
ذكرى الاحتفاء بعيد ميلاد زوجتي
خلال سنيّ طفولتي، لم يكن الاحتفال بعيد ميلادِ أيِّ فردٍ من أفراد الأُسَر أمراً مهماً! كان الكثيرون، وبالأخص الذين وُلِدوا قبل جيلي، يجهلون تاريخ وِلادتهم الحقيقي، ويعتمدون على أحد الأقارب من ذوي الذاكرة الحافظة لسؤاله عن التاريخ الحقيقي! أذكرُ ان والدي كان مرجعاً مهماً لهكذا تواريخ وبالأخص بالنسبة لأولاد أعمامي وعمّاتي!
وكان كثيرون يحملون تاريخَين مختلفين لمولدهم: تاريخاً تمّ تسجيله لدى الدوائر الرسمية ، وتاريخاً آخر لم يتم تسجيله وهو يمثّل الزمن الحقيقي الذي تمّت فيه الولادة !
في عيد ميلادي، كانت والدتي تحضّر قالب الكيك المستدير، المصنوع من الألمنيوم، والمثقوب في وسطه. أمّا للطهي، فكان يوضع مباشرة على موقد الغاز المستدير دون الحاجة الى الفرن. وفي المساء كنتُ أدعو بعض أطفال الجيران لتناول قطعة من الكيك بعد أن أطفئ الشموع.
مع الزمن، انتشرت عادة إقامة الاحتفالات بمناسبة عيد ميلاد الأفراد، ولربّما نقلنا هذه العادة عمّا كان يجري في بلاد الغرب.
ومع ان الأمر قد يكون عادياً بالنسبة لي، إلّا انه ليس كذلك بالنسبة لزوجتي إذ انها تعتبر المناسبة في غاية الأهمية! ولا بد من الإقرار هَهُنا بأنني فشلتُ مراراً وتكراراً في انتقاء هدية تلقى إعجابها. فإذا قدّمتُ لها قطعة ملابس يواجهني سؤالها:” مذْ متى تعرفُني أستذوقُ هكذا ألبسة؟” وإذا أهديتها باقةَ ورود حمراء أجدها تبتسم وتنظر إلى عينيَّ وكأنّي أردْتُ إصلاح عجز الموازنة على حساب هديتها ! أمّا إذا بذخت وقدّمتُ لها قطعة مجوهرات فأجدها ترمقني من طرف عينها وكأنّي أردتُ الاعتذار عن جرمٍ اقترفتُهُ! لذا، وبعد سنواتٍ من التجارب، قرّرتُ أن أتركَ لها مهمّة اختيار ما تجدُه مناسباً لها!
منذ سنوات صدفَ عيدها نهارَ إثنين! كانت قد حجزت مسبقاً لشخصين لتمضية النهار مع جلسة لتدليك الجسم وذلك في منتجع صحّي في بلدة “روزمير” الواقعة شمال مونتريال!
إلّا أنه صدف ذاكَ الصباح أني كنت مضطراً للذهاب إلى مركزعملي الذي كان يقع وقتئذٍ في الضفّة الجنوبية لمونتريال وذلك لتوقيع شيك لأحد المقاولين!
استأذنتها بالتغيب لزمنٍ لا يتجاوز الساعتين! وافقت على مضض. هرولتُ واستقللتُ السيارة وتوجهت مسرعاً نحو مكتبي للذهاب والإياب بأسرع وقتٍ ممكن. في طريق العودة توقفت أمام مخبز پاتيسّري لا غاسكوني La Gascogne والذي كان في ذروة شهرته (للأسف أقفل بعد سنوات من ذلك). كيف بي أُغفلُ استحضار قالبَ كاتو للمناسبة؟ اشتريت قالباً مصنوعاً من الشوكولاتة المغربيّة المقرمشة وطلبت إضافة لوحة صغيرة بيضاء تمّت عليها كتابة عبارة “هابي بيرسدي” بالإضافة الى اسم زوجتي. ما ان دخلتُ بسيارتي كاراج المنزل حتى أخفيت القالب في برّاد صغير موجود هناك.
ناديتُ زوجتي وانطلقنا نحو المنتجع الذي يبعد زهاء نصف ساعة عن المنزل. ما ان وصلنا حتى تسجّلنا وتم تزويد كلٍّ منّا بروب حمام ومنشفة كبيرة أبيضين.
فوجئتُ لدى الدخول بالنظافة المميزة للمكان والعدد الكبير من الروّاد الذين يؤمّونه. كانت الباحة الخارجيّة تتوسّطها بركة سباحة كبيرة، يحيطّ بها زنّار من كراسي التمدّد البلاستيكية المريحة والشبه ممتلئة بالزوّار والذين كانت أشعّة شمس منتصف شهر آب تقوم بتسمير بشرتهم! أما البعض الآخر فكان يدخل الى حمامات السونا المتواجدة في زاوية الباحة اليمنى بينما تطلّ نفس الباحة من الناحية اليسرى على باحة أصغر يتوسّطها حوضُ استحمامٍ ساخن.
بعد تمضية النهار في ذاك المنتجع وانتهائنا من جلسَتَي التدليك، كانت الساعة قد قاربت الخامسة بعد الظهر. اقترحتُ على زوجتي أن أدعوها لتناول وجبة عشاء في مطعمٍ برتغاليّ يُعجبني. مع ان الدعوة راقت لها، إلّا أنها لم تستسغْ فكرة الذهاب الى مطعم لا تعرفه، وفي منطقة من مونتريال لا ترتادها مطلقاً، وهي العليمة والخبيرة بأمور المطاعم ولها تقييمٌ خاص لكلٍّ منها!
كان مطعم “أوكانتينهو” (O’Cantinho) يقع على ناصية شارع “جارّي” عند التقاطع مع “بولفار سان ميشال”. المكان يتميّز بديكور متواضع يذكّر بالبرتغال، من بلاط الأرض المصنوع من “التيرّا كوتا” الى الجدار الجانبي الذي تزيّنه لوحة مرسومة بالألوان على بلاط من السيراميك الأبيض، الى الأثاث الخشبي التقليدي، الى جانب وجود صحن صغير من الزيتون والترمس يُزيّن كل طاولة! وعلى الرغم من وجود المطعم في منطقة سكنية عادية، إلّا انه كان مليئاً بالزبائن على الدوام، وذلك بفضل جودة الطعام التي حافظ عليها أصحاب المطعم الذين امتلكوه منذ عشرات السنوات!
ما ان اركنّا السيارة أمام المطعم حتى بادرتني زوجتي بنظرة استغراب، وكأنها تسألني: إلى أي مكان تأخذني؟
بعد تجاوز الباب الزجاجي الضيّق والمرور عبر رواق يجاور المطبخ على الشمال ويؤدّي الى وسط المطعم، انتابني إحساس بأنّها لم تستذوق المكان! فضّلنا الجلوس على التيرّاس الخارجية التي تطل على شارع “جارّي”. أصرّت النادلة على إجلاسنا على طاولة صغيرة لشخصين تقع في زاوية يمرّ بجانبها النُّدُل لخدمة الزبائن. فضّلتْ زوجتي الجلوس على طاولة فارغة أوسع من الأولى تقع في وسط الحاجز الخارجي للتيرّاس! لدى عدم قبول النادلة بالأمر، طلبت مني زوجتي ان نترك المكان. عندئذٍ تكلّمتُ مع النادلة وأعلمتها أننا، من ناحية، نحتفي بعيد ميلاد زوجتي، ومن ناحية ثانية لن تتسع الطاولة الصغيرة لما سنطلبه من أطباق. في آخر الأمر وافقت على إجلاسنا على الطاولة التي وقع اختيارنا عليها!
وإذ كان روّاد المطعم يقصدونه لتذوق الفواكه البحرية، والأسماك والدجاج المشوي على الطريقة البرتغالية، إلى جانب أطباق أخرى، قمتُ بطلب مجموعة أذكر منها الأخطبوط والصبّيدج (الكلمار)، والقريدس (الجمبري)، الى جانب السلطات. وإذ كان المطعم لا يقدّم إلّا النبيذ البرتغالي، لم يلقَ نبيذ المنزل (House wine) إعجاب زوجتي فما كان مني إلّا ان طلبتُ زجاجة من نوع آخر قامت باقتراحها النادلة. إلّا ان هذه الزجاجة لم تحصل هي الأخرى على الرضى ممّا جعلنا نطلب زجاجة من نوع آخر كانت مقبولة !
بعد الانتهاء من تناول العشاء جاءت النادلة مجدداً تسأل عمّا إذا كنّا نودّ طلب الحلوى. أجبتها بالنفي (ألمْ أُحضِر قالباً الى البيت؟)! ردَّت وقالت أن طبق الحلوى هو تقدمة من المطعم لصاحبة العيد! آنئذٍ قلت لها: “نأخذ قطعة كيك واحدة” (ورجوتها بصوت منخفض ان تضيء شمعة عليها) وهكذا كان، واحتفينا بالعيد، وكنت أرى الدمعة والاحمرار في عيني زوجتي، وكأنّها وجدَت فيّ عيوباً كانت تجهلها طوال السنوات التي تعايشنا فيها !
في طريق العودة، لم نتفوّه بكلمة طوال المسافة. كنت أشعر بأنها حزينة على الرغم من كل ما فعلتُه من أجلها ذاك النهار! كنت أشعر بألمها كلّما تنهّدت، ولم يكن بمقدوري أن أعلمها أنّي خبّأت لها مفاجاة في براد الكراج !
ما ان وصلنا الى البيت حتى نزلتْ من السيّارة وأسرعتْ بالدخول. أطفأتُ المحرّك ونزلت وتوجّهت نحو البراد الصغير. أخرجت علبة القالب ودخلت من باب الكراج وصعدت الدرج الذي يؤدي الى الصالون. تبيّن لي أنها في غرفة النوم. دخلتُ المطبخ وأخرجتُ القالب من علبته وسحبت بضعة شمعات ملوّنة زرعتها في القالب. اشعلتُ الشمعات بعود كبريت وأخذتُ كاميرا التصوير وتقصدتُ أن أحمل القالب باليد اليسرى بينما كنت أحمل الكاميرا باليمنى بشكل تُظهر الصورة القالبَ مع الشموع في الجزء الأسفل تاركاً المنطقة العليا خالية لتظهر هي في أعلاها. صعدتُ الدرج حتى وصلت قرب الباب، وضعتُ إصبعي على زر التقاط الصور وبدأتُ أدخل الغرفة على مهل وأنا أغنّي بصوت مرتفع: “هابّي بيرسدي تو يو، هابّي بورسدي تو يو…” وإذ استدرتُ نحو اليسار لأتوجه الى مصدر الحركة، وجدتها قد انتهت من خلع ملابسها ولم يبقَ عليها إلّا لباس كما خلقتني يا رب! أخذتْ تضحكُ ولم يكن بمقدور يديها أن تُخبيا ما أرادت إخفاءه بينما استمررتُ بالغناء وإصبعي لا يتوقف عن التقاط الصور…
في النهاية أيقنتْ أن عدم طلبي للحلوى في المطعم لم يكن من جانب البخل…