من أجلك يا بيروت

ها إنّي في غربتي، ومن القوقعة التي أتمركز فيها، أسترجع ماضيَّ وتلك الحقبات الزمنيّة التي عشتها مذ فِراري مع عائلتي من الموطن الذي طالما أحببت، وذلك طلباً للعيش الآمن في أيّ بلدٍ يَتقبّلُ وجودي على أراضيه ويمنحني حق اللجوء إلى مجتمعه!

إلّا أنّي فوجئت في ماضٍ أقرب أن الكثيرين ممّن تسبّبوا في هجرتي أضحوا يجاوروني العيش في هذه البلاد الجديدة التي استنفذتُ الكثير من المشقّات حتى وصلتُ إليها!

وفي حقبةٍ لاحقة وجدت رعيلاً آخرَ ممن ساهموا في رحيل من سبقهم يحطّون رحالهم إلى جانب من تسبّبوا هم في خراب بيوتهم!

والغريب في الأمر أن المتوافدين الجدد استحضروا معهم انتماءاتهم الحزبيّة الضيقة في بلد المنشأ وهم يتزاهون برفع أزرار الأحزاب التي ينتمون إليها على صدورهم وكأنّ شيئاً لم يكن! والجميع ينشدُ: “كلّنا للوطن…” وأنا اسأل نفسي: أيّ وطنٍ ذاك الذي لم يتمكّن أبناؤه من التعايش تحت سقفه، بينما يتآخون في بلدان الغربة؟

نتغنّى بعلَمٍ تتوسّطه الأرزة وهي ترمز للخلود، واللون الأحمر لدماء الشهداء الذين ماتوا من أجل الدفاع عن حدوده، والأبيض رمزًا لصفاء القلوب! وها نحن قد اقتلعنا جذور تلك الأرزة وأيبسنا خضارها وأسَلْنا من الدماء في تناحراتنا الداخلية آلاف المرّات أكثر من تلك التي سالت من الذين ماتوا في سبيل الوطن واستبدلنا بياض القلوب بسواد الحداد!

وأمّا عنكِ يا بيروت…

بعد هذا الانفجار الذي يُعدّ الثالث من حيث القوّة في تاريخ البشرية…

قضى مئات الأبرياء نحبهم بينما يُعدّ المشوّهون بالمئات… وقد يتجاوز عددهم الآلاف…

قد لا يكون قد تبقّى من معالمك يا بيروت معلمٌ واحدٌ عايشته في صغري…

كلّها انمحت عبر عقود الحروب واختفى ما بقي منها مع هذه الكارثة الأخيرة…

وكأنّ الماضي مرّ كحلمٍ من الأحلام ولا دليلٌ حسّيٌّ على وقوعه!

لم يبقَ لي سوى مقالين دوّنتهما تحت عنوان “ذكريات بيروتيّة” وهما يحكيان تلك الأيام الجميلة التي أمضيتها في صغري!

وأما عن المستقبل… فقد أكون متفائلاً إن قلت أنّي متشائمٌ…

لا خيرَ من شعبٍ يُقولب حكامَه على شاكلته البائسة.

نحن من صنعَ الاعوجاج فيهم ومن ربّى لديهم نفسية اللامبالاة: “خربت، عمرت، طلعت، نزلت، حادت عن ظهري…بسيطة” 

كلّهم يتبوأون مناصب عالية، إلّا أننا لا نجد بينهم مسؤولًا واحداً يُقرّ بمسؤوليّته عند حدوث أي مكروه!

نحن من تعوّد على من يسبق غيره في صفّ الانتظار وان يحصل على ما يبتغيه قبل سواه وإذا أوقفنا شرطي لمخالفة ما نقول له: “بتعرف مع مين عم تحكي؟” ثمّ نتصل بالزعيم الأقرب ونطلب منه التدخل والمساعدة!

ممّا لا شكّ فيه ان أكثر حكّامنا سيّئون جداً، إنما نحن الشعب نفوقهم سوءًا! نحن من ساهم في انهيار البلاد اقتصادياً في مقامرتنا على نفسنا وعلى بلادنا من خلال الدخول في مستنقع الفوائد المرتفعة والغير مسبوقة!

نحن شعب فقد بصيرته! نعرف ما لا نريد وقد لا نعرف ماذا نريد!

ويؤلمني كثيرأ ما أراه على شاشات التلفزة من متظاهرين يكملون حرق ما لم تصل اليه نيران الانفجار! وكثيرون منهم لهم “أجندات” معينة ينادون فيها…

قياسي

4 آراء حول “من أجلك يا بيروت

  1. Carol Tohmé كتب:

    Well said!! For governments are nothing but a mere reflection of the people.
    We, the people, lack vision, seriousness, and more importantly we lack discipline. We were busy partying, having fun, driving fancy cars and wearing the finest fabrics, convinced that we were the smartest of all!!! Hopefully the new generation will be different…

    • اوافقك الراي فيما تقدمت به الا اني لا انتظر الكثير من الجيل الطالع لان هذا الجيل نشأ في بيئات ضيقة ولم يتربى كجيلنا حيث كان التخالط يخفف من وطأة الانعزال الديني والفئوي

  2. Nabil Korban كتب:

    Réflexions en plein dans le mille Bachir. Ça représente les points de vue de tout Libanais franc et honnête …

    • نحن الجيل الذي عاش في الزمن الذهبي (لا بل الماسي) الا اننا للأسف فقدنا الدور الذي كان من المتوجب ان نلعبه في مجتمعنا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s