
آخر زيارة قمت بها لمنزل العائلة على الشاطئ اللبناني
كنت وقتئذٍ أعمل في مدينة الرياض في السعودية. وُلدت ابنتي دانة في أحد مستشفياتها قبل أكثر من سنة ولم يتمكّن والداي من التعرّف عليها بعد. عزمنا على السفر الى لبنان في بداية صيف ١٩٨٤. إلّا ان السفر لم يكن بالسهولة المعتادة. فقد كان النقل المباشر الجوّي متوقفاً بين الرياض وبيروت وكان علينا السفر إلى الدمام لاستقلال طائرة من هناك.
بعد تمضية ليلة في منزل أخي وصديقي سعيد هناك، انطلقنا في رحلتنا الى بيروت. لدى وصولنا خرجنا بحقائب الأمتعة وكانت زوجتي تحمل طفلتنا المرهقة من السفر والتي كانت تلف ذراعيها حول عنق والدتها. وإذ إن الظروف الأمنيّة لم تكن تسمح بالسفر براً نحو منزل والديّ نظراً لانقطاع التواصل البرّي بسبب الوجود الإسرائيلي على مقربة من بيروت، كان علينا الذهاب لتمضية الليل في منزل والدة زوجتي في بلدة عين علق الموجودة على مقربة من مدينة بكفيا.
خرجنا الى دوّار موقف سيّارات الأجرة التي تنتظر دورها. كان المسؤول عن الموقف ممتلئ الجسم، أصلع الرأس، يُزيّن وجهه حاجبان كثيفان. رفع الأمتعة ووضعها في صندوق سيارة مرسيدس ذات لون رماديّ وسألني عن الوجهة التي أقصدها. أجبته: “عين علق”. طبطبَ على رفراف السيارة مؤشّراً للسائق بالانطلاق. قلت له: “قبل ان نغادر، أودّ ان أعرف كلفة الأجرة”. سألني مجددا عن البلدة التي أقصدها ثمّ أجاب: ١٢٥ ل.ل. عندئذٍ انتفض السائق من غيظه وصاح: “كيف تُعطيهِ التعرفة بدون أذني؟ أنا أتفقُ معه لوحدي!” أجابه المسؤول: “من حق الراكب ان يعرف التعرفة إذا سأل!”
اندلع شجار بين الرجلين ارتفع خلاله الصراخ. أخذ المسؤول يكرزُ اللعنات على السائق مهدداً إياه بمنعه من العودة الى الموقف، ثم رفع الأمتعة من الصندوق ووضعها في صندوق السيارة التي تليها، وكنت أحاول إبعاد زوجتي وابنتي عن حلبة الشجار. إلّا ان السائق الجديد قال أنه لا يغامر بالذهاب إلى المنطقة الشرقية. عندئذٍ عاد السائق الأول وحمل الحقائب وأعاد وضعها في صندوق سيّارته مصرّاً على نقلنا “ولو بدون أجرة”!
في تلك الأيام كانت إسرائيل تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي اللبنانية جنوب بيروت وقد قسّمتها الى قطاعات تسيطر على كلّ منها الميليشيات المتواجدة فيها. وكانت كلّ ميليشيا على عداء مع الميليشيات المجاورة لها وبالأخص في إقليم الخرّوب. أمًا القوات الإسرائيلية فكانت تقوم بتغطرسٍ ظاهر بزيارات دوريّة مؤلّلة بين كل تلك المناطق رافعة أعلامها على ملّالاتها ودبّاباتها!
أما التنقل برّاً بين بيروت والجيّة فلم يكن ممكناً إلّا عن طريق البحر باستقلال إحدى البواخر التي كانت تقلّ الركاب بين الحوض الخامس في مرفأ بيروت ومرفأ المجمّع الحراري في “الجيّة”.
قصدنا صباح الاثنين الحوض الخامس وتوجّهت نحو شباك الخدمة لشراء تذاكر السفر. أجابني المسؤول ان جميع البواخر اكتمل بيع مقاعدها ولم يبق متوفّرا من الأماكن إلّا على الباخرة “رميش”. فكّرتُ قليلاً وقلتُ “طالما هي باخرة فلا بأس في ذلك!”
توجّهت نحو الباخرة فوجدتها لا أكثر من زورق صيد يتوسّطه في المقدّمة مصطبة توضع عليها الحقائب بينما يرتفع في مؤخرة المصطبة مربّع مغطّى بحاجب قماشي مقلّم بالطول بالأبيض والأخضر، عرفت انه المكان الذي يقف فيه القبطان لقيادة المركب.
وإذ كنا أوّل الوافدين، وضعنا الشنط على المصطبة، وكانت الحقائب من الأنواع الثمينة التي اشترتها زوجتي خلال التحضير لجهازها من باريس. أمّا انا فوضعت ابنتي في حضني وجلست زوجتي بجانبي في مقدمة المركب على المقعد الخشبي الذي كان يلفّ من الداخل الإطار الخارجي للسفينة. كنّا نأمل بأن نمضي أوقاتًا ممتعة ونحن نُبحر تحت تلك السماء الزرقاء.
نظرت الى ابنتي القابعة على ركبتيّ وكانت تلفّ ذراعيها حول عنقي. كانت بعوضة شرّيرة قد فتكت بعينها اليمنى الليلة البارحة مما جعل الورم يقفلها بشكلٍ بيضاوي، هذا بالإضافة الى قيح كان ينزف من خلف إبطها الأيسر بسبب طعم للأطفال أخذته قبل شهرين من ذلك. كان منظرها تعيساً بعض الشيء!
أخذ الركاب يتوافدون وبدأت الحلقة تمتلئ بانتظار وصول القبطان. خلته يطل علينا
بزيّ خاص وتعتلي رأسه قبعة بيضاء كتلك التي نراها في أفلام السينما! إلّا أنه فاجأنا بمنظره العادي وشعره المتطاير وكأنه استفاق لتوّه من النوم، وقميصه الذي باخت ألوانه من وطأة الشمس وسرواله الممزّق من نوع “الجينز” وشبشبه البلاستيكي الأزرق من نوع “أبو إصبع” والذي يكشف عن أظافر مكسّرة!
أدار المحرّك وأمر بفك الحبال التي تربط المركب بالرصيف ثم حرّك المركب على مهل وأخذ يتجاوز البواخر المتوقفة واتجه نحو مخرج المرفأ من ناحية البحر! ما ان وصل الى خارج السنسول حتى انطلق بأقصى سرعة نحو عرض البحر. وإذ غادرنا قرابة الساعة العاشرة صباحا كانت رياح البحر قد هبت وكان سطح البحر متموّجاً ويتفقّع بين موجة وأخرى زبد أبيض لا يدعو الى الارتياح! وكان المركب ترتفع مقدّمته وتهوي حسب الأمواج وترتطم ببعض منها ممّا يجعل مياه البحر تطالنا وتطال الكثير من الركاب وتصل الى الحقائب الموضوعة على المنصة في وسط الباخرة! كان القبطان يسرع بالابتعاد عن الشاطئ خوفاً من ان يطال الركاب بعض من نيران الميليشيات المتمركزة على الهضاب غرب المدينة!
انتاب دوّار البحر معظم الركاب وبالأخص نحن الثلاثة الموجودين في المقدمة! كنا نرى البعض يُفرغ امعاءه على ارض المركب او في كيس بلاستيكي استحضره معه. بعض المسافرين جعلته الخبرة يحمل معه ليمونة حامض يستنشق رائحتها عند اللزوم!
ارتفع صياح الركاب وأخذوا يصلّون طالبين الخلاص او يشتمون القبطان على تلك السرعة! شهر أحدهم مسدساً أراد ان يهدد فيه قائد السفينة الا ان بعض المرافقين أوقفوه ومنعوه من التعرض له!
بعد ان أبحرنا قرابة الساعة للابتعاد عن بيروت غيّر القبطان مجرى السفينة واتجه نحو ميناء الجيّه!
بعد زهاء ساعتين من السفر وصلنا الى ميناء المعمل الحراري! صدف ان والدي كان بانتظارنا برفقة ابن عمي نديم! كنا لا نقوى على المشي من الدوار الذي اصابنا! ارتمت ابنتي على صدر جدها وغمرته بكلتي ذراعيها!
وصلنا الى منزل العائلة وكانت والدتي تنتظرنا! نظرت الى المسكينة ابنتي بطرف عينها وكانت الحفيدة في منظر لا تُحسد عليه!
أمضينا زهاء أسبوعين في دار العائلة حيث استعادت ابنتي قوتها وراق لها التعرّف على الأقرباء والجيران!
كان لا بدّ من المغادرة! لم نختر “الباخرة رميش” بل استقللنا باخرة حديثة أكبر حجماً! كانت العودة اسهل بكثير من رحلة الذهاب!
علمت بعد أشهر قليلة ان” الباخرة رميش” غرقت في شبه خليج الجية ولم يسلم من ركابها الّا من كتبت له حياة ثانية!