اللّغة والدين

تملّكني السأمُ وبدأت أغتاظُ كلّما وجدت أُناساً يجمعون بين الدينِ واللغة ولا يُميّزون بين عبادةالخالق وعبادة اللغة والتي أضحت بمجملها معبودتهم بغضِّ النظر عمّا تحويه نصوصها …

بادئ ذي بدء يجب التنويه أن لغتنا العربيّة، والتي نحبّها ونفتخر بها، كانت، قبل العصورالإسلامية، محكيّةً ومنتشرةً في مُجملِ الجزيرة العربية وكانت قواعدها ثابتة ومعروفة، وإن لمتكن تلك القواعد مكتوبة! وقد أجاد التكلّم بها كلّ من عاش خلال تلك الحقبة التاريخية علىتلك الأرض ممّن كانوا يتبعون ديانات مختلفة، منها المسيحيّة أو اليهودية أو الوثنية أوغيرذلك…وقد أبدع كثيرون من رجال ذاك العصر في نظم أشعارٍ ما زلنا نردّدها بافتخار، على الرغممن انقضاء أكثر من ألفيّة ونصف مذ تمّ تأليفها، وأذكر على سبيل المثال لامرئِ القيس:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ   بسقطِ اللوى بين الدخولِ فحوْملِ

ونتغنّى حتى يومنا هذا، بالكثير من الأبيات والمعلّقات العربيّة الأصيلة، وإن أضحينا لا نفقهُ معنىكلّ كلماتها! وننعتُ ذاك الزمن بـــ”الجاهلية” مع أن أهلَه لم يكونوا جُهّالاً أبداً في إتقانهمللعربيّة، ونفتقر اليوم الى أدباء على مثالهم، يجيدون الصرفَ والنحو، إذكانوا يُتقنونهما تلقائيًّا دون مشقّة أوعناء!

وإذ شاء الله أن يُنزل على نبيّه قرآناً عربيّاً، لا بدّ من التأكيد على أن الباري لم يُنزل اللغة في نفسالوقت، لأنها كانت موجودة أصلًا، وإنما أراد أن يُنزل بها المحتوى الذي فاق بعمقه بلاغة الكلماتالتي سُكِب بها. وإذ أربأُ بالذين يستظهرون النصوص عن ظهر قلب دون التعمّق بما تعنيه، تتملّكنيالشفقة على شعوبٍ في نحو نصف العالم الإسلامي لا يعرفون اللغة ولا يفقهون ما يحفظون!

ومع بداية العصر العثماني الذي دام عدة قرون، والذي تولى حكمه سلاطين بنيعثمان الذين تسلّموا خلافة المسلمين، بدأت اللغة العربية تفقد الكثير من قوة انتشارها وأهميّةآدابها، وقلّ عدد كتابها وشعرائها وذلك طوال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامنعشر، وكادت أن تطمر اللغة تحت التراب ويتمّ وأدها…

إلّا ان المفارقة جاءت من غير المسلمين حين قام رتلٌ من أدباء نشأوا في جبل لبنان الذي كان يتمتّعبنوع من الحكم الذاتي! نبشوا اللغة العربيّة من تحت الأنقاض وأعادوا إحياءها واستعمالها فيالمجالات الأدبيّة، ووضعوا المعاجم العربية والقواميس، وأنشأوا الجرائد في لبنان وفيمصر (الأهرام، الهلال، المقتطف، المقطَّم) وترجموا الكتاب المقدّس الى العربيّة بعد تأليفلجنة مؤلفة من بطرس البستاني وناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسيرالأزهريّ وغيرهم… وهكذا تطوّر الوضع فأخذت الكنائس تلاوة الإنجيل والرسائل باللغة العربية بدل السريانيّة!

في الاغتراب نشطت النهضة الأدبية العربية بفضل أدباء غير مسلمين، من أعضاء الرابطةالقلمية، بينهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وإيليا أبو ماضي وغيرهم… إلىأدباء من أصول لبنانية لعبوا دوراً كبيراً في النهضة العربية في مصر وفي أميركا الجنوبية.

خلاصة:  

  • يجب عدم دمج الإسلام مع اللغة العربية لأن الأمرين مختلفان ولا يتوجب على من يُتقن العربيةان يكون مسلماً ولا على المسلم أن يُتقنَ العربيّة.
  • بدأت اللغة العربية مع غير المسلمين كما أن النهضة الأخيرة أتت بمعظمها من غير المسلمين.
  • لم يثبت أن انتشار الدين الإسلامي يؤدّي حتماً الى انتشار اللغة العربيّة فالتاريخ والتجربة يُثبتنان ان البلدان التي أسلمت حفظت القرآن غيباً دون أن تتعلّم أو تُتقن اللغة العربيّة حتى يومنا هذا.
  • واجبنا أن نسعى لتصبح العربية لغةً عالميّة كالانجليزية أو الفرنسية أو الإسبانيّة فلا تبقى محصورةً في بعض البلدان العربيّة! ولا يكفي اعتمادها لغةً سادسة في منابر الأمم المتحدة!
قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s