حكاية عروس

حكاية عروس (أنا وأخي صلاح ٤)

كنت قد طلبت من صلاح أن يكتب هذه القصّة لسببين: أوّلهما أنه عاشها بحذافيرها ولم أعرف تفاصيلها إلّا من خلال ما قصّه عليّ، وثانيهما لأنّي تعدّيت على “المصلحة” عندما بدأت الكتابة بهذه اللغة، نظراً لأنه عُرف بفصاحته منذ صِغر سنّه، في الوقت الذي كنت فيه منكبّاً على إتقان العلوم والرياضيات والتي كانت وما زالت بعيدة عن مجالات الأدب!

وإذ تبدأ القصّة لدى أحداث تاريخية وقعت منذ أقلّ من أربعة عقود، بدأت اسأل نفسي: “من كتب التاريخ؟ وهل كُتِبت أحداثه بشكل مُحقّ وعادل؟”

للحقيقة بدأت أشكّ في كل ما رُويَ، وما كتَبَ التاريخَ إلّا من انتصر، وصوَّر نفسه أنه الفريق الذي خلّص العالم من خطر أناسٍ شرّيرين كانوا سيفتكون بالشعوب ويقضون على الديموقراطية! أطلب السماح من الذين يقرأوني لأنّي بدأت أشكّ في كلّ ما أقرأه، وقد يكون المنتصرُ أشرَّ فتكًا ممن خلّصنا منهم، وكم من شاةٍ افترسها ذئبٌ لأنها عكّرت صفوَ مياه النهر الجارية باتجاهها من نحوه وذلك على الرغم من توسّلها واعتذاراتها!

قبل بزوغ فجر ذاك الصباح في منتصف شهر نيسان من سنة ١٩٨٥، وعلى صوت زمّور سيارة لا يتوقّف، استفاق صلاح ووالداي من رقادهم العميق في منزلنا العائليّ الواقع على مفرق بلدة جدرا في إقليم الخرّوب. ما ان فتحوا الشبّاك الزجاجي لمعرفة مصدر الصوت حتى صاح ملحم، وهو ابن عمّتي، صارخاً بأعلى صوته: “اهربوا! وُصلوا! سقطت المنطقة!”. وكانت أصوات الرصاص المنهمر باتجاههم تدلّ على ان المهاجمين أصبحوا على مقربة منهم!

هرعوا بالهرب في سيارة أخي الصغيرة والتي كانت من نوع تويوتا. حملوا معهم أوراقهم الشخصية وألبوم صور العائلة وأحرمة والقليل من الملابس. والغريب أن والدتي ارتأت أن تحمل معها لأخي بدلة “التوكسيدو”، وحتى الساعة لا نفهم لماذا؟ عند خروجهم من البيت رمت الوالدة المفاتيح امام باب المدخل الخشبي الضخم المصنوع من الماهوغاني وذلك حتى لا يقوم الغازون بخلعه. تركوا في الحديقة كلبي الحراسة وأقفلوا باب السور الحديدي وراءهم. علمنا فيما بعد ان الكلبين تمّ قتلهما!

سلكوا الطريق الساحلي باتجاه صيدا وانعطفوا نحو بلدة جون وهناك انحرفوا عبر طريق عسكري ظنوا أنه يوصلهم الى طريق جزّين، إلّا أنهم وصلوا الى طريق مسدود حيث تجمّعت سيّارات الهاربين والتي تمّ تركها. مشوا زهاء الساعة حتى وصلوا الى طريق جزين. وإذ لم تتوقف أية سيارة لنجدتهم، عاد أخي ادراجه الى سيارته وأستقلّها تحت الرصاص وسلك طريقا محفوفاً بالأخطار حتى تمكّن من نجدة والديه!

لن أطيل الشرح على القرّاء عمّا حدث في ما بعد، إلّا ان آخرة المطاف كانت بأن استقلوا الطائرة نحو الولايات المتحدة ولم يكن أي منهم يحسن التكلّم بالإنجليزية! كان أخي الصغير حميد يسكن مدينة توليدو في ولاية أوهايو. ومن ثمّ انتقلت العائلة الى ولاية فلوريدا !

كانت تربط والديّ صداقة بعائلة ثرية من ولاية ماساتشوستس. كان للوالدين أربع بنات ربينَ على تكديس الثروات واقتناص الأموال. كنّ جميلات المنظر إلّا ان ولعهنّ بالمال كان لا يُضاهى.

تمّ العزم بين العائلتين على تزويج صلاح الى البنت البكر، ماريّا، وكانت تمْتَهنُ المحاماة. وإذ كان أخي قد فقد كلّ ما يمتلكه إضافة الى مهنته كمحام في وطنه الأم، لم يكن لديه من خيار إلّا الترحيب بالفكرة، وبالأخص لأنه كان لا يتقن اللغة بالإضافة الى كونه بدون أوراق رسمية أوإذن عمل في البلاد الجديدة وليس لديه مهنة يستطيع ممارستها!

لبّى أخي الدعوة وسافر للمكوث بضعة أيام لدى العائلة. وإذ كان المنزل مؤلفاً من طابقين، مكث في الطابق السفلي “البيسمنت”. بدأ يشعر بالامتعاض خصوصًا بعد ان وجد أنه مراقب بشكل غير اعتيادي. ما ان يتلقى اتصالا هاتفيا حتى يشعر ان كل السماعات الموجودة في المنزل تصغي جميعها الى محادثته. كانت الفتيات تشكّلنَ فريقًا متعاضداً اشبه بالعصابة. فوجئ مرة بسؤال ماريا: “إذا كنتُ أغرقُ في البحر وكانت والدتك تغرقُ معي في نفس الوقت، من تُنقذ في الأوّل؟” صُعقتْ عندما أجابها “والدتي” مبرّراً ذلك بأنه يستطيع الإتيان بزوجة أخرى إلّا انه لا يستطيع الإتيان بأم جديدة!

كانت الابنة الثالثة “جمانا” مخطوبة لشاب وكانوا يعدّون لحفل الزفاف الذي كان مقرراً بعد أيام من وصول أخي. كانت التجهيزات جارية على قدم وساق وتمت دعوة المئات للحفل.

وعند درج الكنيسة كانت المفاجاة. كلكم سمعتم عن عروس تهرب نهار عرسها، إلّا ان الجميع تفاجأوا بهروب العريس الذي تردّد في آخر لحظة خوفاً من علقة لا تُحمد عقباها!

سأل والد العروس أخي: “رغم كلّ ما حدث، أما ترى أن الحفل كان ناجحاً وعلى أكمل وجه؟”

ثم سأله: “بما اننا اشترينا مسبقاً تذاكر السفر للعريسين وتكلفة الإقامة في أفخم الفنادق في روما، ما رأيك ان تسافر مع العروس، بدل العريس، لقضاء فترة شهر العسل؟”

طبعاً، رفض صلاح العرض، ثم سعى بكل ما بوسعه للفرار بدوره من وقعة لا تُحمد عقباها وتذرع بمرض الوالدة للسفر لمدة قصيرة أبعدته عن تلك العائلة لمدى الحياة! 

قياسي

3 آراء حول “حكاية عروس

أضف تعليق