وا فتَّتاه!…

وا فتّتاه!…

كانت قد تفتَّت شلّة اللقاء ظهر كل يوم ثلاثاء لتناول وجبة غداء في أحد المطاعم، وذلك بسبب جائحة الكورونا. ما ان ضعفَ خطر الإصابة بالمرض حتى عاد الزبائن الى ارتياد المطاعم بشكل شبه عاديّ. في أحد الأيام اتصل بي صديقي نبيل ليعلمني أنه التقى بالصديق فارس (الزحلاوي) في أحد مطاعم لاڤال وتناول كلٌّ منهما صحنَ فتّة حمّص! للحقيقة، أخذ على خاطري بعض الشيء، وذلك لأني لم أعلم بوجبة الطعام إلّا بعد ان تناولاها!

بعد أسبوعين من ذلك، وفي حدود الساعة الحادية عشرة صباحاً، اتصل بي نبيل مجدداً وسألني: “هل انت في لاڤال؟ “أجبته بالنفي، ثم قال لي أنه يمرّ بالسيارة مقابل المطعم الذي يقدّم أكلة الفتّة، فسألته: “اين يقع هذا المطعم؟” فأجاب:” مقابل “لا دييس” على “كوري لابيل” “! قلت له ان الوقت مازال مبكراً للغداء!”

ما ان تجاوزت الساعة ظُهر النهار حتى اتصلت بفارس وسألته ما إذا كان يريد تناول صحن فتّة، أجاب: “أنا لها”. قلتُ: “إذًا سأمرُّ لأخذك من مركز عملك.”

في طريقي اليه اتصلتُ بنبيل، إلّا أنه لم يرد على المكالمة، كما اتصلت بجوزيف (الزحلاوي أيضاً) والذي يبدو انه كان بعيداً عن هاتفه. قبل ان أصل الى مركز عمل فارس، اتصلتْ بي أحدى الصديقات، فسألتها ما إذا كانت تريد ملاقاتنا لتناول صحن فتّة! قالت “:أين؟” أجبتها :”لا أعرف اسم المحل انما كل ما أعلمه انه يقع على شارع “كوري لابيل” مقابل “لادييس”!” قالت: “بعد تناول الوجبة ستصبحان بحاجة لأخذ قيلولة!”

قبل ان نصل الى المطعم، وقد قاربت الساعة الواحدة بعد الظهر ، اتصل بنا نبيل رداً على مخابرتي واعتذر عن مشاركتنا لانه فرغ لتوّه من تناول طعامه!

دخلنا المطعم وجلسنا حول الطاولة النظيفة الوحيدة والتي كانت بجانب شبّاك الواجهة الأمامية، بينما تواجد عدد من من السيدات حول ثلاث طاولات، أما  باقي الطاولات فكانت جاهزة للتنظيف بعد ان غادرها الزبائن الذين كانوا يجلسون حولها.

إلّا ان الخجل تملّك بي فجأة بعد أن نظرت عبر الزجاج نحو الناحية الثانية من الشارع وقرأت اسم المحل المواجه! لم تكن الصالة التي تحمل اسم “لا دييس” إلّا ملهىً للراقصات! تذكّرت أني ردّدت كببّغاء على السيدة التي اتصلت بي أنّي اقصدُ المطعم الذي يقع مقابل ذاك الملهى! تمنّيت ان تنشقّ الأرض وتبلعني! أوَظَنَّتْ السيدة أني من الذين يواظبون على التردّد على هكذا أمكنة؟

حضرت ابنة صاحب المطعم الى الطاولة وهي تعتذر عن تأخرها في تنظيف باقي الطاولات. كانت شابة، طويلة القامة، محتشمة الملبس، وجهها أبيض السحنة تزيّنه ابتسامة جميلة تنعكس على نظرة عينيها. بدأ صاحبي بالكلام: “بالنسبة لي، أريد صحن فتّة، إنما بدون ثوم”. قالت: “على راسي.” استطرد قائلا: “أُكرّر بدون أي ثوم، لأن أي وجود للثوم مرفوض تماماً”. أجابت: “فهمت!” ثمّ عاد للقول: “سأعيدُ الصحنَ لكم ولن أُسَدّد ثمنه إن اشتممت أية رائحة للثوم.” أومأتْ برأسها بالموافقة، مع أنّي لم أفهم إصرار صديقي وتكراره على عدم وجود الثوم في صحنه!

جاء دوري. قلتُ: “انا أيضاً بدون ثوم!” أنتفض صديقي وقال: “لماذا بدون ثوم؟ أنا مسألتي شخصيّة أما أنت فتأخذ صحنك عاديّا مع القليل من الثوم!” ومع أني لست من أكلة الثوم، إنما أفضّل ألّا يكون صحن الفتّة خالياً من أية نكهة للثوم! وتيمّناً بالقول “قليلٌ من الثوم يُنَكِّه طَعمَ الطعام”، شرحْتُ طلبي للفتاة فما كان منها إلّا أن قالت ضاحكة: “الثوم الذي لن نضعه في صحن صديقك سنضعه في صحنك”! 

لم يأخذ الكثير من الوقت تحضير الصحنين، وإلّا بالفتاة تُحضرُ لنا طلبينا. يتمُّ تقديم كلّ طلبيّة في كاسة وتحتها صحن، وكلاهما من البورسلان الأبيض مع ملعقة كبيرة. أما بالنسبة لي، فقد أضافت حصّا كبيراً مقشّراً من الثوم وضعته على الصحن بجانب الكاسة!

كان طعمُ الطبق لذيذاً جدّاً مع أني كنت أشعرُ أني أقرقِشُ بين أسناني مكعّبات صغيرة للغاية من الثوم!

كنت سعيدًا جداً لدى عودتي الى المنزل، وما ان صعدتُ الدرج للسلام على زوجتي وكانت في الغرفة الكبيرة مستلقحة على الكنبة مقابل جهاز التلفزة حتى انتفضت صارخة: “ما هذه الرائحة؟ لا لن تدخل الغرفة وستستحم وتنام في الطابق الارضي”! فوجئتُ بوصول رائحة الثوم لها وما زلت ابعدُ عنها مسافة تزيد عن الخمسة أمتار! وكأني كنت أتنقّل وتواكبني هالة تسبقني من رائحة الثوم! فوجئتُ بردة الفعل هذه على الرغم من ان زوجتي تلجأ كثيرا لإدخال الثوم في طهيها!

خلعتُ  ملابسي قبل الدخول الى الغرفة وتوجَّهت نحو الحمّام حيث استحممت طويلاً لنزع أية رائحة ثوم قد تكون علقت على جسمي! بعد ذلك نظفت أسناني بالفرشاة والمعجون وخيط التنظيف! ارتديت ملابس نظيفة ثم مضغتُ أربع حبات شوكولا، ثم أخذتُ أمضغُ علكة مستكة صنع غندور. أعدتُ تنظيف أسناني للمرة الثانية  إلّا ان الإحساس  بطعم الثوم بقي يتملك جوفَ فمي! خلدتُ الى السرير للنوم، إلّا ان العطش كان يؤرقني بين الحين والأخر وكنت أشعر أني أمضغ طبقة من الثوم بين أسناني!

قصدتُ المطعم بعد أسبوعين برفقة فارس، وما ان حضرت الفتاة لخدمتنا، قالت أنها ستقفل المحل بعد أقل من نصف ساعة! قلتُ لها مازحاً: في الوجبة الماضية لصحن الفتّة، لم يقتصر الأمر على طرد زوجتي لي من المنزل، بل إن أهالي الحيْ تجمّعوا وطردوني! هذه المرة لا أريد أن أُطردْ، وإلّا سأبيت عندكم في المطعم! ضحكت وذهبت لإحضار الطلبيّة!

ما ان فرغنا من تناول الطعام وكانت قد روت لوالدتها ما حصل لي في المرَّة الماضية، حتى توجّهتْ نحوي الوالدة قائلة: إذا تمّ طردكَ فمحلّك محفوظ هنا!

قياسي

مطعمان وباقة فجل

مطعمان وباقة فجل

منذ سنوات معدودة، وقبل جائحة الكورونا اللعينة، كنّا شلّة من الأصدقاء الذين اتفقوا على تناول وجبة الغداء كلّ يوم ثلاثاء في مطعم يتمّ اختياره في بداية الأسبوع بين الأمكنة العديدة المتوفّرة في مدينة مونتريال. قلّما كان عددنا يتجاوز الستّة أشخاص، وكان معظم الأصدقاء يتحدّرون من مدينة “زحلة.”

انتقينا في أحد اللقاءات مطعماً يقع على ناصية “مارسيل لوران”، وقد اشتهر بتنوّع صحون المقبّلات التقليديّة واللحوم المشوية والشيش طاووق. كان أصحاب المطعم ممّن توافدوا على مونتريال في أزمنة حديثة بعد أن تركوا البلد الذي نشأوا في ربوعه على إثر الأحداث المؤلمة التي ألمّت به! وكان من الطبيعي أن يلجأوا الى المهن الحرّة، كون الوظائف لم تكن متوفّرة كثيراً لحديثي العهد في هذه البلاد! 

كانت قلّة خبرة النادل واضحة، إذ ما أن طلبنا أكواب ماء للشرب حتى وزّع على كلٍّ منّا زجاجة بلاستيكية تحمل اسم المصنع الذي تم تعبئتها فيه.  ما ان طالبنا بكؤوس زجاجيّة حتى صاح مستغرباً: “بدكم كاسات؟”

طلب أحد الموجودين بيننا طبقاً من السمك. أجابه النادل أن ذاك غير متوفّر في المطعم، إنما لديهم طبق من المشاوي “بتَتْبيلة” السمك. طلب صاحبنا الطبق ليُفاجأ بأن الصحن لا يحوي سمكاً بل قطعاً من اللحوم المشوية وعليها بعض البهارات المنوّعة!

أمّا بالنسبة لي فقد طلبتُ صحناً من الفول المدمّس، كما طلب ذلك اثنان من الأصدقاء.  طلبتُ أيضاً طبقاً من “المحمّرة” لأفاجأ بأنهم لا يعرفون ما هي! قلت أننا كنا نخال ان هذه الأكلة أتت من بلادكم! قال: “سأحضر لك معجون المحمّرة”، وهكذا وضع أمامي صحناً من ذاك المعجون، الذي كان طعمه قريبا من طعم المحمّرة باستثناء نكهتها المميّزة!

لما تمّ استحضار أطباق الفول، فوجئت بعدم وجود الفجل في صحن الخضار الذي لم يكن يحوي إلّا على بعض قصاصات الخس، وثلاث قطع صغيرة من البصل الأخضر! أما عن الفجل الذي قلّما اتناوله إلا مع الفول، كان جواب النادل أنهم لا يتناولونه مع الفول!

في الأسبوع التالي قصدنا مطعماً آخر في نفس المنطقة، أصحابه يتحدرون من نفس البلد الذي يتحدّر منه أصحاب المطعم الأول. كان الديكور جميلاً ويتميّز عن الأوّل بوجود الخشبيّات على الجدران مع رفوف تحمل قطعاً مزخرفة صُنعت في بلادنا. عندما تمّ تزويدنا بلائحة الطعام ، لم أردْ أن أردّد طلب صحن الفول، فسألتُ النادل: “هل لديكم بَليلة؟” أجابني متسائلاً: “ما هي البَليلة؟” قلتُ بتعجّب: “لا تعرف البَليلة وكنت أظنّ أنكم من أدخلها الى بلادنا!” ثمّ استطرد قائلاً: “أهذا هو الطبق الذي يتم تحضيرة بالحمّص والصنوبر وزيت الزيتون…” قلتُ له: “نعم.” قال “لا بأس، سأحضّره لك! هذا صحن مشهور في عاصمة بلدنا، ونحن لا نعرفه كثيراً”. سألته: “هل تريد الاستعانة بغوغل؟” قال: “لا، سأتدبّر أمري!” وقبل ان يغادر الطاولة سألته: “هل لديكم فجل؟” أجاب بالنفي! قلت له اني ساذهب آلى السوبرماركت لاستحضار باقة وأعود قبل ان ينتهي من إعداد الطبق!

قصدتُ “سوبر سي” وما ان دخلتُ حتى وجدت كوماً من باقات الفجل. أخذت باقةً منه وبينما توجّهت نحو الصندوق لتسديد ثمنه، اتصلتْ بي زوجتي تسألني: “ماذا تفعل؟” أجبتها: “هل تُصدّقين أنّي بصدد استحضار باقة فجل للمطعم؟” ضحِكتْ دون ان تُصدقني!

وهكذا عدتُ الى المطعم مع باقتي، وكانت أكلة بليلة لن أنساها طوال حياتي!    

قياسي

يمام

يمام

ورد على مسمعي مؤخراً اسمٌ تحمله سيدة مثقّفة من بلادنا! وإذ ان هذا الاسم قلّما صدفتُ وجوده بين معارفي، لمستُ أنه أعادَ بذاكرتي إلى أيام طفولتي في بيروت حيث نشأتُ وترعرعت، وبالأخص لتلك الفترة التي كنت بلغت فيها العقد الأوّل من عمري!

الاسم هو “يمام”. وحسب معلوماتي اللغويّة المتواضعة، “اليمام” هو صيغة الجمع “لليمامة” وهي الحمامة البرّيّة.

 كنّا نسكن شقّة في الطابق الرابع من مبنى يقع في منطقة “الخندق الغميق” في وسط المدينة. كانت واجهة المسكن تطلُّ نحو الغرب، لذا كانت فترةُ بعد الظهر تجعل منه يعاني من حدّة الشمس مما يضطّرّنا الى إغلاق الأباجورات الخشبيّة للتخفيف من وطأة الحر!

مع أن شرفة الشقة كانت تجمع بين غرفتَي النوم، إلّا أنها كانت متطايرة فوق الطريق، تعلو شرفتين تقعان تحتها. كانت تلك الشرفة أشبه بمقاعد “اللوج” في أحد المسارح، بيد ان الفارق أن المسرح يعيشُ وقت المسرحيّة، بينما الشارع حيّ طوال النهار، بين بائع السحلب في الصباح الباكر، الى بائعي الخضار والفاكهة الذين ينادون على ما يعرضون، ودكانة  إم سيروب، إلى بائعي الدجاج، إلى المنادين على الكعك للعصرونيّة، الى الذين يبيعون غزل البنات، الى صندوق الفرجة، الى المنادين على مِهَنهم كالمبيّضين للأواني النحاسية، والمنجّدين، الى سنّاني السكاكين، الى بائعي الكاز والى ما هنالك …

في صبيحة النهار، كنا نشاهد وسط زُرقة السماء رفوف اليمام تطير مجتمعة على شكل أسراب كبيرة، تحمل شكل غيمة تكاد تحجب نور الشمس لهُنَيهة عندما تمرّ أمامها، وهي ترتفع نحو السماء ثمّ تغوص نزولاً نحو الأرض وكأنها تتبع أوامر من قائد المجموعة!

أما في المغرب فكان المنظر يزداد جمالاً مع حمرة الأفق المُتخفّي وراء الغيوم!

ذات يوم، لمحت يمامة بيضاء حطّت على درابزين الشرفة المبلطح والمصنوع من الباطون. حتى شرشف الدرابزين كان مصبوباً على قوالب خاصة مما يجعله أشبه بالقطع المنحوتة! أما اليمامة، بريشها الأبيض الناعم وعينيها الجميلتين الملوّنتين بشكل يصعب وصفه، فأخذَت تتمختر على مصطبة الدرابزين ثم طارت واختفت!

عقدتُ العزم على التقاطها. جئت ببعض البرغل وفلشته على المصطبة. ثم أخرجت من المنزل قطعة بساط صغيرة فرشتها على الأرض وجلست عليها بشكل لا يظهر به رأسي!

انتظرتُ طويلاً، زهاء الساعة أو أكثر! وإذ بي أجدها تحطّ بالقرب من حبات البرغل. وبلمحة بصر كانت يدي اليمنى تمتد نحوها وتمسكها من رجليها. حاولتْ التخلّص من قبضتي وهي تُصفق بجناحيها، إنما لا فائدة من ذلك. دخلتُ بها الى غرفة النوم وأقفلت الباب الزجاجي ثم تأكدت من ان جميع الشبابيك موصدة، ثم وضعتها على الأرض. حاولت الفرار نحو زجاج النافذة إلّا انها اكتشفت أنها حبيسة المنزل!

حاولت الطيران داخل المنزل انما المسافة كانت قصيرة. كنت سعيداً بإنجازي على الرغم من ان اليمامة فقدت حريّتها. بعد ان تعبتْ من محاولات الطيران حطّت على الأرض وأخذت تتنقّل على رجليها بين غرفة وأخرى. زوّدتها بالبرغل علّها تأكل إن جاعت، كما وضعت لها كوباً من الماء لتشرب.

في المساء رافقتنا الى الصالون حيث كنا نتابع البرامج التلفزيونية. أدهشها جهاز التلفزة بنوره وحاولت الاقتراب قدر الإمكان من الشاشة المضيئة!

صباح اليوم التالي كان لا بدّ من فتح النوافذ، وإذ بها تفرّ نحو الخارج وتطير بجناحيها فوق الأبنية والشوارع!

خال لي أني لن أراها بعد ذلك! إلّا انها عادت بعد يومين ودخلت المنزل الذي تعودَت على أرجائه! مكثَتْ بضع دقائق ثم لاذت بالفرار… وبقيتُ انتظر عودتها طويلاً…ولا أزال!

قياسي

نتغنّى بها ولا نُتقنها

 نتغنّى بها ولا نُتقنها

قد لا أعرفُ شعباً على وجه البسيطة يتغنّى بلغته المكتوبة بالقدر الذي نجد فيه شعوبنا العربيّة تتغنّى بالفصحى وتعتبرها تتفوّق برونقها وجمالها على كلّ لغات الأرض! إلّا ان المؤلم االمُبكي هو أننا قد لا نجد إلّا قلائل ممّن يُحسنون كتابتها وصياغتها دون ان يرتكبوا أخطاء لغويّة وتشكيليّة متعدّدة!

والمؤسف أيضاً أن الكثيرين ممّن يدّعون نصرة اللغة هم أبعدُ الناس عن قراءتها بالشكل الصحيح أو كتابتها من دون ارتكاب أخطاء! وهم أنفسهم الذين أخفقوا في المحافظة على أولويّة التحدث بها لدى أبنائهم، أولئك الذين يفضلون التحدّث بلغة أجنبيّة على التخاطب بلغة الأجداد، كون هذه اللغة توقّفت عن التطور في زمنٍ ما، وأضحت ملايين الكلمات المتوفّرة فيها غير مفيدة وعاجزة عن إيجاد كلمات تصف الكثير من المواقف والمستلزمات التي استحدثها التطور. حتى الألقاب أخفقنا في إيجاد مرادفات لها، ومن بين ما يثير حافظتي استعمال كلمة “دكتور” فنقول مثلاً “دكتوراه في اللغة العربية”!     

ممّا لا شكّ فيه ان اللغة العربية مقيّدة بقواعد كثيرة ومعقّدة ومن الواجب الإلمام بها للتوصّل الى كتابة نصوص صحيحة من النواحي اللغوية ! لذلك لا يمكننا تجاهل الساعات الطويلة التي يمضيها الطالب لتلقّن اللّغة العربية في الصفوف الابتدائية والثانوية دون ان نتساءل عن الإخفاق المريب لدى النشء الجديد في المحافظة على ما تعلّمه خلال سنيّ الدراسة!

ومن مفارقات لغتنا الكريمة تميّزها الظاهر على مستويين:

  • مستوى كتابة النص:

يُظهر النصُّ المكتوب الكلمات بأحرفها كافة، دون ان يُظهر للعيان تشكيل الأحرف ، فيما عدا ما يتوجب من أحرف العلّة! 

  • مستوى قراءة النص:

أمر قراءة النص يختلف جداً عن كتابته، والكاتب الذي لا يُخطئ في كتابته قد نكتشفُ انه يُخفقُ في قراءته له وذلك لعدم مراعاته للتشكيل الصحيح، وهذا ما قد يؤدّي الى قلب المعاني وقد نجد الفاعل يُصبح مفعولاً به، وغير ذلك من المفارقات! لذا، في اللغة العربية، من الهام جداً فهم النص قبل مباشرة القراءة، وذلك بعكس اللغات كافة التي تتيح للقراء فهم النص لدى قراءته!

ومن المستغرب ايضآ انه لدينا عدد كبير من المثقّفات والمثقفين الذين ينضحون بنفحات شعريّة جميلة، إلّا ان معظمهم يصرّون على نشر نتاجهم بأخطائه اللغوية قبل مراجعته من قبل متمرّسين وتصحيحه، مما يجعل النصوص تفقد الكثير من قيمتها الأدبيّة!

وعلى صعيد “تجمّع منتدانا الثقافي” آثرنا منذ البداية على حثّ الأعضاء وأصدقائهم على الكتابة بالشكل الصحيح والابتعاد عن ارتكاب أخطاء لغوية. ومع أني لمست تحسّنا لدى كثيرين وكثيرات في أدائهم اللغوي، إلّا ان البعض مصرّ على ارتكاب نفس الأخطاء يوما بعد يوم على الرغم من لفت نظرهم مرّة بعد أخرى الى تلك الأخطاء! 

قياسي

تمنياتي لهذا العيد

صورة

التمييز العنصري وأشكاله

التمييز العنصري وأشكاله

تعريف التمييز العنصري:
“هو الاعتقاد بأن الأجناس المختلفة تمتلك خصائص أو قدرات أو صفات مميزة خاصة لتمييزها على أنها أقل شأناً أو متفوقة على بعضها البعض.”
كنّا نخالُ ان التمييز العنصري يقتصر على لون البشرة الذي يُميّز بين شعبٍ وآخر! إلّا ان المسألة معقّدة أكثر من ذلك وتطال أنحاء متعددة من خصائص الإنسان التي يكتسبها إمّا بالوراثة أو من البيئة التي ينشأ فيها. وإذ إن التنبّؤ بالنجاح الذي قد يناله الفردُ لاحقاً بعد ترعرعه قد يكون من الصعب التكهّن به، لأنّ فشلاً مرتقباً قد يصيب كثيرين مذ ولادتهم، وحتى قبل ان يولدوا وهم ما زالوا في أحشاء أمهاتهم!
لم تُفلح كل القوانين التي تمّ سنها عبر العقود الأخيرة، ولا حتى الأديان التي ذاع تبشيرها خلال عهود طويلة، في ان تمنع التمييز العنصري الذي ما زلنا نعيش أصداءَهُ ومفاعيله في أنحاء العالم كافة! وإذ ان ذاك التمييز متعدّد الأصول والأسباب، لا بد من التمييز بين فصائله، مع العلم ان كثيرين قد يَجمعون في تكوينهم جملةً من تلك العناصر في آنٍ معاً! وفي الوقت الذي نستعرض فيه الكائنات الحيّة التي تعيش في عالمنا، والتي قد يعيش الكثير منها على شكل قبائل، نجد ان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يُحبّ التحكّم بمثيله وبالأخص ذاك الذي لا يتحدّر من أصوله ذاتها!
تعداد عناصر التمييز:
o من حيث الشكل:
• لون البشرة:
يعدّ لون البشرة من أهم العناصر التي فرّقت بين الشعوب وما زالت تُميّز بينها. وإذ كان كل شعب في الماضي يعيش ضمن نطاق معيّن، إلّا ان الغزوات والهجرات المتتالية خلطت بين الشعوب دون أن تمحو ذاك التباين الظاهر.
• ملامح الوجه:
وتختلف الملامح بين شعب وآخر بشكل يُسهّل التمييز بينها، وذلك انطلاقا من هيكل الوجه، الى بروز الفك، الى شكل الأنف، الى لون العينين، الى شكل الحاجبين، الى شعر الوجه، الى بروز الشفتين الى ما هنالك من صفات يكثر تعدادها ووصف تفاصيلها.
• الشَّعر:
والشَّعر بدوره يكشف عن معالم الاختلاف بين الشعوب وذلك عبر اللون الذي يتنوّع من الأشقر، الى الأرجواني، الى الكستنائي الى الأسود دون ان ننسى مدى كثافته وما إذا كان أملساً أو مموّجاً أو مجعّداً، الى جانب بعض الرجال الذين يتساقط شعرهم مع العمر. وعلى الرغم من ان تلوين الشعر وتمليسه أو تمويجه أصبحت من المداخلات التي يسهل تنفيذها، فالتأثير الذي يحدثه على حياة فردٍ ما ما زال متواضعاً!
• الجسد:
كان الجسد في الماضي يلعب دوراً أكبر من الذي يقوم به اليوم من حيث القدرة العضلية التي يتفوق بها فرد ما عن
غيره. إلّا ان هذا التميّز قلّ فعله بتوافر الأسلحة الحديثة التي لا تنفع معها القوى الجسدية! إلّا ان طول القامة او قصرها وسمنة الجسم او رقّته وتناسق الأعضاء فيما بينها وتغطية الشعر للجسم او انتفاء وجوده، وطريقة المشي والتنقل والتعبير وغير ذلك من الأمور تؤثر سلبا او إيجابًا على شخصية الفرد. ويجب الّا ننسى الروائح التي تفوح من الجسم والتي يعتبرها البعض عطراً بينما ينفر منها البعض الآخر!
• جنس المولود:
ما ان يُبصر المولود الجديد النور حتى نُفاجأ بسؤال يطرحه الأقرباء والأصدقاء: “ما جنس المولود؟” وذلك نابع من الاعتقاد السائد ان الذكر أفضل من الأنثى، وهذا ما لم يتغيّر حتى اليوم رغم كل القوانين التي تمّ سنها، ورغم كل الإنجازات والنجاحات التي حققتها المرأة! للأسف، رغم كل التقدم الذي تحقق خلال العقود الأخيرة، ما زالت المرأة تتقاضى راتباً يقل عمّا يتقاضاه الرجل لنفس المنصب، وذلك ينطبق حتى على البلدان التي تُعَدُّ سبّاقة في تطبيق تشريعاتها على المستوى العالمي!
• جمال المعالم
لو طلبنا من أعظم الرسامين ان يرسم لنا أجمل فتاة، شكلاً ووجهاً، في العالم لتوصّل إلى لوحة تمثّل إحدى الجميلات إلّا انها تختلف عن باقة لا متناهية من الفتيات التي قد تنبعث من نفس الشعب الذي انبثقت منه هذه الصورة. في العادة، تستقطب معالمُ الصورة إعجاب الشعب الذي تتحدر منه، إلّا ان ذاك لا يعني ان هذه المعالم تُعجب بقيّة الشعوب بذات المستوى، مع الإقرار بأن بعض الجمالات الفريدة تستقطب إعجاب أكثرية الشعوب دون استثناء! والأمثال تنطبق على الفتيات والفتيان، ونجد ان الذين يتميّزون بجمال اشكالهم هم فئة تتوصّل الى مناصب قد لا يصل اليها سواهم بذات السهولة !
ولا بدّ من التنويه بالدور الذي لعبه مؤخّراً الطب التجميلي في تحسين المعالم الطبيعية التي جاء بها المرء الى عالمه…

o من حيث المركز الاجتماعي:
• المنصب الذي ينتقل بالوراثة
نجد مناصب انتقلت بالوراثة وهذا ما كان يحدث بالامبراطوريات والأنظمة الملكيّة والأميرية وغيرها.
• الغنى ووفرة المال
هي الميّزة التي تؤهّل فئة ميسورة من الناس لاستخدام أعداد من الموظفين المؤهلين، وذلك للقيام بمهام وأعمال تساعدهم على زيادة ثرواتهم.
• المنصب الذي يحصّله المرء بالسياسة
كالنجاح بالنيابة او الحصول على مركز وزاري أو عسكري او الارتقاء الى صفة رسمية كسفير او قنصل او غير ذلك، او مركز حزبي…
• التحصيل العلمي
يساعد السعي وراء العلم على نيل درجات تؤهّل لمهنٍ مميزة كالطب والهندسة والمحاماة والمحاسبة وغير ذلك.
• المهن التقنيّة
وهي المهن التي يجيد اتقانها المهني بكثرة الممارسة مع متابعة بعض الدروس العملية إذا لزم الأمر.
• الخدم في المنازل
وهم يمثّلون الدرك الأدنى من الطبقات الاجتماعية وهم يتقاضون رواتب ضئيلة بالنسبة للأعمال التي يقومون بها.
• الأديان
قد يكون وجودها مقروناً بوجود الإنسان على هذه البسيطة. مع ان الهدف من التبشير بها كان السعي من اجل الوصول الى مجتمعات اكثر عدلاً وسلاماً، إلّا ان النتيجة كانت غير ذلك وقد تسببت في مقتل الملايين من البشر ولم نصل الى مجتمع فاضل في أيّ من البلدان التي حلّت فيها!
• السياسة
توصَّلَ عبر التاريخ أفرادٌ الى السيطرة على عقول الملايين ممن تبعوا أفكارهم وانتشوا بخطاباتهم ودفعوا بأتباعهم الى القتال بحروب كبيرة شرّدت الملايين وأزهقت حياة أعداد كثيرة لا تُحصى ولا تُعد، وقد زرعوا في عقول من تبعهم انهم يقاتلون من أجل تحقيق أهداف قد لا تكون تستاهل زهق كل هذه الأرواح!
o أسباب مختلفة أخرى:
• النسب العائلي وتأثيره
نجد ان الأخ الأكبر ضمن العائلة يحظى بتقدير يفوق ما يحصل عليه إخوته، وكان انتفاء وجود وريثٍ من الذكور يحرم أياً من البنات من تولّي شأن ممتلكاتِ ومركز العائلة (كما كان يحدث في الماضي القريب لدى الإمبراطورية البريطانية)
• اللّغة
لعبت اللغة عبر التاريخ دوراً مهماً في تسهيل التعامل بين الشعوب التي تتحدّث بذات اللغة بينما أحدث اختلافُ اللغات عائقا فيما بينهم!
• الانتماء الى بقعة من الأرض
الانتماء الى بقعة من الأرض يتحدّر منها الانسان ميّزَ وما زال يميّزُ بين الشعوب وقد اعتبر البعض ان هذا التحدّر يعطيهم تفوقاً على غيرهم.
o خلاصة:
ما زال التمييز العنصري حياً في معظم البلدان وحتى في أكثرها تقدماً وادعاءً بالمساواة بالحقوق. لقد تغيّرت مفاهيمه إلّا انه زاد تعدادُ اشكاله مع التطورات التي حصلت.

قياسي

آخر زيارة قمت بها لمنزل العائلة على الشاطئ اللبناني

آخر زيارة قمت بها لمنزل العائلة على الشاطئ اللبناني

كنت وقتئذٍ أعمل في مدينة الرياض في السعودية. وُلدت ابنتي دانة في أحد مستشفياتها قبل أكثر من سنة ولم يتمكّن والداي من التعرّف عليها بعد. عزمنا على السفر الى لبنان في بداية صيف ١٩٨٤. إلّا ان السفر لم يكن بالسهولة المعتادة. فقد كان النقل المباشر الجوّي متوقفاً بين الرياض وبيروت وكان علينا السفر إلى الدمام لاستقلال طائرة من هناك.
بعد تمضية ليلة في منزل أخي وصديقي سعيد هناك، انطلقنا في رحلتنا الى بيروت. لدى وصولنا خرجنا بحقائب الأمتعة وكانت زوجتي تحمل طفلتنا المرهقة من السفر والتي كانت تلف ذراعيها حول عنق والدتها. وإذ إن الظروف الأمنيّة لم تكن تسمح بالسفر براً نحو منزل والديّ نظراً لانقطاع التواصل البرّي بسبب الوجود الإسرائيلي على مقربة من بيروت، كان علينا الذهاب لتمضية الليل في منزل والدة زوجتي في بلدة عين علق الموجودة على مقربة من مدينة بكفيا.
خرجنا الى دوّار موقف سيّارات الأجرة التي تنتظر دورها. كان المسؤول عن الموقف ممتلئ الجسم، أصلع الرأس، يُزيّن وجهه حاجبان كثيفان. رفع الأمتعة ووضعها في صندوق سيارة مرسيدس ذات لون رماديّ وسألني عن الوجهة التي أقصدها. أجبته: “عين علق”. طبطبَ على رفراف السيارة مؤشّراً للسائق بالانطلاق. قلت له: “قبل ان نغادر، أودّ ان أعرف كلفة الأجرة”. سألني مجددا عن البلدة التي أقصدها ثمّ أجاب: ١٢٥ ل.ل. عندئذٍ انتفض السائق من غيظه وصاح: “كيف تُعطيهِ التعرفة بدون أذني؟ أنا أتفقُ معه لوحدي!” أجابه المسؤول: “من حق الراكب ان يعرف التعرفة إذا سأل!”
اندلع شجار بين الرجلين ارتفع خلاله الصراخ. أخذ المسؤول يكرزُ اللعنات على السائق مهدداً إياه بمنعه من العودة الى الموقف، ثم رفع الأمتعة من الصندوق ووضعها في صندوق السيارة التي تليها، وكنت أحاول إبعاد زوجتي وابنتي عن حلبة الشجار. إلّا ان السائق الجديد قال أنه لا يغامر بالذهاب إلى المنطقة الشرقية. عندئذٍ عاد السائق الأول وحمل الحقائب وأعاد وضعها في صندوق سيّارته مصرّاً على نقلنا “ولو بدون أجرة”!
في تلك الأيام كانت إسرائيل تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية جنوب بيروت وقد قسّمتها الى قطاعات تسيطر على كلّ منها الميليشيات المتواجدة فيها. وكانت كلّ ميليشيا على عداء مع الميليشيات المجاورة لها وبالأخص في إقليم الخرّوب. أمًا القوات الإسرائيلية فكانت تقوم بتغطرسٍ ظاهر بزيارات دوريّة مؤلّلة بين كل تلك المناطق رافعة أعلامها على ملّالاتها ودبّاباتها!
أما التنقل برّاً بين بيروت والجيّة فلم يكن ممكناً إلّا عن طريق البحر باستقلال إحدى البواخر التي كانت تقلّ الركاب بين الحوض الخامس في مرفأ بيروت ومرفأ المجمّع الحراري في “الجيّة”.
قصدنا صباح الاثنين الحوض الخامس وتوجّهت نحو شباك الخدمة لشراء تذاكر السفر. أجابني المسؤول ان جميع البواخر اكتمل بيع مقاعدها ولم يبق متوفّرا من الأماكن إلّا على الباخرة “رميش”. فكّرتُ قليلاً وقلتُ “طالما هي باخرة فلا بأس في ذلك!”
توجّهت نحو الباخرة فوجدتها لا أكثر من زورق صيد يتوسّطه في المقدّمة مصطبة توضع عليها الحقائب بينما يرتفع في مؤخرة المصطبة مربّع مغطّى بحاجب قماشي مقلّم بالطول بالأبيض والأخضر، عرفت انه المكان الذي يقف فيه القبطان لقيادة المركب.
وإذ كنا أوّل الوافدين، وضعنا الشنط على المصطبة، وكانت الحقائب من الأنواع الثمينة التي اشترتها زوجتي خلال التحضير لجهازها من باريس. أمّا انا فوضعت ابنتي في حضني وجلست زوجتي بجانبي في مقدمة المركب على المقعد الخشبي الذي كان يلفّ من الداخل الإطار الخارجي للسفينة. كنّا نأمل بأن نمضي أوقاتًا ممتعة ونحن نُبحر تحت تلك السماء الزرقاء.
نظرت الى ابنتي القابعة على ركبتيّ وكانت تلفّ ذراعيها حول عنقي. كانت بعوضة شرّيرة قد فتكت بعينها اليمنى الليلة البارحة مما جعل الورم يقفلها بشكلٍ بيضاوي، هذا بالإضافة الى قيح كان ينزف من خلف إبطها الأيسر بسبب طعم للأطفال أخذته قبل شهرين من ذلك. كان منظرها تعيساً بعض الشيء!
أخذ الركاب يتوافدون وبدأت الحلقة تمتلئ بانتظار وصول القبطان. خلته يطل علينا
بزيّ خاص وتعتلي رأسه قبعة بيضاء كتلك التي نراها في أفلام السينما! إلّا أنه فاجأنا بمنظره العادي وشعره المتطاير وكأنه استفاق لتوّه من النوم، وقميصه الذي باخت ألوانه من وطأة الشمس وسرواله الممزّق من نوع “الجينز” وشبشبه البلاستيكي الأزرق من نوع “أبو إصبع” والذي يكشف عن أظافر مكسّرة!
أدار المحرّك وأمر بفك الحبال التي تربط المركب بالرصيف ثم حرّك المركب على مهل وأخذ يتجاوز البواخر المتوقفة واتجه نحو مخرج المرفأ من ناحية البحر! ما ان وصل الى خارج السنسول حتى انطلق بأقصى سرعة نحو عرض البحر. وإذ غادرنا قرابة الساعة العاشرة صباحا كانت رياح البحر قد هبت وكان سطح البحر متموّجاً ويتفقّع بين موجة وأخرى زبد أبيض لا يدعو الى الارتياح! وكان المركب ترتفع مقدّمته وتهوي حسب الأمواج وترتطم ببعض منها ممّا يجعل مياه البحر تطالنا وتطال الكثير من الركاب وتصل الى الحقائب الموضوعة على المنصة في وسط الباخرة! كان القبطان يسرع بالابتعاد عن الشاطئ خوفاً من ان يطال الركاب بعض من نيران الميليشيات المتمركزة على الهضاب غرب المدينة!
انتاب دوّار البحر معظم الركاب وبالأخص نحن الثلاثة الموجودين في المقدمة! كنا نرى البعض يُفرغ امعاءه على ارض المركب او في كيس بلاستيكي استحضره معه. بعض المسافرين جعلته الخبرة يحمل معه ليمونة حامض يستنشق رائحتها عند اللزوم!
ارتفع صياح الركاب وأخذوا يصلّون طالبين الخلاص او يشتمون القبطان على تلك السرعة! شهر أحدهم مسدساً أراد ان يهدد فيه قائد السفينة الا ان بعض المرافقين أوقفوه ومنعوه من التعرض له!
بعد ان أبحرنا قرابة الساعة للابتعاد عن بيروت غيّر القبطان مجرى السفينة واتجه نحو ميناء الجيّه!
بعد زهاء ساعتين من السفر وصلنا الى ميناء المعمل الحراري! صدف ان والدي كان بانتظارنا برفقة ابن عمي نديم! كنا لا نقوى على المشي من الدوار الذي اصابنا! ارتمت ابنتي على صدر جدها وغمرته بكلتي ذراعيها!
وصلنا الى منزل العائلة وكانت والدتي تنتظرنا! نظرت الى المسكينة ابنتي بطرف عينها وكانت الحفيدة في منظر لا تُحسد عليه!
أمضينا زهاء أسبوعين في دار العائلة حيث استعادت ابنتي قوتها وراق لها التعرّف على الأقرباء والجيران!
كان لا بدّ من المغادرة! لم نختر “الباخرة رميش” بل استقللنا باخرة حديثة أكبر حجماً! كانت العودة اسهل بكثير من رحلة الذهاب!
علمت بعد أشهر قليلة ان” الباخرة رميش” غرقت في شبه خليج الجية ولم يسلم من ركابها الّا من كتبت له حياة ثانية!

قياسي

الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة

الحرب الأوكرانيّة-الروسيّة

قلّما نتابع مباراة رياضيّة، يتبارى ضمنها فريقان، إلّا ونجد أنفسنا ميّالين إلى فريق دون آخر، حتى وإن كنّا نشاهد هذين المتخاصمَين يلعبان لأوّل مرة! لذا، نصفّق للفريق الذي اختاره قلبنا عندما يسجّل هدفاً ونغتاظ معه عندما يُخفق في الدفاع عن مرماه!
أمّا أن ينتقل ذاك الانحياز التلقائي لينطبق على الحروب التي تندلعُ بين الشعوب، فهذا ما لا توجد لي القدرة على استيعابه ويعسِّر من قدراتي على هضم محتوياته!
كنت أخالُ أن النتاج الذي صدر عن الفلاسفة والمفكّرين الذين توالت كتاباتهم وإصداراتهم خلال العصور الماضية قد أثّر إيجابًا في توعية النشء الجديد وأن الآثار المدمّرة التي خلّفتها الحروب الأخيرة، ومن أبرزها الحربان الكبريان، قد جعلت من ذكراها رادعاً أمام كلّ من تسوّل له نفسه تكرار المآسي!
إلّا أن الواقع يشير الى ان غلاف التحضّر يُخفي لبّاً سيّئاً لم تُفلح في إصلاح ما فيه كلّ البرامج التي لقّنتها المدراس والجامعات الحديثة، وتوّجتها بشهادات ودبلومات أصيلة الأختام إنما زائفة التأثير!
قديماً قيل:” إذا عُرفَ السبب، بَطل العجب!”. فهل بإمكاننا معرفة جذور الحرب التي نشأت بين أوكرانيا وروسيّا، والتي قد تجرّ إلى مآسٍ لن تُحمد عقباها؟
o من أجلِ ماذا اندلعت هذه الحرب؟
o أوَيُعقلُ ان يموت أناسٌ، يُعدّون، أقلّهُ، بالآلاف، ويشرّد عشرات الآلاف من غيرهم ، وتُدمّر مئات الآلاف من المساكن والمنشآت، ويُهجّر الملايين من المواطنين، وذلك من أجل الانضمام الى حلفٍ ما، مهما كان ذاك الحلف؟
o أوَيجوزُ أن يدفع شعبٌ آمنٌ أرواح أبنائه ثمناً للحصول على حريّة ما؟
o أوَهل من المسموح به أن تدفع الشعوب ثمن تشبّصِ وتعنّتِ زعمائها؟
o كيف نسامح البلدان التي تصبّ الزيت على النار وتزكي الصراع بدل أن تطفئ اشتعاله؟
o أمِنَ المقبول أن يُصفّق زعماء العالم على الشاشات لزعيم بلدٍ يطلب منهم المساعدة على القتال ويكرّسونه بطلاً عالمياً بينما شعبه يحتضر ويعاني الأمرّين؟
o هل من الجائز ان يأتي القصاص أكثر جوراً من الخطيئة نفسها ؟
أسئلة كثيرة تطرح نفسها ولا من قدرة فاعلة توقف سفك الدماء وتضع حدًا لاقتتال مدمّر!

قياسي