آلمني جداً خبر وفاة ابنكم هنري وهو الذي لم أعرف عنه الكثير قبل رحيله! أصعب ما في هذه الحياة أن نخالف سنّتها والتي بُنيت على ان يرافق الإبن والده حتى مثواه الأخير لا أن يحصل عكس ذلك، فيودّع الأبُ إبنه وهو الذي سهر على تنشئته مذ فتح عينيه على الدنيا!
إن الإبن الذي ربا في كنفكم لا بدّ انه تحلّى بالكثير من القيم والأخلاق التي أخذها عنكم فيصحُّ فيه القول: “لا بدّ أنّ ذاك الشبل من ذاك الأسدِ”، وسيترك فقدانه جرحاً عميقاً قد لا يلتئم مطلقاً مهما طال الزمن!
وصلتني فائضٌ من رسائل التعزية الموجهة لكم، كون ان الكثيرين يعتبرونني من الأصدقاء المقربين لكم ، وأنا في حيرة بين أن أرسلها لكم اليوم أو أتريّث في اتخاذ هكذا قرار!
بالنيابة عن كلّ الذين عرفوا أدبكم وشعركم وأرسلوا لكم عبري رسائل المواساة وبالأصالة عن نفسي وعائلتي، أتوجّه منكم ومن أفراد العائلة كافة ًبالعزاء النابع من الصميم ونضرع إلى الله ان يرأف بولدكم في الدنيا التي هو راحلٌ اليها!
في خضمّ الرياح التي تعصفُ في بلادنا الأم وصلني خبر رحيلكَ، يا ابن عمّي هاني! كنتَ أوّل تربٍ رافقني مذ فتحتُ عينيّ على هذه الدنيا الفانية والتي عايشنا فيها الأمرّين خلال سنيّ عمرنا!
عادت بي الذكريات إلى أيامٍ مضت وكأنّي أحضر فلماً وثائقياً عن سنيّ حياتنا! كنّا طفلين ننظر الى الدنيا بشغف، وكأننا سنمتلكها، إلّا أنّ الواقع كان عكس ما تمنّينا!
أذكرُ الشقّة التي كنتم تسكنونها في منطقة راس النبع في بيروت كما أذكر تفاصيل كل غرفة من الغرف!
منذ ثلاثة أسابيع وردتني رسالة من صديق قديم، اسمه حسن خليل، كان يدرس معنا في الليسّيه الفرنسي، وقد سألني عنك! أخبرته أن صحّتك ليست على ما يرام، إلّا أنّي لم أتخيّل ان ساعة الوداع قد حان أوانها!
هل تذكر الثلاثة أسابيع التي أمضيناها في التدريب العسكري في بيت الدين؟ كانت أوّل مرّة نبتعد فيها عن شاطئنا! كانت المسافة التي تفصلنا عن منزلينا، في الرميلة ووادي الزينة، لا تزيد عن عشرين كيلومتراً ! كان الهواء أقل رطوبة عمّا تعوّدنا عليه!
أذكر أن الرقيب، في ليلة ما، لم يجدك في الخيمة عندما أجرى دورته الليلية! لذا حكم بأن يحلط شعرك المجعّد كقصاص لك! وكان ذلك قبل يومين من انتهاء التدريب!
صباح الرحيل لم ننتظر الباصات للعودة! حمل كلّ منا حقيبته ومشينا في الوادي حتى وصلنا إلى طريق دير القمر! استقللنا إحدى سيّارات الأجرة الذاهبة باتجاه الدامور! إلّا أننا ما ان وصلنا إلى “ملقى النهرين” ، الذي كان على مقربة من بلدة الدامور، حتى اشتممنا رائحة رطوبة البحر، فانهمرت دموعنا وأخذنا نبكي ولم نتمكن من تمالك أحاسيسنا!
أحببنا منطقتنا وبلادنا حبّاً لا يوصف! كم من الليالي أمضناها سوياً على الأسطح خوفاً من أن يغدر بنا أحد!
حبّنا لمنطقتنا لم يكفِ للحفاظ عليها! كانت النتيجة أن شُرّد جميع السكّان ولم يبقَ منهم مُخبّر! هرب الجميع أكانوا أطفالاً أو شبّاناً أو كهولاً أم شيوخاً! ولم يعد منهم أحد ما لم يكن ضمن صندوق خشبيّ ليوارى الثرى في مقبرة العائلة!
استودعك الله يا ابن عمّي!
بالنيابة عن زوجتي ميشا وابنتي دانه وعائلتها وبالأصالة عن نفسي، أتقدم بالعزاء النابع من القلب من زوجتك جاكلين ومن إبنيك رياض ورشاد وابنتك نايلا واختك دنيا وعائلاتهم وعائلات أخويك المتوفّين وليد ومكرم وأبناء وبنات أعمامك وعائلاتهم وكل الأقارب، وسيبقى ذكرك الطيّب في قلوب الجميع!
حيفي على أممٍ ثكلت أخلاقها وأضحى الشرّ يحكم مسارها فتسبّبت بموت كلّ من عاداها وخلّفت المآسي حول كلّ من جاراها!
ألمي ليس على الذين رحلوا عن دنيانا بل على مئات الآلاف من الشهداء الأحياء والذين سيعيشون بعاهاتهم كلّ ما تبقّى لهم من السنين التي سيحيون بها وهم يعانون ممّا أصيبوا به! كم من الذين أصيبوا بُترت أطرافهم أو بُقرَت أعينهم اوسُحقت عظامهم أو غير ذلك! سيذكرون بمرارة تلك الساعات الأليمة التي مرّوا بها وستدوم آلامهم حتى مماتهم!
أسفي ليس على المعابد التي هُدمت بالقدر الذي أجده لدى الذين زُهقت أرواحهم أو أُصيبوا في القصف! إنّ ما بناه الإنسان يعيدُ بناءه الإنسان أما ما نفخ فيه الرب فلا يعيده أحد!
إن القذائف التي تزن أطناناً “مطنّنة” والتي يجري رميها ليلاً لتظهرَ لهيبها في السماء الداكنة ليست ألعاباً ناريّة يُصفِّق لها المشاهدون، بل هي أسوأ ما توصّل له العلم في القضاء على كلّ من تواجد على مقربة منها!
أهلْ نسامحُ الذين يلعبون بالنار ويحرقون الأخضر واليابس ويتسبّبون بالقضاء على الآلاف من أولئك الذين لا ناقة لهم ولا جمل؟ بأيّ دين يؤمنون إذا كان إيمانهم يسمح لهم بهكذا إجرام؟
أمّا الدول التي تزوّدهم بقنابلها في الوقت الذي تدّعي فيه سعيها إلى السلم، فهل هي براء من أن يكونوا شركاء بالجرم؟
نشأ كلٌّ منا وهو يسمعُ، بين الحين والآخر، عن انقلاباتٍ في الميادين السياسية في بلداننا، أو البلدان المجاورة لها، وقد أدٌت تلك الانقلابات إلى سفك الكثير من الدماء البريئة في معظم الأحيان، كما نتج ظهور زعماء جدد كانوا أحياناً أسوأ من الذين قامَ زعماء الإنقلاب بالتخلّص منهم!
إلّا انه في الميدان الثقافي لست على علمٍ بأيّ انقلاب حدث في الماضي القريب أو البعيد، لتغيير رئيس مجموعة نظراً لاختلاف بالرأي بينه وبين أعضاء من مجلسِ المجموعة! وهذا مع لفتِ النظر أن من يصبح عضواً في تجمّع ثقافي لا يعني أبدا أن ذاك الشخص أصبح يُعدُّ مثقفاً مهما مكث في مركزه! المعضلة في مجتمعاتنا أننا نتباهى أكثر ممّا نستحق ونجعل من الكراهية سبيلاً لإفشال مشاريع غيرنا دون ان يكون لدى الانقلابيين أيّ فكرة جديدة! خلال السنوات الأخيرة عجز أيٌّ من أعضاء المجلس عن تقديم فكرة واحدة تؤدّي إلى عمل ثقافي جديد! أمّا إذا قرأنا نصاً كتبه أحدهم فنتساءل: هل غيّروا اسم المنتدى من ثقافي إلى غير ثقافي؟
“ولا تَظُنَّنَ الذين احتلّوا مراكزَ قد أصبحوا أهلاً لها
فكم من السفُنِ التي استوليَ عليها غرقت بخاطفيها”
وهنا لا بدّ من طرح بضعة أسئلة:
· هل يجوز تجاهل رأي الأعضاء لدى إجراء تغييرات في المجلس الإداري؟
· هل من الجائز تنحية رئيس المنتدى دون توجيه تهمة له؟ وهل يجوز إصدار حكم عليه دون السماح له بالدفاع عن نفسه؟
· هل يجوز تغيير رئيس المجلس دون دعوة الرئيس الى جمعية عمومية أو حتى اجتماع للمجلس الإداري؟
· استناداً إلى أي قانون يجوز لبعض أعضاء المجلس الإداري التنقّل خٍفية والذهاب ألى “مسجّل الشركات “لإجراء تعديلات في المراكز وتغيير الرئيس دون إعلام الرئيس نفسه؟
· هل من المقبول اعتبار الأعضاء مجرّد ارقام لا يوجد لهم أي حق في الإعلان عمّا يرغبون به؟
وتعود بي الذاكرة إلى واقعةٍ حدثت منذ قرابة العقدين. صاحب هذه الواقعة هو صديق كريم تربطني به علاقة مميزة تعود إلى سنين طويلة!
كنت وقئذٍ نائباً لرئيس إحدى الجمعيات الكبيرة والهامة في مونتريل. تمّ الإعداد لسهرة عشاء هامة في وسط المدينة وكانت بطاقة الحضور تصل إلى قرابة الثلاثمائة دولاراً. أمّا عدد الحضور فكان يفيض على الستمائة شخص! وكان الكثير من المدعوين من الشخصيات البارزة في البلاد وبينهم وزراء ونواب وغير ذلك!
كنت أجلس على طاولة قريبة مما يسمى بطاولة الشرف. وكان بين الذين كانوا على تلك الطاولة شخصٌ يمثّل الجهة التي ينتمي إليها على الصعيد الكندي، بينما تمّ إجلاس من يمثّل تلك الجهة على صعيد كيبيك على طاولة قريبة جلس عليها عدد من النواب!
بعد ان جرى الترحيب بالشخصيات الرسمية، انسحب صديقي من طاولته وترك الاحتفال!
ما ان جاء نهار الاثنين حتى وصلني اتصال من مكتب صديقي. ما ان أخذت المكالمة حتى انهال عليّ بكلامٍ قاسٍ لم أسمعه من قبل! قال لي: “تمّ إعلامي أنك كنت المسؤول عن إجلاس المعازيم!” أجبته بالنفي وبأنني لم أتدخّل بالأمر إلّا أنني على علم أنهم استشاروا البروتوكول! قام بلعن البروتوكول وقال:” ليتكلم معي مسؤول البروتوكول ويشرح لي موقفه!” وإذ وجدت أني أمام حاجز لا أستطيع تجاوزه، توجهت نحو صديقي قائلاً: “صاحب السعادة، انت من تُشرّف الطاولة، وليست الطاولة التي تُشرفك! ” ثمّ استطردتُ قائلاً بعد ان توقّف عن الحديث: “والطاولة التي تجلس عليها تصبح طاولة شرف أينما كانت!”
أجابني أنه لا يريد أجوبة دبلوماسية، إنما تمكنت من تجاوز المحنة وانتهى النقاش!
كلّنا يذكر قصّة سليمان الحكيم عندما أتته امرأتان ووقفتا في حضرته وطلبتا منه الفصل بينهما حول أمومة مولود تتنازعان أحقّيّته! وإذ لم يتمكّن من الفصل بين المرأتين طلب سيفاً من حاشيته وقال: “سأقطع هذا المولود قسمين وأُعطي كلّ امرأة نصف هذا الطفل! فما رأيكما؟” وافقت الأم المدّعية على الحل، إلّا أنّ الأم الحقيقية رفضت وقالت: “أعطها المولود ولا تقطع إبني!” عندئذٍ حكم سليمان الحكيم وقال: “هذه هي الأم الحقيقية، أما تلك فهي مزيّفة!”
لذا كان من الواجب أحياناً استنفاد بعض الأساليب كي لا نقضي بسرعة على صرح أخذ بناؤه الكثير من الجهود بينما قام الآخرون بوضع العصي في عجلات العربة التي تُقلّ الجموع نحو الأمام!
قصّة ثانية حدثت بالفعل منذ عقود في جنوب لبنان! وإذ ان “الواسطة” كانت دوماً العامل الأهم في اختيار المؤهّلين للمناصب، قام أحد السياسيين الكبار بتعيين أحد “زِلمِهِ” في منصب ٍ في وزارة التربية. مرّت السنون وإذ بالموظف يعود لزعيمه مستنجداً:” يا بيك! لقد قام مجلس الخدمة المدنيّة بتأليف لجنة فاحصة، وأنا لا أفقه كتابة اسمي!” أجابه البيك: “أترك الأمر لي، فسأقوم بحلّه!” بعد أسابيع عاد الموظّف للإستفسار فقال له البيك: “حلّينا المعضلة! عيّنّاك باللجنة الفاحصة!”
وهكذا نجد البعض، حتى في أيّامنا هذه، ما أن يستلموا منصباً ليسوا أهلاً له، ينتقدون نصوص من يفوقونهم كفاءة واقتداراً!
وبالخلاصة: “لا تخشَ كثيراً سليطي اللسان، بل اخشَ أكثر سليطي القلم، لان ما يكتبونه يلاحقك حتى بعد مماتك!”
منذ قرابة الثلاث سنوات توقّفت عن تكملة ما كنت قد بدأته من ذكريات عقد قراني. فمن أراد العودة إلى النصوص الثلاثة التي سبقت “الجزء الرابع” هذا، بإمكانه مراجعة مضمونها على موقع Bachirvision.com
وإذ قرّرتُ تمضية أسبوعين بجانب الأهل في لبنان، كانت والدتي قد أعدّت لي جدولاً حافلا بالزيارات. لم تعلِمني مسبقاً بالبرنامج التي تزمعُ القيام به، ولم تكن بَعْد قد درجت عادة الاتصال المسبق وأخذ موعد! وقتئذٍ من المقبول جداً ان يختار الزائر الموعد الذي يناسبه، وإن صدف عدم وجود أحد في البيت كان الزائر يقطف زهرة من الحديقة أو يلتقطُ عوداً خشبيّاً ويضعه في شبّاك المدخل وذلك للدلالة على ان أحدًا ما حضر للزيارة! وقبل ذاك الزمن، كانت المفاتيح ضخمة من الطراز القديم، وكان الثقب المُعدّ للمفتاح كبيراً ممّا يُمكّن من إدخال عودٍ بداخله، وكان الزائر يردّد بالعامية ما ان يلتقي الشخص الذي حاول زيارته: “جينا لعندكن ما لقيناكن ، حطّينالكن عود بقدْواحكن!”
قمنا بزيارة عدد لا بأس به من منازل المعارف والأصدقاء ، وكانت توجد فتاة مميّزة في كلٍّ مكان، إلّا ان قلبي لم يهف لأيّ منها، إذ كان متيّماً بتلك التي تركتها بالرياض! كان جسمي يتنقّل من مكان الى آخر، بينما بقيَتْ مشاعري ملتصقة بمكان بعدتُ عنه! مع أني كنت قد اتخذت قراراً بالابتعاد عن ميشا، إلا ان القلب لم يكن ليطيعَ القرار!
لذا عدتُ إلى الرياض دون أن ارتبط بفتاة جديدة، وقد شعرتْ والدتي أن تعلّقي بميشا يفوق قدرتها على التأثير على مشاعري!
إلّا أنّ ما لم يكن في الحسبان كان ان إحدى القريبات كانت قد نشرت خبراً مفاده أني ارتبطتُ بفتاة في لبنان وقد قمت بخطبتها !
في أول نهاية أسبوع لعودتي إلى الرياض لبّيت دعوة عشاء لدى قريب لي اسمه سعيد. كان يسكن الرياض منذ سنوات برفقة زوجته. كان طويل القامة، متجسّم البنية، ابيض البشرة، يرتدي نظارات سميكة تجعل عينيه تلمعان خلف عدستيها. كان من أفضلِ الناس خلقاً وما عرفت إنساناً بطيبته ومحبّته. كان العديد من الأقارب والأصدقاء قد لبُوا الدعوة، إلّا أني فوجئت بوجود ميشا برفقة والدتها بين الحضور. كانت قد صففت شعرها الكستنائي بنفسها، ولفّت طرفه السفلي نحو الداخل بشكلٍ متناسق، وكان طوله يصل إلى كتفيها! كانت ترتدي فستاناً بيجيّاً جميل التصميم، يُظهر تناسب قامتها. كانت تتابعني بنظرات عينيها رغم أن وجهها كان يدور نحو اليمين او نحو اليسار!
هممتُ بالوقوف وتوجّهت نحو الرواق الذي يؤدّي إلى باب المدخل وإذ بها تتبعني وتهمس بأذني: “يجب ان نتكلم!”
خرجنا إلى الباحة الخارجيّة وكان الطقس مائلاً إلى البرودة! فتحتْ حقيبتها التي كانت من نوع لوي ڤيتون وسحبت علبةً جلدية سوداء رقيقة لها إطار ذهبي، وفتحتها لتخرج منها سيجارة وضعتها بين شفتيها وأشعلتها بقدّاحة ذهبية مُميّزة!
مجّت من السيجارة شفّةًّ من الناحية اليمنى لفمها، ثمّ، بعد نحوٍ من ثانيتين أخرجت الدخان من تحت الناحية اليسرى لشفّتها العليا! حدّقتْ بعينيّ وقالت لي بابتسامة تهكّم: “مبروك!”
ابتسمتُ سائلاً: “مبروك على ماذا؟” أجابتْ: “وصلني خبر خطوبتك” أجبتها ضاحكاً: “لا صحّة لذاك الخبر! لم أخطب ابداً “. عندئذٍ لاحظتُ أنّ أساريرها انفرجت وخفّ التشنّج الظاهر في معالمها وتحوّل إلى ابتسامة أنارت وجهها بشكلٍ ينعكسُ سروراً على كلّ من تواجد بحضرتها!
تحادثنا طويلاً وكأنّنا أردنا رأب الصدع الذي ظهر لدى الإشكال الذي حصل مع الجارة التي كانت تسكن على الطابق نفسه مع عائلة ميشا، وذلك قبل ذهابي إلى لبنان!
قبل انتهاء السهرة دعتني للعشاء في اليوم التالي قائلة: “أنا لم أطبخ لك طعاماً بعد!” حضرتُ في الموعد المحدّد، وإذ كنت أصعد الدرج بطوابقه الأربعة، كنت كلّما اقتربت من طابقهم أتوقّع ان تطلّ الجارة من بابها لتواصل شجارها معي! إلّا أنها لم تظهر!
كان العشاء عبارة عن ستيك فيليه مينيون قامت بشيّها على “الغاز” بالإضافة إلى الفطر والبطاطس وذلك بالإضافة إلى السلطة التي قامت بإعدادها قبل ذلك! وكان الحساء من أطيب ما أكلت طوال حياتي…
واظبتُ مذ وصولي إلى مونتريال منذ ما يقارب الأربعة عقود إلى اصطحاب زوجني إلى دير مار أنطونيوس الكبير، في أوترمون، كلّ صباح أحد وذلك للمشاركة بصلاة القدّاس الإلهي. وكانت وما زالت تجري إقامة القداديس في صالة الكنيسة والتي كانت في السابق كنيساً يهودياً قبل أن تستحوذ عليه الرهبنة المارونية وتقوم بشرائه مع المبنى الكبير سنة ١٩٨٣. ومن اللافت للنظر ان الرهبنة، بالاشتراك مع الكثير من المتطوعين أمضوا مدة طويلة لإزالة النجوم المسدّسة والتي كانت منتشرة وموزّعة على المعالم كافةً.
كانت زوجتي، وما زالت، تعتبرُ حضورَ القداس نهار الأحد أمراً مهماً ليس بإمكانها التغاضي عن المشاركة فيه. كانت تجلس على نفس المقعد الخشبي كل أسبوع وكنتُ أجلس بجانبها. وإذ كنتُ انظر إلى من كان يجلس على المقاعد التي كانت من حولي، أكان ذلك قي وسط القاعة، أم الجناح الأيمن او الجناح الأيسر منها، كنتُ ألحظُ على مرّ الأسابيع أن أكثر العائلات التي تتردد على الكنيسة تجلس في نفس الأمكنة التي اختارتها في أول مرّة دخلت القاعة!
إلّا انه من المثير للتساؤل أن المتوافدين على الصلاة كانوا يتغيّرون، إمّا بفعل الوفاة، أو الانتقال إلى بلدٍ آخر، او السكن بعيداً عن الكنيسة حيث يتبعون رعايا جديدة في كنائس تمّ افتتاحها في أزمنة متلاحقة! ومع توافد عائلات كثيرة إلى مونتريال هرباً من الأزمات التي كانت تحلّّ في البلد الأم، كان تغيّر الوجوه في الكنيسة أمراً يحدث مع كلّ هجمة جديدة للوافدين!
بخلاف زوجتي، كنتُ أحبّ اللقاء الذي كان يحدث بعد كلّ قداس في الصالة السفلى تحت الكنيسة حيث كان يُقدم فنجان قهوة للذين يرغبون، وكنت استغلُ تلك المناسبة للقاء الكثيرين من الأصدقاء اوالذين كنت قد تعرّفت عليهم سابقاً، وتبادل الأحاديث في شتى المواضيع! أمّا زوجتي فكانت تُفضّل ان تغادر الكنيسة بمجرّد الانتهاء من القداس!
منذ سنوات معدودة، وفبل جائحة الكورونا، وإذ كانت الكنيسة تعجُّ بالمصلّين بمناسبة إقامة جنّاز الأربعين لأحد المتوفّين، أصررتُ على النزول إلى القاعة! بادلتني زوجتي بتحدٍ قائلة:” لماذا تريدُ النزول؟ أشارِطُكَ أنّكَ لن تجد أحداً يعرفكَ ولن تلتقي بأحدٍ يسلّم عليك!” رفعتُ حاجب عيني اليسرى ونظرتُ إلى وجهها وحدّقتُ بعينيها نظرة الذي يقبل التحدّي! إلّا أن المفاجأة كانت أني لم أجد وجهاً أعرفه بين كلّ تلك الجماهير وكنت كالغريب الذي يحضر للمكان لأوّل مرةً في حياته! إلا أن الحظ أراد الّا أخسر، فصادفتُ مارون الذي سلّم عليّ، و هو الذي يلمّ الصينيّة كلّ أحد في الكنيسة !
مساء سبتٍ ما، منذ قرابة العقدين من الزمن، دعانا الصديقان سمير ومي إلى حفل عشاء في منزلهما الكائن في جزيرة الراهبات القريبة من مونتريال! كانا قد قاما بدعوة ما يزيد على عشرة معازيم من بين الأصدقاء المقربين. بين الموجودين كان الأب زياد، وهو الراهب الذي كان يتولّى إدارة دير مار أنطونيوس الكبير وكان يرافقه أحد الرهبان! أما الاب زياد فقد تميّز بأخلاقه الكريمة وتفانيه في خدمة أفراد الرعيّة!
وإذ كنّا نجلس في الصالون، نظر الأب زياد نحو زوجتي وحدّق بعينيها مبتسماً من وراء نظارته المستطيلة، وتوجّه نحوها سائلاً: “يا ميشا! لاحظتُ في الآونة الأخيرة أنّكِ لم تعودي تحضرين قدّاس يوم الأحد! فهل من مانع؟” وإذ ميشا تُعرفُ بصراحة تزيد عن المسموح به أجابتهُ وقد عقدت حاجبيها: “وعْظتَكْ يا أبونا كتير طويلة”! والوعظة هي الموعظة التي يتلوها الأب بعد قرائته لمقطعٍ من الانجيل المقدس! جمُد الجو قليلاً حتى عدنا بعد دقائق إلى الجو الطبيعي!
بعد انتهاء العشاء ولدى استعدادنا للمغادرة، سأل أبونا زياد ميشا: “هل ستحضرين يا ميشا قداس يوم غد الأحد؟” أجابته قائلة: “إذا بتوعدني انك ما رح تطوّل الوعظة!” ضحك وقد هزًّ رأسه بالإيجاب!
في اليوم التالي قصدنا الكنيسة وكنا نتوقع وعظةً أقصر من اللواتي تعودنا ان نسمعها في الفترة التي سبقت ذاك الأحد، إلّا انه استهلّ وعظته بشرح طويل عن موقفه تجاه الذين يفضّلون موعظة قصيرة في حين أنه يفضل الإسهاب بالشرح عن الفكرة التي يود شرحها…
أيا رفيقة دربي… ها إن عقوداً قد انقضت مذ زفافنا، مذ أخذنا الطريق سوياً وانطلقنا نحو المجهول مساء ذاك النهار، وكان اليوم الذي تلى غارات إسرئيليّة على ضواحي بيروت ذهب ضحيتها المئات من الضحايا! في هذا اليوم استذكر تفاصيل ما حدث في تلك المناسبة! كانت إسرائيل قد دكّت خمسة جسور وممرات! أذكر أننا اضطررنا إلى النزول الى عمق الحفرة، بالسيارة التي كنا نستقلها، وذلك في منطقة السعديّات، على طريق بيروت! كان من المفترض ان نفرح في الوقت الذي كانت المئات من الجثث توارى الثرى! حتى الزهور التي تزيّن مناسبات الفرح تمّ إخفاؤها في صناديق السيارات! عاهدتُ نفسي من أوّل الطريق، على ان أكون خير زوجٍ للمرأة التي اقترنتُ بها! في ذاك الوقت، قد لا أكون أجمل الشبّان الذين تعرّفتِ بهم، أو أقواهم جسدياً، أو أكثرهم علماً، أو أثراهم، أو أفضلهم أناقة…إلّا أنّ كلينا فضّلَ اختياره على كلّ ما كان متوفّراً له، وكنتِ لي، ومازلتِ، أجمل مخلوقات الدنيا التي أعيش فيها! قد أكون أخفقت في الكثير من المناسبات التي كنتِ فيها تنتظرين منّي المزيد من السعي والنجاح، وقد أكون قد فشلت في أداء الدور الذي كنتِ تتوقعينه مني، وقد أكون قد عاملتكِ بصورة أقلّ حسناً ممّا تتوخّين… وقد لا أجدُ مبرراً لذلك، إنّما اعلمي أنّي صادقٌ تجاهكِ ولم أقصد سوءاً في أيّ تصرّف! قد لا تنفعني الأعذار التي أتقدّم بها، وبالأخص أنّي قد أعيد الكرّة في المرّة القادمة! في أيامنا هذه، عندما أجدُ الأعداد المتزايدة من الأزواج الذين يتطلّقون، أتساءل: هل عدم لجوئنا الى الطلاق مردّه الى تطابق أخلاقنا، وقلّة خلافاتنا، أو حبّنا الذي لا يقارن؟ لا أظنُّ ذلك، لأنّ الأهم من كلّ شيء أن نعلم أن كسرَ الجرّة لا يحلّ المشكلة وقد نتطلّق وتبقى المشاكل تلاحقنا! في النهاية، أختم بأطيب تمنياتي لك، وينبوع حبّي الذي لا ينضب، وأتمنى ان نعيش معاً ما تبقى لنا من العمر، على أفضل ما بإمكاننا، وان يعطينا الله الصحة التي تلزم كي نكمل المسيرة التي بدأناها منذ زمنٍ طويل! بشير مونتريال، ١٨ تموز ٢٠٢٤
لما اقتربت ساعة رحيل الصديق الأستاذ الملحّن إميل ديب، عادت بيَ الذكريات إلى أيامٍ مضت تعود إلى ما يزيد على ثلاثة عقود، مذ تعرّفت عليه في منزله الواقع على شارع ماكنزي في مدينة تيربورن، القريبة من مونتريال! وكأني كنت أتابع فيلماً وثائقيّاً، استعرضَ خيالي مجموعة من الأحداث والوقائع التي واكبتُهُ فيها!
كان قد أخبرني أنه، بعد ان ترك بلده الأم إثر الأحداث التي ألمّت بلبنان، وصل إلى مدينة تيربورن منذ قرابة الخمسة عقود وقام بشراء ذاك البيت منذ السنة الأولى لوصوله وقد عاش بين جدرانه طوال المدة التي أمضاها في كندا!
قبل ذلك كان له باعٌ طويل في التعليم، وقد قام بالتدريس في دمشق وبيروت وجبل لبنان! إلّا أنّ الشغف الذي لازمه لآخر أيامه كان حبّهُ للموسيقى وقد أتقنها وأبدع فيها من خلال المؤلفات الموسيقية الكثيرة التي تُخلّدهُ! كما أنه تعاقد مع الإذاعة اللبنانية وقام بتأليف العديد من الأغنيات وقام بالإشراف على تقديمها على أكمل وجه من ناحية الموسيقى والأداء وغير ذلك، وقد تم بثُّ تلك الأغاني على موجات الإذاعة وقد لاقت نجاحاً مرموقاً! بالإضافة إلى ذلك قام بنشر عدة كتب لتعليم الموسيقى باللغة العربية وهي تحمل الأسماء التالية: “فجر النغم ” و ” دو” و” ري” و” مي”.
قبل سنوات من وصول جائحة الكورونا، كنت أُداوم على زيارته صباح كلّ نهار سبت حيث كنا نشرب القهوة سوياً. كنت اصطحبُ في بعض الأحيان أحد أصدقائي وأذكر منهم الصديق نبيل لحّام والصديق جوزيف سكاف وقد تمكّنتُ بمساعدتهما من نشر ثلاثة كتب للأستاذ إميل ديب على “كندل “على الإنترنت وهم:” دو” و “ري” و” مي” وأصبح بالإمكان لمن يُحب ان يأخذ دروساً في الموسيقى باللغة العربية! كما توصّلتُ إلى الحصول على بعض تسجيلات من الإذاعة اللبنانية لكثير من الأغنيات التي قام الأستاذ إميل بتأليف موسيقاها، وقد قمنا بتسجيل الكثير منها على اليوتيوب! ويجب ألّا ننسى أنه قد تمّ نهبُ الكثير من تسجيلات الإذاعة اللبنانية التي كانت بحوزتها خلال الاحداث الدامية التي مرّ بها لبنان!
أما مدينة تيربون فتشتهر بالقسم القديم منها والذي يُعرف “بتيربون القديمة” وهي منطقة جميلة على طرف النهر، مليئة بالمباني القديمة العهد وفيها الكثير من المطاعم والمقاهي المشهورة! توصّلتُ إلى اكتشاف مقهى مبني على شكلٍ محمصة وهي تأخذ قسماً من المبنى الخشبي القديم! أما اسم المقهى فهو “محمصة النهر”.
داومتُ مع الأستاذ إميل على التردّد على ذاك المقهى صباح كل نهار سبت. كانت فتاتان تقومان بالخدمة. الأولى شقراء الشعر، بيضاء السحنة، زرقاء العينين، طويلة القامة، ولطيفة في تحدّثها واستقبالها للزبائن. أما الثانية فكانت سوداء الشعر، بيضاء البشرة، معتدلة القامة، جميلة المعالم، قليلة الكلام! ومع أنّي لا أحبّذ الجمال المضاف لدى اللواتي يتزيّنّ بالاوشام، إلّا ان تلك الفتاة كانت تخالف القاعدة كون الأوشام الظاهرة والتي رسمتها على ذراعيها وجسدها كانت تعطي رونقا جميلاً يختلف عمّا نجده عند غيرها!
كنا نجلس في إحدى زوايا المقهى، وكان يرافقنا بين حين وآخر أحد الأصدقاء!
في إحدى المرات كان يرافقني الصديق الإعلامي ڤكتور دياب. وفيما كنّا نحتسي قهوتنا، توجّهتْ نحو الطاولة التي كنا نجلس عليها سيدة في العقد السادس من العمر شعر رأسها مالس وقصير، بيضاء البشرة، زرقاء العينين، منتصبة القامة! بدت وكأنّها صاحبة المقهى. رفعت يديها قليلا وتوجّهت بالحديث نحو الأستاذ إميل والذي كان وقتئذٍ في أواخر الثمانينات من العمر، وقالت: “ما أجملك يا رجل! ما أجملك يا رجل!” ثم غيّرت اتجاهها ومشت نحو المطبخ!
بدا نوعٌ من الخجل على وجه الأستاذ إميل. تبادلتُ نظرات التعجّب أنا وڤكتور كون السيّدة انتقت الأستاذ إميل لتبدي إعجابها والذي يسبقنا بعقود من العمر!
خلال السنوات الأخيرة، داومتُ مساءَ كلِّ يوم على الاتصال بكَ، للاطمئنان عليك، خوفاً من أن تنزلق رجلكَ فتقع على الأرض ولا تجد من يُسعفكَ من بين الجيران المتواجدين في الحي!
إلّا ان الانزلاق الأخير كان أقوى من كلِّ ما تعرضتَ لهُ، فكان اللهُ في استلقائكَ، أنتَ الذي نذرتَ له حياتكَ، وقدّمتَ له صلواتكَ المُزيّنة بأفضل ما أبدعتَ من ألحانكَ!
كنتُ كُلّما كتبتُ نصاً في وداعِ أحد الأقارب أو المعارف، أقرأهُ على مسمعكَ، والآن، وانت الراحل، على من سأقرأُ كلماتي؟
انت من الرعيل الأخير لأناسٍ قلَّ وجودهم، وندرَ الوصول إلى أمثالهم، فقد أحبَّكَ كلُّ من عرفكَ واحترمكَ كلّ من تمكّن من التعرّف على أخلاقك ومزاياك!
إن البسمة التي زيّنت وجهكَ طوال حياتك ستبقى تشِعّ عبر الألحان التي قدّمتها عبر الإذاعة اللبنانية، والفنانين الذين غنوها، وفرق الكورال التي تردّدها في الصلوات!
بالنيابة عن زوجتي ميشا وابنتي دانه وعائلتها وعن تجمّع منتدانا الثقافي وبالأصالة عن نفسي، أتقدّم من ابنك الياس وابنتك لينا وعائلتيهما ومن أختك الراهبة جوزيف ومن افراد العائلة كافة بالتعازي النابعة من الصميم ونضرع إلى الله ان يبعد كلّ مكروه عن الجميع.