
وا فتّتاه!…
كانت قد تفتَّت شلّة اللقاء ظهر كل يوم ثلاثاء لتناول وجبة غداء في أحد المطاعم، وذلك بسبب جائحة الكورونا. ما ان ضعفَ خطر الإصابة بالمرض حتى عاد الزبائن الى ارتياد المطاعم بشكل شبه عاديّ. في أحد الأيام اتصل بي صديقي نبيل ليعلمني أنه التقى بالصديق فارس (الزحلاوي) في أحد مطاعم لاڤال وتناول كلٌّ منهما صحنَ فتّة حمّص! للحقيقة، أخذ على خاطري بعض الشيء، وذلك لأني لم أعلم بوجبة الطعام إلّا بعد ان تناولاها!
بعد أسبوعين من ذلك، وفي حدود الساعة الحادية عشرة صباحاً، اتصل بي نبيل مجدداً وسألني: “هل انت في لاڤال؟ “أجبته بالنفي، ثم قال لي أنه يمرّ بالسيارة مقابل المطعم الذي يقدّم أكلة الفتّة، فسألته: “اين يقع هذا المطعم؟” فأجاب:” مقابل “لا دييس” على “كوري لابيل” “! قلت له ان الوقت مازال مبكراً للغداء!”
ما ان تجاوزت الساعة ظُهر النهار حتى اتصلت بفارس وسألته ما إذا كان يريد تناول صحن فتّة، أجاب: “أنا لها”. قلتُ: “إذًا سأمرُّ لأخذك من مركز عملك.”
في طريقي اليه اتصلتُ بنبيل، إلّا أنه لم يرد على المكالمة، كما اتصلت بجوزيف (الزحلاوي أيضاً) والذي يبدو انه كان بعيداً عن هاتفه. قبل ان أصل الى مركز عمل فارس، اتصلتْ بي أحدى الصديقات، فسألتها ما إذا كانت تريد ملاقاتنا لتناول صحن فتّة! قالت “:أين؟” أجبتها :”لا أعرف اسم المحل انما كل ما أعلمه انه يقع على شارع “كوري لابيل” مقابل “لادييس”!” قالت: “بعد تناول الوجبة ستصبحان بحاجة لأخذ قيلولة!”
قبل ان نصل الى المطعم، وقد قاربت الساعة الواحدة بعد الظهر ، اتصل بنا نبيل رداً على مخابرتي واعتذر عن مشاركتنا لانه فرغ لتوّه من تناول طعامه!
دخلنا المطعم وجلسنا حول الطاولة النظيفة الوحيدة والتي كانت بجانب شبّاك الواجهة الأمامية، بينما تواجد عدد من من السيدات حول ثلاث طاولات، أما باقي الطاولات فكانت جاهزة للتنظيف بعد ان غادرها الزبائن الذين كانوا يجلسون حولها.
إلّا ان الخجل تملّك بي فجأة بعد أن نظرت عبر الزجاج نحو الناحية الثانية من الشارع وقرأت اسم المحل المواجه! لم تكن الصالة التي تحمل اسم “لا دييس” إلّا ملهىً للراقصات! تذكّرت أني ردّدت كببّغاء على السيدة التي اتصلت بي أنّي اقصدُ المطعم الذي يقع مقابل ذاك الملهى! تمنّيت ان تنشقّ الأرض وتبلعني! أوَظَنَّتْ السيدة أني من الذين يواظبون على التردّد على هكذا أمكنة؟
حضرت ابنة صاحب المطعم الى الطاولة وهي تعتذر عن تأخرها في تنظيف باقي الطاولات. كانت شابة، طويلة القامة، محتشمة الملبس، وجهها أبيض السحنة تزيّنه ابتسامة جميلة تنعكس على نظرة عينيها. بدأ صاحبي بالكلام: “بالنسبة لي، أريد صحن فتّة، إنما بدون ثوم”. قالت: “على راسي.” استطرد قائلا: “أُكرّر بدون أي ثوم، لأن أي وجود للثوم مرفوض تماماً”. أجابت: “فهمت!” ثمّ عاد للقول: “سأعيدُ الصحنَ لكم ولن أُسَدّد ثمنه إن اشتممت أية رائحة للثوم.” أومأتْ برأسها بالموافقة، مع أنّي لم أفهم إصرار صديقي وتكراره على عدم وجود الثوم في صحنه!
جاء دوري. قلتُ: “انا أيضاً بدون ثوم!” أنتفض صديقي وقال: “لماذا بدون ثوم؟ أنا مسألتي شخصيّة أما أنت فتأخذ صحنك عاديّا مع القليل من الثوم!” ومع أني لست من أكلة الثوم، إنما أفضّل ألّا يكون صحن الفتّة خالياً من أية نكهة للثوم! وتيمّناً بالقول “قليلٌ من الثوم يُنَكِّه طَعمَ الطعام”، شرحْتُ طلبي للفتاة فما كان منها إلّا أن قالت ضاحكة: “الثوم الذي لن نضعه في صحن صديقك سنضعه في صحنك”!
لم يأخذ الكثير من الوقت تحضير الصحنين، وإلّا بالفتاة تُحضرُ لنا طلبينا. يتمُّ تقديم كلّ طلبيّة في كاسة وتحتها صحن، وكلاهما من البورسلان الأبيض مع ملعقة كبيرة. أما بالنسبة لي، فقد أضافت حصّا كبيراً مقشّراً من الثوم وضعته على الصحن بجانب الكاسة!
كان طعمُ الطبق لذيذاً جدّاً مع أني كنت أشعرُ أني أقرقِشُ بين أسناني مكعّبات صغيرة للغاية من الثوم!
كنت سعيدًا جداً لدى عودتي الى المنزل، وما ان صعدتُ الدرج للسلام على زوجتي وكانت في الغرفة الكبيرة مستلقحة على الكنبة مقابل جهاز التلفزة حتى انتفضت صارخة: “ما هذه الرائحة؟ لا لن تدخل الغرفة وستستحم وتنام في الطابق الارضي”! فوجئتُ بوصول رائحة الثوم لها وما زلت ابعدُ عنها مسافة تزيد عن الخمسة أمتار! وكأني كنت أتنقّل وتواكبني هالة تسبقني من رائحة الثوم! فوجئتُ بردة الفعل هذه على الرغم من ان زوجتي تلجأ كثيرا لإدخال الثوم في طهيها!
خلعتُ ملابسي قبل الدخول الى الغرفة وتوجَّهت نحو الحمّام حيث استحممت طويلاً لنزع أية رائحة ثوم قد تكون علقت على جسمي! بعد ذلك نظفت أسناني بالفرشاة والمعجون وخيط التنظيف! ارتديت ملابس نظيفة ثم مضغتُ أربع حبات شوكولا، ثم أخذتُ أمضغُ علكة مستكة صنع غندور. أعدتُ تنظيف أسناني للمرة الثانية إلّا ان الإحساس بطعم الثوم بقي يتملك جوفَ فمي! خلدتُ الى السرير للنوم، إلّا ان العطش كان يؤرقني بين الحين والأخر وكنت أشعر أني أمضغ طبقة من الثوم بين أسناني!
قصدتُ المطعم بعد أسبوعين برفقة فارس، وما ان حضرت الفتاة لخدمتنا، قالت أنها ستقفل المحل بعد أقل من نصف ساعة! قلتُ لها مازحاً: في الوجبة الماضية لصحن الفتّة، لم يقتصر الأمر على طرد زوجتي لي من المنزل، بل إن أهالي الحيْ تجمّعوا وطردوني! هذه المرة لا أريد أن أُطردْ، وإلّا سأبيت عندكم في المطعم! ضحكت وذهبت لإحضار الطلبيّة!
ما ان فرغنا من تناول الطعام وكانت قد روت لوالدتها ما حصل لي في المرَّة الماضية، حتى توجّهتْ نحوي الوالدة قائلة: إذا تمّ طردكَ فمحلّك محفوظ هنا!