
قصّة ثانية لتسجيل أغنية في الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٦٥
في مقال سابق رويت تفاصيل ما حدث في ستوديو الإذاعة اللبنانية سنة ١٩٥٨ وما حال دون تسجيل أغنية ” أمسيات” والتي كانت كلماتها من نظم الشاعر جورج غريّب! أمّا السبب الرئيسي لإيقاف التسجيل فكان معزوّاً الى تعنّت المدير الجديد للإذاعة، وقلّة درايته بالأمور اللغوية، وهو الذي حصل على مركزه بناءً على قاعدة ٦ x ٦ مكرّر! إثر ذلك، ترك الأستاذ إميل ديب الإذاعة! أما المدير الجديد فلم يدم طويلاً في وظيفته وقد تمّت إعادة حليم الرومي الى المنصب، ومن ثمّ توالى غيرُه على نفس المركز، ومن ضمنهم المايسترو توفيق الباشا!
بعد آن صفت الأجواء عاد الأستاذ إميل الى الإذاعة وكان عليه أن يُسجّل أغنيتن جديدتين من ألحانه كلّ شهر. وكان يدور على الشعراء لانتقاء أفضل الكتابات المتوافرة لتلحينها وتسجيلها في استوديوهات الإذاعة!
سنة ١٩٦٥ انتقى الأستاذ ديب قصيدة معدّة لتكون نشيداً للأطفال من نظم الشاعر فيكتور البستاني تحمل عنوان “قطف العنب”:
قَطف العنب
أيُّها الكَرَّامُ هَيَّا نَقْطِفُ اليَومَ العِنَبْ
نُرسِلُ الشَدْوَ شَجِيًّا نَمْلَأُ الدُنْيَا طَرَبْ
-١-
هُوّ ذَا الكَرْمُ عَلى سَفْحِ الجَبَلْ يَتَدلَّى فيهِ عُنْقودُ الذَهبْ
أبْيَضٌ أَوْ أَشْقَرٌ مِثْلَ العَسَلْ أَصْفَرٌ يا حُسْنَهُ مِثْلَ اللَّهَبْ
يَبْسِمُ الفَجْرُ بِثَغْرِهْ
والنَّدى دُرٌّ عَلَيْهِ
كَمْ تَغَنَّيْنا بِخَمْرِهْ
وَهَفا القَلْبُ إلَيْهِ
-٢-
إِسْرَحوا في ظِلِّ هاتِيكَ الدَّوالي واقْطِفوا العُنْقودَ كَالدُّرِّ يُلالي
وتَغَنَّوا بِالعَتابا وَالمَوالي يَرْقُصِ السَّفْحُ وَتَهْتَزِّ الأعالي
وَإِذا جاءَ المَسَاءْ
وضِيا الشَّمْسِ انحَجَبْ
إملَأوا الدُّنْيا غِناءْ
حَبَّذا قَطْفُ العِنَبْ
فيكتور البستاني
قام الأستاذ إميل بكتابة الألحان، ومن ثمَّ بإعداد وتدريب الفرقة الموسيقيّة والجوقة المنتقاة لغناء الأغنية حتى يصبح النتاج على أفضل ما يكون!
وما ان حان الوقت للتسجيل، حتى كان كلّ شيء على أتم جهوزية للأداء على أفضل وجه. بدأ التسجيل في الاستوديو بعد ان تم إغلاق الباب وتحت نظر مراقبين يتابعونه من وراء زجاج عازل للصوت!
ما أن وصل الغناء الى قرابة ثلثي النشيد حتى تمّ إشعال الضوء الأحمر، وبما معناه: “أوقفوا التسجيل!”
توقّفَ كلّ شيء وفُتحَ الباب ودخلَ أحدُ المراقبين. كان طويل القامة، معتدل العمر، يفرد شعره من اليسار الى اليمين ليُخفيَ صلعة في قمة رأسه! قال: “هناك خطأٌ لُغويٌّ فادح! “يرْقص” فعل مضارع ويجب رفعه لا كسرهُ كما ورد في الأغنية!”
احتدم النقاش وحاول الأستاذ إميل شرح السبب الذي سبّب كسر الفعل، إلّا لم تكن توجد أية فائدة، لأن جميع أعضاء الفريق المراقب كانوا على موقفٍ واحد: يجب رفع الفعل المضارع!
بعد أن ارتفعت الأصوات، تمّ استدعاء الشاعر مصطفى محمود (وهو من مواليد بلدة بعاصير في منطقة إقليم الخرّوب من جبل لبنان) والذي كان يُعتبرُ مرجعاً لُغويّاً في أروقة الإذاعة! كان طويل القامة ، ذا مقدّمة رأس تتسع نحو الوراء! بعد آن اضطلع على سبب النقاش، أفتى ان “يرقص” هو فعل مضارع ويجب ان يُرفع!
عندئذٍ تدخّل الأستاذ إميل قائلاً: “في اللغة العربية فعلُ الأمر يأتي مجزوماً وجوابه يجب ان يكون مجزوماً أيضًا! هل من اعتراض على ذلك؟”
وافق الجميع على هذه القاعدة! بعدئذٍ قال: في اللغة العربية ايضآ لا يجوز أن يلتقي ساكنان! “فيرقص” من المفترض ان يكون ساكناً، و”السفح” بدايته ساكنة، لذا لا مفرّ من كسر “يرقص”.
جمُدَ الجميعُ تجاه تلك القاعدة اللغوية التي يبدو أنهم أغفلوها على مرّ الزمن، وتعجّبوا ضِمنياً من ان الأستاذ إميل يفوقهم ضلاعةً في لغة الضاد! حدّق الأستاذ مصطفى في عيني الأستاذ إميل وقال: “أو تظنّ ان هذا هو الصحيح؟” أجابه الأستاذ إميل: “نعم! بدون أي تردد!” قال الأستاذ مصطفى:” سأخرج للاطلاع على مراجعي اللغوية وأعود أليكم!” وخرج ولم يعد!
تمّ إنهاء التسجيل بالصورة التي ارتآها الأستاذ إميل دون أي اعتراض لاحق وكانت أغنية ناجحة! حاولتُ الوصول الى الاستماع اليها إلّا ان الضياع الذي حصل ابّان الاحداث التي بدأت سنة ١٩٧٥ حال دون ذلك! سأحاول مجدداً البحث عنها وأطلب مساعدة الجميع للوصول الى ذاك التسجيل!