هل وُجدَ التعليم عن بعد ليبقى؟

هل وُجدَ التعليمُ عن بعد ليبقى؟

في هذا الزمنِ الذي حلّ علينا منذ ما زادَ عن السنة، أقفلت المدارس والجامعات ، عداك عن الدوائر الرسمية والمطاعم والملاهي وصالات العبادة أو حتى صالات التسلية والاحتفالات، وغير ذلك من الأعمال التي تستدعي التقاء شخصٍ بآخر لا يُشاركه نفس المسكن… كلُّ ذلك بفعل جائحةٍ أوبأتْ أقطار العالم كافة، ولم تُوفّر من شرّها إلّا من التزم بشروط الحيطة، واعتكف خلف جدران لا يستقبلُ ضمنها أيّ زائرٍحتى لو كان أقرب جيرانه! حتى الأولاد توقّفوا عن اللعب مع أترابهم في نفس الحيّ!

ومن نتائج هذا الانعزال، انتشرت محاولات التواصل عن بُعْد عبر المنصات الإلكترونية، والتي كان استعمالها محدوداً خلال السنوات التي سبقت أيام الجائحة. وتبِعَ ذلك انتشار التعليم بتلك الوسائل، والاعتقاد السائد أنها مرحلة ستمضي لدى الانتهاء من خطر الوباء… فهل هذا صحيح؟

قبل التطرّق الى صلب الموضوع أودُّ إعلام من يقرأ مقالي هذا أنّي من جيلٍ مخضرم، وبات الكلام عن الفترة التي عشتها في صغري يبدو وكأنني أتحدّث عن القرون الوسطى! في الصفوف الابتدائية، ولدى مراودتي مدرسة “اللسّيه الفرنسي”، كان الطلاب يرتدون زياً خاصاً، فوق ملابسهم، وهو عبارة عن مريول قطني من قماش بلون بيج، يتم إقفاله بواسطة زرٍّ كبير من الناحية اليمنى من العنق، بينما يتدلّى القماش حول الجسم ليصل الى ما يلامس الركبتين! لم تكن تبدو على أحد الحالة الاجتماعية التي تنتمي إليها عائلته ولا دلالة على غنى تلك العائلة أو محدوديّة دخلها! كلّ طالب كان يستحضر معه يومياً “مطبقية” معدنية من نوع الألومنيوم تحتوي على طبقات يجمعها مقبض علوي لحملها. وكانت كل طبقة تحوي نوعاً مختلفاً من الطعام ، كطبقة للأرز، وطبقة لليخنة وطبقة للشوربة وغير ذلك. وكان يتم تسخين الوجبة في فترة الغذاء، وقد يتقاسم الأخوة مأكولات مطبقية واحدة! وإذ كنت، كغيري، أستقلّ باص المدرسة (الأوتوكار) في الصباح من أمام منزلي، لأعود على متنه في المساء، كان دوارٌ يركبُ رأسي خلال كلّ رحلة من طول الوقت الذي كنت أمضيه في الذهاب والإياب! ولدى توقّف الباص وإقلاعه، لا يغيب عن مخيلتي تدحرج مطبقية أو أكثر، يسيل منها المرق ليُبلّل أرض الباص المعدنية!

أمّا في الصف، فكان كلّ طالبين يتقاسمان طاولة خشبيّة مرتبطة بمقعد طويل، القسم الأكبر من الطاولة منحنٍ نحوالطالبين اللذين يجلسان جنباً الى جنب، بينما تمّ تركيز محبرة من البورسلين ضمن ثقب في الخشب على القسم الأعلى الأيمن لكلّ طالب. ولم تكن الكتابة مسموحة بالاقلام الحبريّة، أو حتى أقلام “البيك”! لذا كنا نستعمل الريشة التي نثبتها بالحامل الخشبي الرفيع، ونغطّ رأسها بالحبر الذي كان لونه أزرق مائل الى الليلكي! أما رؤوس الرِّيَش، فأذكر أننا كنا نستعملها حسب تسمياتها: “ملّا” أو “خطّاط” للعربية، و”غولواز” أو “فرنسيز” للأجنبية!

وكنا ما أن نُنْهي كتابة صفحة، حتى نستعمل الورق النشّاف كي يغبّ فائض الحبر!

أمّا في أيامنا هذه فيجفُّ حبرُ الأقلام من قلّة الاستعمال، كون جلّ ما نكتبه ننقرُ نصَّهُ  مباشرةً على الهواتف الخليوية أو الألواح الإلكترونية أو أجهزة الكمبيوتر، دون الحاجة الى الكتابة اليدوية على الأوراق التقليدية! وإذ لا يوجد لديّ الجوابُ القاطع حول مسألة عودة التعليم إلى ما كان عليه قبل الجائحة، لا بدّ من استعراض بعض الأمور:

       مدرسة تحت السنديانة القديمة:

  • إنشاء هكذا مدرسة قليل التكلفة.
  • كان المعلّم يتقاضى أجره ممّا يتكرّم به أولياء أمور تلامذته من البَيْض والعدس والحمّص وغير ذلك من المؤن.
  • عدد التلاميذ محدود ولا مجال لاستيعاب المزيد من الطلاب.
  • عناء السفر على الأقدام وصعوبة المبات ليلًا لبعض التلاميذ.
  • محدودية مستوى التعليم وعدم إمكانية التوصل الى تعليم عالٍ.

المدرسة التقليدية:

  • تتطلب ميزانيّة كبيرة لإنشائها، كما يتطلب تنفيذها وقتًا طويلًا.
  • كلفة عالية لإعداد المعلمين ودفع رواتبهم.
  • يجب ان تكون المدرسة ضمن منظومة سياسية تعنى بالبرامج والمناهج والتكلفة.
  • بعد امتلاء المدرسة بالتلاميذ، لا مجال لإضافة مقاعد على أي صف، أو تكبير المدرسة إلّا بعد الحصول على الأموال الطائلة اللازمة!
  • على كل تلميذ ان ينتظر أنه قد يخسر ثلاث ساعات يوميًا للذهاب والإياب وفرصة الغذاء وفترات الراحة.
  • لا يمكن للتلميذ أن يختار المدرّس الأفضل لتلقينه الدروس!
  • لا توجد ضمانة من حيث الحصول على النتائج المرجوة.
  • تفاعلٌ بين التلميذ واترابه قد يساعده ضمن نشأته.
  • ابتعاد الأهل عن دورهم الأبويّ في تنشئة الطالب.
  • تعرض التلميذ لتأثيرات قد تكون سلبية من قبل رفاقه، وكلّ ذلك يحدث بعيداً عن العين الساهرة.

التعليم عن بعد:

  • بداية التعليم عن بعد بدأت بالحصول على الشهادات ضمن برامج بالمراسلة!
  • التعليم بواسطة المنصات الإلكترونية ساعد بما يلي:
    • سمح بتلقين الدروس على الرغم من انتشار الوباء.
    • ألغى الزمن اللازم للانتقال الى المدرسة والعودة منها.
    • كلفة تأمين باصات انعدمت.
    • إمكانية إضافة مقاعد دراسية دون تكلفة عالية.
    • لا حاجة لإضافة مبانٍ جديدة!
    • أصبح بإمكان الوالدين مراقبة أبنائهم خلال تحصيلهم العلمي، وعودة لبعض ما افتقده الأهل في معرفة خصوصيات أولادهم كما كان يحصل خلف جدران المدرسة.
    • من الواجب إعداد المعلمين بطرق جديدة لتلقين الدروس لتلاميذهم!

وبالنهايه يجب ان نتساءل:

  • هل كلّ من تابع علمه في المدرسة التقليدية وصل إلى مبتغاه؟
  • هل نرفض التعليم عن بعد قبل ان نتمكن من معرفة محاسنه؟
  • هل ثبت ان الذي يتعلم عن بعد سيفشل في حياته العملية؟
  • هل الكلفة المادية ليس لها دور في تعليم المزيد من التلاميذ ؟ وخصوصاً في المناطق النائية ؟

واسمحوا لي في الختام ان أردّد الآية الكريمة: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم…”

قياسي

أضف تعليق