboro” qui représentait un cow-boy à cheval en pleine nature fumant une cigarette?
– Avons-nous oublié que des gouvernements encourageaient la culture du tabac et fournissaient des subventions aux cultivateurs?
– Quant à la marijuana le gouvernement s’attaquait et poursuivait les consommateurs, producteurs, promoteurs et revendeurs. Les coupables étaient jugés, emprisonnés et même fouettés dans certains pays!
– Les médias contribueraient-ils à promouvoir la consommation de la marijuana?

Est-ce que les revenus fiscaux sont suffisants pour pousser la législation de la consommation?
– Toutes les recettes fiscales collectées par l’Etat à travers des décennies sur le commerce de la cigarette n’ont pas suffi pour couvrir les coûts de traitement des dizaines de millions d’individus qui ont été accros à sa consommation!
– Nous pouvons observer que les grandes sommes d’argent dépensées et continuent de l’être pour prodiguer ces soins sont parmi les causes principales du déficit du ministère de la Santé!
– Pouvons-nous prédire d’avance les effets néfastes sur la santé et les répercussions négatives auxquels les consommateurs de marijuana seront exposés directement ou indirectement?
– Existe-t-il des programmes scolaires et/ou autres qui enseignent aux jeunes et à la société les effets néfastes de la dépendance à tels produits ?

 

قياسي

تتمّة ذكريات من الدامور

 

IMG_2942.JPG

كانت جدّتي “زهيّة” طليقة اللسان تُحدِّث بلباقة نادرة كلَّ من وُجد في حضرتها وكانت تعرف كيف تنتقي المواضيع والعبارات لتجعل الموجودين يستأنسون في مجالستها. أما جدّي “أمين” فكان قليل الكلام يومئ برأسه من وقت لآخر مع ابتسامة صغيرة للدلالة على مشاركته بالحديث دون أن يتلفّظ بأية كلمة. لم أرهُ يوماً غاضباً من أي أمر وكان يذكّرني بمقطع من أغنية للراحل “فلمون وهبه”:”خِربِتْ عُمرِتْ نِزْلِتْ طُلْعِتْ حادِتْ عن ضَهري…بسيطة!”

كان فخوراً بعددٍ من العِصي التي جمعها عبر عُقودٍ من الزمن أِنّما يفضّل بينها ذاك الذي سواده من صُلبه لأنه مصنوع من خشب ” الإبينوس” النادر والمتين. قلّما تعكّز على اي منها بل كان كلّما جلس على كرسي يضعُ يده اليمنى على مقبض العصا لأِسواء تقويصة ظهره. أما مجموعة مسابح التسلية التي ملكها فحدّث ولا حرج عن أنواعها المختلفة وكان يفضّل بينها المرجانيّة بلونها الأحمر المميّز مع شرّابتها الذهبيّة وتلك المصنوعة من حجر اليسْر الأسود والمطعّمة بالفضّة. وأِذ أن العرف يحلّل نوعاً ما الاستيلاء على مسابح الغير فكان يخشى ذلك كثيراً لدرجة أنه ابتكر طريقة للمحافظة على مسبحته فيربطها بمعصمه بواسطة خيط نايلون من الذي يستعمل لصيد السمك، فما ان يطلب أحدهم استعارتها حتى يمدّ له المسبحة التي تبقى معلقةً بيده وهكذا يضمن استعادتها!

لدى بلوغي العشر سنوات اصطحبني عدة مرات في بعضٍ من زيارات تفقّده لأرزاقه. بعد ان نقطع مشياً على الأقدام المسافة التي تفصل المنزل عن طريق صيدا القديم وذلك عبر أزقّة وطرقات منحدرة، كنا نصل الى جوار كاراج خالي جورج حيث نستقل أحدى بوساطات “الصاوي زنتوت” ونقطع مسافة بحدود الكيلومترين ثم ننزل في سهل الدامور ( وكانوا يسمّونه بالعاميّة “السِّهل”).

كنا نقطع مسافات عبر بساتين الموز والأكي دنيا والليمون وكنا نصدف من وقت لآخر شجرة توت. أخبرني أن سهل الدامور كان مزروعاً بأكمله بشجر التوت والذي كان يستخدم فيما مضى لزراعة دود القز من أجل تجارة الحرير وذلك قبل أن تندثر بتوفّر الحرير الصناعي والأزمة الاقتصادية التي رافقت المجاعة في جبل لبنان أيام الحكم العثماني! وأِذ كنا نجاور في طريقنا قنوات الريّ الخرسانيّة العريضة من أجل الوصول الى بستان جدّي كنا نعرّج أمام مبنى قديم مبنيّ من الحجر الصلب يحمل اسم “الكرخانة” حيث كانت تتم في الماضي عملية تغطيس الشرانق بالماء الساخن من اجل سحب الخيط كاملاً من كل شرنقة قبل ان تنخرها الفراشة الموجودة في قلبها. وكانت هذه العملية تُميت الحشرة مما يبعث روائح كريهة في الجوار! فيما بعد استُعملت كلمة “كرخانة” للدلالة على بيوت الدعارة نظراً لقرفِها وقذارتها بالنسبة للمجتع!

بعد زيارة بستان جدّي في “السِّهل” والذي كان مزروعاً بشجر الموز كنا نعود أدراجنا عبر البساتين سالكين نفس الممرات المجاورة لقناة المياه حتى نقطع طريق صيدا ونتّجه نحو الجنوب ومن ثم نصل الى هضبة مرتفعة تشرف على كامل سهل الدامور. وأذكر انه توجد في أحد الأمكنة مخلَّفات قاعدة مدفع كان يستعمل خلال الحرب العالمية الثانية. أما تلك الهضبة التي ملكها جدّاي فتسمّى بالحصن وتلفظ “الحِسْن” ومزروعة بالزيتون وأجمل ما فيها موقع مشرف يتيح للرّائي مشاهدة مناظر من مدينتي بيروت وصيدا في آنٍ معاً. كنت أسأل جدي: “متى ستبني بيتاً هنا؟” فيجيبني: “ناطر آخر موديل للبيوت”. وتُوفِّي بعد عشرات السنوات قبل ان يبني منزلاً في ذلك الموقع الجميل!

رافقت مرّة أو أكثر خادمة جدّتي الى الفرن القريب من المنزل. كانت تعجن الخبزَة في المساء في لَكَن معدني وتغطّيه بعد ذلك بقماشة لينضج مع الخميرة خلال الليل. وفِي الصباح تُقرّص العجين بقطعٍ مستديرة بحيث ان كلّ كتلة تكفي لخبز رغيف واحد. كانت بعد ذلك تحمل العجنة في اللكن على رأسها وتتجه نحو المخبز.

أما في الفرن فكان رتل من نساء الحيّ قد حضرن بخَبزاتهنَّ بينما أحضر البعض الآخر صواني أعددن فيها طبخاتهن وذلك لخبزها في الفرن وذلك لعدم توفّر الأفران في الكثير من المنازل. كانت النساء يتناولن أخبار البلدة وفضائحها في الوقت الذي كنّ لا يتوقّفن عن رقّ أقراص العجين على ألواح خشبيّة طويلة يتّسع الواحد منها لنحوٍ من عشرة أرغفة ويقرّبنها حسب دورها من الفرّان الذي يدخلها الى آتون الفرن المشتعل بالحطب. كان يدخل اللوح الى الداخل ويسحبه بحركة سحريّة تجعل الأرغفة تتوزّع على أرضيّته الحامية وما هي الا لحظات حتى نرى العجين ينتفخ بشكل بوالين وما ان يحمر وجه الأرغفة حتى يقوم بسحبها بواسطة مشحاف طويل حديدي ويمسكه بواسطة عصا خشبي طويل مثبّت في أوّله.

أما نساء الدامور فكنّ يتميّزن ببشرة ناصعة البياض يحرصن على الاّ يراها نور الشمش خوفاً من أن تسمر! (بعكس أيامنا هذه). فكنّ يتمخترن في مشيتهن على طرف الطريق وهن يحملن شمسيات ملوّنة فوق رؤوسهنّ وذلك في طريقهن لتمضية صُبحِيَّة عند أحدى السيدات.

ومن أخبار الدامور تلك التي روتها لي جدّتي عن “مطانيوس” الذي هاجر الى الولايات المتحدة حيث أمضى عقدين أو أكثر من الزمن وهو يعمل بجِد ومثابرة لجمع كل ما أمكنه من أموال يرسلها لاخيه في الدامور ليشتري له بها أراضيَ في البلدة او في “السِّهل”. وكان أخوه يبعث له بأخبار شراء عقارات وأراضٍ. وبعد أن سئم “مطانيوس” من الغربة عاد الى بلدته باعتبار أنه جمع من الأرزاق ما يكفيه لآخرته. وبعد وصوله سأل أخاه عن أملاكه وكانت المفاجأة بنكران أخيه لتسلمه أية أموال وشراء أية أرزاق وهكذا وجد “مطانيوس” نفسه وقد فقد كل ما جناه!

وفِي صباح يوم أحد وخلال مراسم قدّاس كنيسة “السيدة” الواقعة فى أعالي البلدة والتي يتردد عليها نخبة السكان المقيمين في الدامور جاء وقت المناولة. والمناولة للذين لا يعرفون هي عندما يقدم الكاهن بفم كل متقدم منه برشانة من الخبز تمثّل جسد ودم السيّد المسيح. وأِذ جاء دور الأخ لتناول القربان أمام المذبح وأِذ كان مطانيوس واقفاً في وسط الكنيسة دوّى صوته مخاطباً أخاه باسمه:” أزلع يا أبو الياس، أزلع! أِذا مال أميركا ما شبّعك، هالبرشانة رح تشبّعك؟”

وأصبحت تلك القصة مثلاً يردده الداموريون حول كل شخص يستولي على أموال أقاربه عن غير حق وكم في مجتمعنا من أمثال “أبو الياس” وقد أثروا بطرق ملتوية ولم يوفّروا أية مناسبة تسمح لهم بزيادة أملاكهم مهما كانت الطريقة بينما هم يُصَلُّون ويصومون ويركعون ويلطمون صدورهم أمام رَبَّهُم وهم في الحقيقة أبعد الناس عنه!

قياسي

غراميّات وربطة عنق في لندن

 

IMG_2786

في الرابع من أيار (مايو) سنة ١٩٧٨ ، وبتوقٍ شديدٍ الى تلك السفرة، استقللت طائرة “الميدل إيست” من بيروت باتجاه لندن حيث سأمكثُ بضعة أشهر في مهمة عمل لدى الشركة التي كنت أعمل لديها. كيف لا يغمرني الفرح وهذه هي سفرتي الأولى الى تلك البلاد؟

رافقت مديري “يافوز” خلال تلك الرحلة والذي ربطتني به فيما بعد صداقة امتدت الى سنوات! اما للذين يستغربون اسمه فذلك يعود الى اصوله التركية وهو من القلائل المتحدّرين من السلالة العثمانية التي كانت تحكم بلاداً شاسعة خلال قرون وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى في بداية القرن الماضي!

ما ان دخلنا الطائرة حتى أخذت لنفسي مقعداً بجوار الشبّاك وذلك في الجناح الأيمن من المنطقة الوسطى من المقصورة. جلس “يافوز” بجانبي في المقعد الوسطي وفتح كتاباً بدأ يقرأه. وإذ لم تكن الرحلة مكتظة بالمسافرين وجدت ان الركاب قد توزّعوا بشكل عشوائي على المقاعد. أردت ان أرى من كان يجلس خلفي فاسترقت نظرة من خلال الشق الموجود بين المقعدين فلمحتُ فتاة جميلة تلبس فستاناً زهريّ اللون تجلس في الكرسي الواقع خلف “يافوز” بين مقعدين خاليين! ما ان تيقّنتُ من أنها لاحظت فضولي حتى خجلتُ من تصرّفي وأدرت وجهي نحو الأمام.

لازمتُ على التركيز نحو الأمام الاّ أنني، بعد دقائق معدودة، لم أستطع مقاومة رغبتي الشديدة بمعاودة الكرَّة فما ان اختلست نظرة جديدة من خلال الفتحة حتى فوجئت بعينيها الحالمتين تتطلّعان نحوي مع ابتسامة ناعمة رسمتها على شفتيها! أدرت رأسي بسرعة بينما أخذت نبضات قلبي تزداد سرعة! لم أعد أعرف ماذا أفعل! أكانت الأبتسامة من باب المجاملة المهذّبة أم للترغيب بالمزيد؟

بعد أن أطفأ الكابتن ضوء ربط الأحزمة بدقائق رأيتها وقد انتصبت على رجليها في وسط الممر وقد بدا شعرها الكستنائي اللون يبرق بتجاعيده الطبيعية وبطوله الذي يصل حتى كتفيها. أما فستانها الزهري اللون بأكمامه القصيرة فبدا وكأنّه يزيد بياض بشرتها نصعاً. تراءى لي طول قامَتَها وخصرها النحيل وتناسق مقاسات جسمها. صوّبت ظهرها ومشت نحو مقدمّة الطائرة بأنوثة وبخطىً منسّقة، مقدّمةً أو مرجعةً كل كتفٍ على حدة بتزامنٍ مع حركات ساقيها، بينما كان ردفاها يميلان يمنةً ويسرةً بشكلٍ كوريوغرافي يُذكّر بمشية عارضات الأزياء. لم تنظر إليّ في ذهابها إنما عندما عادت وهي تحمل بيدها مجلة رمقتني بطرف عينيها وابتسمت… عندئذٍ ظننت اني ملكت الدنيا!

بعد نحوٍ من ربع ساعة استأذنت صاحبي وطلبت منه ان يسمح لي بالمرور لأنني أريد الذهاب الى الحمام. ابتسمت لها قليلاً في طريقي وعندما عدت توقفت عندها. بعد التعارف علمت ان اسمها نسرين وهي أردنية الأصل من عمّان. دَرَست بضع سنوات في بيروت وهي في طريقها الى لندن لأخذ دروس في اللغة الانكليزية وستسكن عند أقارب لها. جلستُ بجانبها وأخذنا نتحدّث وتركت صاحبي يُكمل كتابه!

اضحيت أرى عن قرب جمال تكاوينها وتفاصيل وجهها الذي يشعّ باكمله كلما انفرجت أساريرها! حتى عيناها كانتا تشاركان بالفرح عندما يُفرج ثغرها عن ابتسامة ترسمها شفتاها حول أسنانها البيضاء! وبالأكثر حتى ان العيبين الصغيرين في وجهها من آثار الجرح القديم في خدّها الأيسر، الى السن العلوي الأمامي المتقدّم قليلا عن غيره ما كانا الا ليزيدان جمالها رونقاً ويؤكدان انها بلحمها ودمها من روائع هذا العالم!

عندما خرجنا من المطار أعطيتها رقم الهاتف الوحيد الذي كنت أعرفه وهو رقم المكتب. وعدتني ان تتصل. أستقللنا سيارة أجرة وقمنا بأيصالها الى العنوان الذي كانت تقصده وبعدها توجهنا نحو الفندق الذي كنت انزل فيه وأكمل صديقي بعد ذلك رحلته الى الشقة التي يستأجرها. وأخذت اسأل نفسي: هل وصلت الى لندن ومعي زوّادتي؟

في اليوم التالي قصدت مكتب الشركة. استقبلني مدير شؤون الموظفين. عرّفني بنفسه “ألن سكوفيلد” ثمّ قام بتقديمي الى الموظفين. كان “ألن” طويل القامة، ذَا شعرٍ اسود، له عينان كبيرتان ويرتدي بدلة كحليّة قاتمة اللون قديمة الشكل وقد بدت عليها سنوات الخدمة من اللمعيّة التي تبدو بوضوح على قماشها. كان موديل السروال يعود الى بداية الستينات. اما عقدة عنقه فكانت كحليّة رفيعة قديمة يعود تصنيعها الى نفس الحقبة. أدخلني الى غرفته وكان ديكور المكتب خشبياً بامتياز. دعاني للجلوس على أحد المقعدين الجلديين الموجدين قبالة مكتبه بينما جلس هو في كرسيّه خلف المكتب ورفع رجليه فوق الطاولة وأصبح حذاؤه يحجب لي رؤية وجهه كاملاً ثم رفع ذراعيه وشبك أصابع يديه وراء رأسه وأخذ يحدثني ويشرح لي أمور السكن والتنقل والمكتب والى ما هنالك. كنت أصغي اليه وانظر الى حذائه الاسود الإنكليزي الشكل وبالأخص الى النعل الذي أخذ من المشي نصيبه وبدا تآكلٌ واضح أحدث به ثقباً. كنت أظن ان رفع الارجل من عادات الأميركيين وليس الأنكليز!

رافقني بعد ذلك لتناول الغذاء في احدى الحانات (Pub) وأصرّ على دفع الحساب. ثم دعاني لحفل مشاوٍ في منزله الذي يقع في احدى الضواحي خارج المدينة وذلك نهار أحد يقع بعد أسبوعين من الزمن وأخبرني انه بأمكاني أن أصطحب أية فتاة أعرفها.

ما ان اتصلت بي “نسرين” حتى دعوتها للعشاء في أحد المطاعم. أخبرتها بدعوة زميلي “آلن” فقبلت ووعدتني ان ترافقني.

في اليوم المقرر التقينا وقصدنا محطة الترام التي كانت في جنوب المدينة. قطعت التذاكر وتوجهنا نحو الرصيف الخاص بالرحلة. صعدنا الى احدى المقصورات وجلست بجانبها وأمسكت يدها. كنت في قمة السعادة!

انطلق القطار وكانت البلدة التي نقصدها تبعد نحو ثلاثين ميلاً وهي أول محطة في الرحلة. وصلنا بعد زهاء نصف ساعة ورأيت اسم المدينة واضحاً عبر الزجاج. أسرعت مع نسرين نحو أحد الأبواب وأردت فتحه ألا أني لم أَجِد أي مقبض يمكّنني من فتحه! أسرعنا الى باب المقصورة التالية لأفاجأ أيضاً بعدم وجود أي مقبض! أخذت أركض لأجد من يفسّر لي كيف أفتح الباب ولم أَصدف مخلوقاً يقول لي ما أفعل! انطلق القطار حين التقيت أحد موظفي النقل الذي أفهمني أنه عليّ أن أرفع زجاج الشبّاك وأمد يدي الى الخارج وأمسك بالقبضة الخارجية لفتح الباب! ولم يكن بأمكاني الا متابعة الرحلة والنزول بالمحطة التالية والتي كانت تبعد ستّين ميلاً أضافياً!

لدى نزولي اتصلت ب”بآلن” وأخبرته بما حصل لنا! قال: لا تزعل! سننتظركما عندما تصلان”. مكثنا قرابة ساعة على مقاعد الرصيف حتى وصل اول قطار يرجعنا الى المحطة الأولى والذي كان أبطأ بكثير من الذي استقللناه في مجيئنا. المهم اننا تمكنّا من بلوغ مقصدنا بعد قرابة اكثر من ثلاث ساعات تأخير. تناولنا الطعام في حديقة المنزل مع آلن وصديقته وذلك خلال تبقى من ساعات النهار وعدنا ادراجنا في القطار الى لندن!

عندما أخبرت زملائي في العمل عن دعوة “آلن” تعجبوا كثيراً كونه لم تكن من شيمه ان يدعو أياً كان الى تناول اية وجبة وهو المثابر على ارتداء نفس الثياب يوماً بعد يوم! المهم ان علاقتي الجيدة به استمرت طوال المدة التي قضيتها في الشركة.

عندما انتهت مهمتي قررت ان أقدم له هدية كعربون شكر على معاملته الجيدة. فكّرت كثيراً واعتمدت أخيراً على شراء عقدة عنق تتماشى مع بدلته التي لن يُغيّرها في القريب العاجل. بعد البحث وجدت طلبي وكانت ربطة عنق من الحرير الصافي ماركة “بيير كاردان” عريضة كما الموضة في تلك الحقبة وفيها رسوم وتعريقات زرقاء وكحليّة تتماشى مع لون بدلته وقدمتها له ضمن علبتها الأصلية ومغلّفة بأوراق هدية. أعجب كثيراً بها وبتصميمها وشكرني وتعجّب كيف ان الصدفة جعلت ان الوانها تتناسب مع طقمه!

وعندما وصل الى المكتب صباح اليوم التالي كانت المفاجأة للجميع عندما وجدوه وقد عقد حول عنقه الربطة الجديدة التى تشعّ بألوانها على نفس الطقم القديم الذي لم يُغيّره يوماً. أخذوا يسألونه عن تلك الربطة ويلمسون قماشها ويسألونه كيف حصل عليها وكان يجيب معتزّاً: هذه هدية من بشير!

 

 

 

قياسي

القامة اللبنانيّة والقامة الأنجليزيّة

hommes au complet

ذكّرني صديقي عبدو في بيروت والذي ما زالت تربطني به صداقة قديمة تعود الى عقود خلت، بقصّة كنت قد رويتها له في بداية تعارفنا لمّا كنّا ما زلنا نعمل في مدينة الرياض.

لكل شعبٍ ميّزات خاصة به فيما يتعلّق بشكله ومعالم وجهه وشعر رأسه ولون بشرته وطول قامته وغيرها من المواصفات وذلك يعود بمعظمه الى عرقِهِ والسلالة التي تحدَّر منها والتغزية التي توفّرت له خلال سنيّ نشأته. ويبدو ان الكثير قد تغيّر خلال النصف الأخير من القرن الماضي أِذ ان بعض الشعوب زاد معدّل طول قامَتِها بنحوٍ من بضع سنتيمترات وحتى أن منها من كسب زيادة بلغت شبراً أِضافيّاً. ويعود الفضل بمعظمه لتوفر العناية الصحيّة والتغذية السليمة على مدار فصول السنة في العصر الحديث!

عند اكتمال نموّي كنت أتميّز عن أقاربي وأترابي في الدراسة بطول قامتي. في المنطقة التي نشأت فيها كان من زادني طولاً نادر الوجود وكان مظهر جسمه غير مستحب لعدم تناسبه مع قامة الفتيات! كنت فخوراً بقوامي وكنت أخطو بزُها عندما أمشي. أما في الكنيسة في قرية جدرا فكانت النساء يجلسن في مؤخرة القاعة بينما كان الرجال يجلسوم في المقدّمة. وكان رأسي يبدو واضحاً مميزاً فوق مستوى باقي الرؤوس! وكانت النساء إن لاحظن أحد الأطفال ينمو أكثر من غيره يقلن: “ما شاء الله، سيُصبِح بطول بشير!”

كنتُ قد قاربت الثامنة عشرة من عمري عندما اشتريت كنزة صوف جاهزة بلونِ رمليٍ قاتم. وكانت تتميّز بجدلة عمودية على الصدر من ناحية وأخرى من فتحة الرقبة المستديرة.

كانت ابنتا عمّي حليم، “نوال” و”فتنة” قد اشتريتا ماكينة “تريكو” حديثة لحياكة الكنزات. وكانتا قد تعلّمتا تشغيلها عندما كانتا تساعدان والدهما في مشغل “التريكو” الذي كان قد أنشأه في منزل العائلة وكان قد أسماه “تريكو قزيTrico Azzi ” وذلك قبل أكثر من عقد من الزمن!

أخذت الكنزة وقصدتهما وقلت أَنِّي أريد أن أحيك كنزة مثلها أِنما بلون آخر. قالتا أن الكنزة تأخذ من ١٤الى ١٦ شلّة صوف عادة، أما بالنسبة لطول قامتي فعليّ بالأِتيان ب١٨ شلّة.

قصدت سوق المعرض في بيروت وتبضّعت بالعدد المطلوب من ماركة “بان جوان” وكانت من أفضل أنواع الصوف واخترت لوناً أزرق سماوي. وبعد أيام من أِيصالي الكمّيّة المطلوبة لهما، أرسلتا بطلب أربع شلّات أِضافية. وبعد يومين من تسليمي العدد الأِضافي ، قامتا بطلب شلّتين أِضافيّتين…

بعد أيام طلبتا مني الحضور لأن الكنزة قد اكتمل تصنيعها. وما ان وصلتُ حتى طلبتا مني تجريبها. وكانت المفاجأة: كان طول الكنزة يسدل الى ركبتيَّ! لقد كان انطباعهما عن طول قامتي أكثر بكثير من الواقع! وبعد “كرّ” خيوطها قامتا بأِعادة الحياكة لتصبح على المقاس المناسب!

في فترة العشرينات من عمري، كان خصري نحيلاً بينما كان منكباي عريضين وكان ذراعاي طويلين مع ساقين رفيعين وطويلين تذكّران بعصا لعبة “البليار”! كانت الفتيات في ذلك الزمن يفضّلن الشاب البدين، وذلك بعكس ما أصبحن عليه في يومنا هذا بعد ان اكتسبتُ بعض السمانة بفضل كرشٍ أضحى يزيّن وسطي!

كانت البدلات الجاهزة لا تتماشى مع جسمي. حاولت ان أَجِد لباساً الا ان المهمة كانت شبه مستحيلة. قمت بالتردد على عددٍ من أهم المحال للألبسة الرجالية ك”ألفا، وحلبليان و جوزيف عيد” أِنما دون جدوى. كانت الأكمام قصيرة بالنسبة لطول ذراعيّ وكان وسط الجاكيت يفضفض حول خصري. أما السروال فكان يعطي متّسعاً للكثير من اللحم الاضافي الذي لم أكن أملكه. لذا كان لا محالة من القيام بتعديلات متعددة على أية بدلة لدى شرائها كأِطالة الأكمام وتضييق الخصر وتغييرات كثيرة على البنطلون وكل ذلك كان يمسخ بالنهاية الشكل العام للّباس ويفقده رونقه!

حاولت ان أزيد من وزني بتناول دواء يعطي سمنة بعد أن قمتُ بالتزوّد به من الصيدليات. كان اسمه “سوبر ويت أون” وكان باهظ الثمن! كان عليّ ان أمضغ ١٢ حبة يومياً مع شرب ٤ أكواب من الحليب. وحيث ان معدتي كانت حساسة لدى استهلاك هكذا كميات من الحليب، وجدت بعد أسبوعين أن وزني قد خاس فتوقفت عن العلاج!

بعد بضع سنوات، أُرسلت بمهمة للعمل في لندن لمدة بضعة أشهر في مكتب الشركة التي كنت موظفاً لديها. كان موقع العمل في الوسط التجاري على ١١٧ بيكاديلّي بينما كنت أقطن منطقة “هامستيد” في شمال المدينة.

وبينما كنت أمشي خلال فرصة الغداء بحثاً عن فرع البنك الذي تتعامل معه الشركة وكان تحت اسم “ناشونال ريبابلك” على شارع “كورزن ستريت” الموازي لشارع “بيكاديلّي”وجدت متجراً للملبوسات الرجالية يحمل اسم “بيغ إند مايتي Big and Mighty “. قلتُ لنفسي: “ها هو! أخيراً وجدت المكان الذي أَلقى فيه حاجتي من الملبوسات!”

دخلت المتجر عبر الواجهة الزّجاجيّة. كان كثير العمق والملابس معلّقة بشكل منظم من ناحيتيّ الممرّ الرئيسي الموجود في وسط المحل وهوخالٍ من الزبائن الّا ان أحد الباعة، كان يقوم بتصفيف الملابس في منتصف المكان وهو يدير نصف ظهره نحو المدخل وكنت أرى شعره الأشقر وهو يرتدي بدلةً بنيّة.

أخذت أتفقّد بعض ما كان معروضاً وانتظرت منه أن يأتي لمساعدتي لا سيّما أني لم أكن أبعد عنه الاّ خطوات! وأِذ لم يأبه بوجودي أطلقت قحّةً متمنّياً أن ينتبه لي! ألا أن ذلك لم يُجدِ نفعاً وظلّ مواظباً على أِتمام ما كان يفعله!

قلت له: “هاي” بصوت معتدل. وكأنه لم يسمعني! صرخت “هاي” بصوتٍ عالٍ وأِذ به يلتفت نحوي أخيراً. كنت أرى بشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين! سألته: “أبأِمكانك مساعدتي؟” أجاب بتهذيب: “ماذا تريد؟” أجبته أني أريد شراء بدلة. سألني: “لمن؟ “أجبته متعجّباً: “لنفسي.” عندئذٍ هزّ رأسه بالنفي وقال لي: “لا توجد عندنا ملابس لك!” كيف يقول ذلك وأنا لم أَجِد في بيروت مطلبي وها أنا في محلات “بيغ اند مايتي” لا أَجِد ما يناسبني أيضاً؟

لمّا رأى التباسي وتعجّبي اقترب مني وكان يحمل بيده “مازورة” للقياس ثم وضع رأسها على كتفي واسدل طولها الى ما بعد أصابع يدي وقال لي:” أصغر بدلة لدينا تصل الى هنا.” وكان ذلك يزيد عن مقاسي بنحو شبرٍ أِضافي!

سألته :”أين أَجِد هدوماً تناسب مقاس جسمي؟” قال لي: أنت جسمك عادي وتجد ملابس على مقاسك في أية محال مخصصة للهدوم الرجالية. ودلّني على محلات “موس براذيرس” في منطقة “كوفين جاردن” حيث أيقنت فيما بعد أن جسمي “عادي” بامتياز وبالأخص بالنسبة للشعب الأنجليزي!

 

قياسي

تتمّة تقييم المرء حسب السيّارة التي يقودها

IMG_2731

تعود بي الذاكرة الى صيف سنة ٢٠٠٨ حيث عدت لزيارة لبنان برفقة زوجتي بعد غياب دام قرابة الربع قرن. بالحقيقة كنت قد قمت بزيارة قصيرة بمفردي سنة ٢٠٠٤ ولم يتسنَّ لي خلالها سياقة سيارة وسأعود لملابسات ومفاجآت تلك الرحلة في مقال لاحق!

بالرغم من تحذير الكثيرين من معارفي من خطورة القيادة في لبنان قرّرت ان أستأجر سيارة لطوال فترة أِقامتي والتي كانت تقارب الأربعة أسابيع. كان عليّ التنقّل كثيراً بين عدة مناطق لزيارة أهلي وأقاربي وأقارب زوجتي من ناحية وللقيام بزيارات رسميّة لمراجع عليا كوني كنت رئيساً لغرفة التجارة والصناعة اللبنانية الكندية وذلك من أجل مشروع كنت أعدُّ له تحت اسم “نافذة على لبنان” وذلك بتنظيم معرضٍ للمنتجات اللبنانية في مونتريال!

خرجت وزوجتي من الباب الزجاجي الواقع بعد الجمارك في مطار بيروت. كنت أسبقها بخطوات وكلّ منّا يجرّ عربة حديديّة خاصّة بالحقائب. ما ان خرجت عبر البوابة الزجاجية حتى فوجئت بجدار طويل من الناس ينتظرون ذويهم خلف حاجز حديدي. وكانت زوجتي قد حجزت بالهاتف على سيارة مع آنسة اسمها “إليان”وكان علينا تسلّمها من السائق الذي أحضرها الى المطار. وأِذ كنت أستعرض الأناس المنتظرين وهم يحملون أسماء مكتوبة على لوحات كرتونيّة بيضاء وجدت أحدهم يرتدي قميصاً أبيض من نصف كم ويحمل لوحة مكتوب عليها اسم زوجتي “ميشلين القزّي”. توجّهت نحوه مبتسماً وما ان اقتربت منه حتى أشرت له بأِصبعي نحو صدري. نظر أِليّ بتعجّب وقد عقد حاجبيه ثمّ سألني: هل انت اسمك “ميشلين”؟ أجبته مازحاً “نعم! ألا يبدو عليّ كذلك؟”

أوصلنا مندوب شركة الأيجار الى فندق “بورت أِيميليو” في منطقة الكسليك في مدينة جونية الساحلية. بعد أِنهاء التسجيل صعدنا مع حقائبنا الى الغرفة وكانت في الطابق السابع. فوجئت بأنها كانت بمثابة شُقّة من حيث وسعها وكانت تطلّ من الغرب على البحر من شباك غرفة النوم الفسيحة كما من باب واجهة الصالون الزجاجيّة والذي يؤدّي الى الشرفة بينما تطل عبر شباك السفرة الشرقي على منظر الجبل!

خرجت الى الشرفة لأسرّح نظري برؤية بحرٍ افتقدت منظره منذ عقود وكانت الشمس قد بدأت تحمرّ خجلاً بانتظار غوصها في الأفق ففرحت بمشهدٍ ألفته عيناي في صغري وحُرمتُ منه طوال غربتي! وما ان التفتُّ نحو الشاطئ القريب وبالأخص باتجاه نادي ال”آ تي سي إل” حتى فوجئت بأرضٍ واسعة تعكّر جمالها نتوءات ترابية متفرّقة مخلوطة ببعض البقايا الخرسانية وهي تدل على ان سائقي كميونات قاموا بتفريغ حمولات شاحناتهم بشكل مبعثر! دخلت من الشرفة وتوجهت نحو الشباك الشرقي وفتحت الستارة ونظرت نحو الجبل لأتفقّد منظر أحراج الصنوبر ففوجئت بمنظر المباني الخرسانيّة وقد طغت على الطبيعيّة وخطفت منها خضار الحياة!

أما السيارة التي استأجرتها فكانت من نوع “تيدا، نيسان” لونها رمادي ومن موديل السنة السابقة. رغم صغر حجمها الاّ انها وفت بالواجب. وقد قمت بزيارات متعددة وفق برنامجي أذكر منها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزراء كل من الاقتصاد والسياحة والزراعة كما غرف التجارة والصناعة! وكنت بعد ظهر كل يوم أقوم بزيارة والديّ في مدينة عجلتون! ولدى عودتي مساءً الى الفندق كنت أُعرّج برفقة زوجتي من امام مطعمٍ فخم المظهر ذي واجهة رخاميّة جميلة مرصّعة بأِنارة مميّزة. كانت السيارات الكثيرة الفخامة مصطفّة أمامه وكان مجموعة من الشبّان الأنيقي الشكل والمظهر يرتدون سراويل وقمصان سوداء يعتنون بأِيقاف السيارات. قرّرت وزوجتي أن نقصد ذاك المكان في احدى الليالي لتناول العشاء.

ذات مساء عدنا باكراً الى الفندق. سألتُ زوجتي:” ما رأيكِ في ان نحتسي العشاء في ذاك المطعم؟” أجابت بالموافقة وسألتني:”أنأخذ السيارة؟” أجبتها ان لا داعي لذلك لأن المسافة قريبة!

خرجنا من باب الفندق وبعد أن تجاوزنا مساحة المرآب قطعنا الطريق الذي يمرّ امام الفندق وصعدنا طلعةً حادة تؤدّي الى جوار المكان المقصود. ما ان وصلنا حتى وجدنا المطعم على يميننا وكان ممرّ مشاة يفصل بينه وبين السيّارت الفخمة الموقوفة أمامه وكانت من انواع مختلفة “كبورش” و”لمبورجيني” و”مازيراتي” و”رانج روفر” وغيرها! قطعنا الممر ثمّ انحرفنا نحو المدخل. بان لنا اسم المطعم: “السنيور”. كان مليئاً بالزبائن. وما ان سأَلَنا مستخدمُ المطعم عما أِذا كنا نريد الجلوس في الداخل أم في الخارج أجبنا أننا نفضّل الباحة الخارجية. أشار لنا بالجلوس على الطاولة الوحيدة التي كانت خالية من الزبائن. كانت بلاستيكية بيضاء كما الكرسيّين اللذين جلسنا عليهما. ثمّ بادرنا بالسؤال:”أي نفَسْ تريدان؟”. سألت نفسي:”أي نفسْ؟ ماذا يقصد؟” ثم نظرت حولي وكان جميع الزبائن يدخنون الأراجيل والتي كانت مختلفة الشكل واللون وكان الكثير منها من التي كان رأسها أستعيض عنه بليمونة اوبطيخة مفرغة! فهمت ان المكان مخصَّص “لشرّيبة” الأرجيلة! أجبته أننا لا ندخن وأننا جئنا لتناول طعام العشاء فقط وكان وهج جمر الأراجيل المجاورة يطال قسماً من جسم كلٍّ منا! من لائحة الطعام المغلّفة ببلاستيك شفّاف والتي كانت بعض جمرات قد أكلت من رونقها أخترنا صحن شيش طاووق مع حُمُّص وفتّوش. ما ان حضر الأكل حتى تناولناه ثمّ طلبتُ الحساب وقمت بتسديد المبلغ.

ما أن مشينا بعض خطوات في ممر المدخل حتى اعترضني أحد مستخدمي الموقف وسألني: ” ما هي سيارتك يا أستاذ؟” وأِذ كنت قد أبقيت سيارتي مركونة في موقف الفندق، أجبته أنه لا توجد معي سيارة. مال رأسه نحو اليمين ورمقني بنظرة عطف وابتسم ابتسامة صفراويّة وقال:” أِيه! أنشالله بيصير عندك سيارة!”

علّمتني الأيام أن شعوبنا قد تُقيِّم الانسان أحياناً بغير الملبس والسيارة. في بداية سنة ١٩٧٨ كنت قد قمت بزيارة ماساشوستس في الولايات المتحدة الامريكية وذلك لزيارة أقاربي. في تلك الأيام كان من المتعارف عليه ان يتحلى المسافر بأفضل ملابسه لدى ركوب الطائرة! إلا اني قررت ان البس ثياباً عاديّة لدى عودتي خصوصاً بعد ان تبضّعت من أمريكا سراويل “جينز” وقمصاناً قطنية بمربعات ملوّنة تشبه تلك التي كان يرتديها رعاة البقر! ما ان وصلت الى مطار بيروت بعد سفرة طويلة مرهِقة لم يكن يبدو علي اي مظهرٍ لائق! خرجت وانا أجرّ حقيبتيّ وأصررت ان لا أسمح لأحد الحمالة من ان يحمل اياً من أمتعتي!

ولما خرجت من باب المطار أوقفت أحدى سيارات الأجرة. الاّ ان السائق ضرب لي التحيّة وبادرني :”أهلاً أستاذ! تفضّل أستاذ!” وانا أنظر الى شكلي وأتساءل:”من أين رأى الأستذة؟” أصرَّ على أن يُحمِّل بنفسه الحقائب في الصندوق وصعد وراء المقود ونظر أليّ وقال:” شوف يا أستاذ! نحنا بنعرف الزبون من شنطه!” (وفطنتُ أني كنت أجرّ حقيبتين من ماركة “سمسونايت”)

قياسي

تقييم المرء حسب السيّارة التي يقودها

IMG_2723

كنت حديث العهد في مدينة مونتريال عندما دعاني مع عائلتي أحد الأصدقاء الى حفلِ مشاوٍ أقامه حول مسبح منزله فى أِحدى الأحياء الراقية من المدينة. كانت الطريق المؤدية الى المنزل تزينها أشجار كبيرة مصطفّة على طرفي الشارع وكانت تخفي بأغصانها بعضاً من معالم المساكن الفخمة التي كانت تتراءى لنا عبر زجاج السيارة!

كنت أقود “بلايموث” أمريكيّة كانت ما تزال تحمل لوحة ولاية “فلوريدا” حيث قمت بالاستحصال عليها من نحو سنة خلت. وأِن لم تكن جديدة الاّ انها كانت مريحة وتفي الحاجة. كان لونها أزرقَ معدنيّاً فاتحاً الاّ انه بهت مع الزمن تحت وطأة الشمس! أما فرشُ مقاعدها فكان أزرقَ يتماشى مع الطلاء الخارجي وكان كلٌّ من المقعدين الأمامي والخلفي يتّسع لثلاثة ركاب!

ما ان وصلنا الى جوار المنزل المقصود حتى تراءى لنا وجود العديد من السيارات الفخمة المصطفّة أِمّا بجانب الأرصفة أو على الدرب النصف دائري الذي كان يشكّل جزءاً من الحديقة الأمامية وسط الأزهار المزروعة بعناية وتنسيق حسب أنواعها وألوانها.

بعد إيقاف السيارة على مسافة من البيت دخلنا الحديقة من باب السور الخشبي الموجود على يسار المبنى. كانت باحتها وسيعة إذا ما قارنّاها بحدائق المنازل المجاورة وكانت منصّة مستطيلة ومبلّطة ومسقوفة بسقف خشبي جميل من الناحية اليسرى تواجه المسبح الذي كان موجوداً من الناحية اليمنى. قام صاحب البيت وزوجته باستقبالنا وتعريفنا على المدعوّين والذين كانوا يجلسون موزعين بشكل مجموعات صغيرة وكان عددهم يزيد على الثلاثين شخصاً. كان الكثير من الموجودين قد أثروا في بلاد الشرق الأوسط وقد انتقوا مونتريال في آخر المطاف كمدينة للتمركز والعيش فيها.

جلست على كرسي بلاستيكي بجانب أحد المعازيم. كان يرتدي قبّعة من القشّ إيطالية الشكل ويضع نظارات شمسيّة على عينيه وهو ممتلئ البنية، يلبس قميصاً مبرقعاً من لون نيليّ ذَا أكمام قصيرة وقد ترك الأزرار العليا مفتوحة لتظهر شعر صدره والسلسة الذهبية التي يعلّقها في رقبته. وبابتسامة لطيفة كان يحرك يده اليمنى كلّما تكلّم بينما يده اليسرى مرفوعة بعض الشيء وهي تحمل ساعة الرولكس الذهبيّة على المعصم وسيجاراً كوبياً بين الأصابع. بادرني بسؤالٍ عن تاريخ وصولي الى المدينة ومن أين أتيت! بعد أِجابتي استطرد سائلاً:”ما هو نوع السيارة التي تقودها؟”

فوجئت بسؤاله! لِمَ يسأل عن نوع السيارة؟ شعرت ببعضٍ من الأِحباط! أهكذا يُقيَّم الانسان، من موديل سيّارته؟

عادت بي الذكريات الى ماضٍ خلا. وبالتحديد الى سنة ١٩٧٣ حيث كنت فيها قد انتخبت رئيساً لرابطة طلاّب الكلية العليا للهندسة في بيروت والتي كانت قسماً من الجامعة اليسوعيّة.

جرت العادة أن يُنظٌم الطلاّب سنوياً حفلاً راقصاً في أحد الفنادق الفخمة من العاصمة بيروت. وإذ كنّا نريد ان ننظم سهرة لم يسبق لها مثيل، قرّرت مع مجلس الطلاب أِقامتها في كازينو لبنان والذي كان قبلة الأماكن الفخمة في الشرق الأوسط. لدى زيارة الموقع قمنا بتفحّص صالة السفراء وهي اكبر صالة للحفلات لدى الكازينو. كان سقفها المرتفع ومقاساتها والديكورات الخشبيّة والالوان تعطيها رونقاً خاصاً. بعد التفاوض مع الأِدارة ودراسة التفاصيل وقّعت عقداً باستئجار الصالة لأِجراء الحفلة بتاريخ العاشر من آذار (مارس) من تلك السنة.

دعوت الوزير الأسبق الراحل بيار حلو ليكون راعياً للحفلة. كان لا بد من تذليل بعض العقبات الصغيرة أهمها بروتوكول طاولة الشرف التي تضمّ الوزير الأسبق الراحل جوزيف نجّار والذي كان أستاذاً في الكليّة، وعميد الكليّة الأب”جرفانيون” الفرنسي والذي قد أطلق عليه الطلاب لقب”١٠:١٠ ” للطريقة التي كان يحرّك فيها رجليه عندما يمشي ، الى نقيب المهندسين حينذاك ريمون روفايل والى من أكّد حضوره من زوجاتهم!

نهار الحفل قصدت ان أكون في الكازينو بنحو ساعتين قبل الموعد لأتأكّد من أن كل شيء سيتم على أكمل وجه. كنت قد كلّفت فتاتين من تلميذات الجامعة بتوزيع وردة على كل سيدة تدخل القاعة.

كنت أرتدي بدلةً من الجوخ الناعم الرمادي المقلّم بأزياح ناعمة من لون غامق وقد قمت بتفصيلها لدى خياطٍ ماهر في بناية الستاركو في بيروت. لمّا كنت ألبس ذاك الطقم بالأِضافة الى القميص الناصع البياض والذي قمت بخياطته لدى محلاّت”بلاّن” وعقدة العنق المصنوعة من الحرير الملوّن والحذاء الجلدي الاسود، كنت أخال من ينظر أِليّ أنّه يحسبني أحد المشاهير!

كنت أقود سيارة فولكس ڤاكن شكلها يسمّى بالخنفساء. كان لها من الخدمة نحو من ست سنوات. كان لونها أزرق سماوي. لم تكن مجهّزة بجهاز راديو وكنت أغني طوال الطريق لأسلّي نفسي ولم يكن ينزعج أحد من صوتي لأني كنت لوحدي في معظم الأوقات! أما أِذا صدف وجود أحدهم برفقتي فكان صوت المحرّك يطغي على رداءة صوتي!

لما وصلت الى الكازينو كان الموقف خالياً من السيارات. لم أرد أن أوقف سيارتي أمام المدخل بل بعدْتُ نحواً من خمسين متراً مبتعداً عن المدخل. نزلت من السيارة، أقفلت الباب وتوجهت نحو المدخل وأنا مزهوٌ بنفسي. ما أن اقتربت بضع خطوات الى ان أقترب مني احد مستخدمي الموقف وكان يرتدي كرفاقِهِ سترة رمادية مع قبّة من الساتان اللميع وذلك فوق سروال اسود وقبعة صغيرة. قال لي بتهذيب وهو يشير بيده اليمنى باتجاه زاوية الموقف:”لو سمحت! لبعيد!”

عدت الى السيارة وفتحت الباب وادرت المحرك وأبعدت سيارتي مسافة لا بأس فيها. نزلت وأقفلت الباب وما ان بدأت بالمشي باتجاه المدخل حتى سمعت صفيراً من ناحية المدخل! كان الموظّف عينه! أنزل يده عن شفتيه وصرخ لي من بعيد وهو يومئ بكلتي ذراعيه وكأنه يشير الى طائرة تسير على المدرج: “على الآخر! على الآخر!…”

عدت الى السيارة وقدتها الى الطرف الأبعد من الموقف الكبير ثم عدت مشياً لأقطع المسافة التي طالت كثيراً نحو المدخل الرئيسي وكان كتفاي قد هبطا نحو الأسفل وقوقعت استقامة ظهري…

لما خرجت بعد الأِحتفال كان مستخدمو الموقف بانتظاري وقد عرفوا أني كنت من نظّم الأِحتفال فضربوا لي التحية وأسرع أحدهم نحوي وأخذ مني المفاتيح وأصرّ على أن يُحضر السيارة بنفسه!

وللقصّة تتمّة…

قياسي