بعد التجربتين الفاشلتين اللتين عشتهما بين البلبل والحسّون يئست بعض الشيء من ان انجح يوماً في تربية العصافير!
إلّا ان عمّي شفيق قام بإهدائي فرخ كناري (وكنا نسميه بالعاميّة: كنار). قصدت منزله القريب الذي كان يقع في قرية وادي الزينة وغرب طريق صيدا القديمة. كنا نوقف السيارة بجانب الطريق لننحدر نحو المنزل عبر طريق صغيرة تكاد تتسع لسيارة واحدة وهي معبّدة بتربيعات أسمنتية تمّ صبّها بشكل لا توازي أضلاعها اتجاه الانحدار. وقد تمّ زرع حصى زلط ضمن البعض منها بشكل مربعات الداما وذلك للمساعدة على تجنّب خطر الانزلاق. وإذ كانت مسافة ضيقة تفصل بين المربّع والآخر، نبت عشب التيّن الأخضر عبر تلك المساحة ليعطي رونقاً جذّاباً بالإضافة الى الحوضين الطويلين اللذين يوازيان طريق المدخل حيث نمت الأزهار والورود تتخلّلها بعض أشجار الدّفلة الصغيرة.
أما المنزل فكان من طابق واحد من ناحية طريق صيدا بينما من طابقين من ناحية البحر نظراً للانحدار الطبيعي للأرض. وكان خطّ سكّة الحديد يفصل بين موقع المنزل والشاطئ الصخري الذي تُلاطم أمواج البحر نتوآته ليرتفع في الهواء ومع كلّ موجة رذاذ المياه المالحة فتنقلها الرياح الآتية من ناحية القبلة لترطّب الأجواء وتعطّر بنكهتها كلّ من كان يجلس على الشرفة يتأمّل في الأفق البعيد!
في ذلك الوقت كان عمّي شفيق مغرماً بتربية عصافير الكناري في أقفاصها الموزّعة على مختلف غرف المنزل وكلّ منها معلّق في وسط السقف في تعليقة حديديّة مخصّصة لحمل ثريّا الإنارة. أما أصوات الزقزقة المرتفعة والمنوّعة فكانت تعطي المنزل جوّاً لا يقارن!
استلمت عصفور الكناري في قفصٍ زواياه مؤلّفة من عوارض خشبيّة تجمع بينها أسلاك معدنيّة متوازية الأبعاد. أما ريشه فكان من اللون الأصفر الجذاب ويعطيه رونقاً أخّاذاً وكأنّ الخالق ميّزه عن بقيّة العصافير.
وإذ كنا نمضي عطلة نهاية الأسبوع في منزل المزرعة القريبة من منازل أعمامي، في نهاية تلك العطلة أخذت العصفور معي الى منزلنا في بيروت. كنت انتبه الى مأكله ومشربه واخشى عليه من ان ينقصه أيّ شيء!
لم أرضَ أن اتركه يعيش في ذاك القفص البسيط وأردت ان أعزّزه. قصدت أحد المحال التي تبيع الأقفاص ومستلزمات تربية العصافير وكان بجوار وزارة المالية القديمة بالقرب من سينما “كابيتول”.
اشتريت له قفصاً معدنياً مطلياً “بالكروم” اللمّاع جميل الشكل وأكبر بكثير من القفص الصغير الذي استحضرته به. بالإضافة الى معلفي الأكل اللذين كان كل منهما يحتل ناحية من طرفي القفص، كانت أرجوحة معلقة في السقف النصف دائري تُمكّن العصفور من التأرجح كلما وقف على الوقّافة الخشبيّة التي تجمع بين طرفيها! اشتريت له مشربيّة للماء يدخل فمها بين أسلاك القفص بينما يبقى أنبوب زجاجي خارجه يغزّي بالماء كلما شرب العصفور حاجته!
بالإضافة الى ذلك تبضّعت المزيد من الأشياء كعلبة الفيتامينات التي تعلّق داخل القفص ويأخذ منها قدر ما يريد و”لسان البحر” الأبيض الذي كنّا نصدف منه على الشاطئ والذي يزوّده بالكالسيوم كلما غرس منقاره فيه والحمّام البلاستيكي الذي هو بشكل غرفة صغيرة تعلّق على باب القفص وتوضع في قعرها مياه فتمكّن العصفور من الاستحمام فيها!
أما ما استحوذ إعجابي فهي أسطوانة تسجيل لأصوات كناري بلغات متعدّدة تساعد الفرخ الناشئ على تعلّم التغريد والزقزقة حين يسمع الإنشاد “العصفوري” من أفضل نجومه!
عنيتُ كثيراً بتربية ذاك الكناري وكنت أخشى عليه من أشعّة الشمس فلا أُفرطُ في وضعه كثيراً تحت وطأتها. واظبتُ على إسماعه تسجيل الأسطوانة علّه يتعلّم منها بعض التغريدات! إلّا أنه ملّ من سماعها بعد فترة وأصبح ينكبّ على الأكل ما ان أشغّلها له!
كنت انتظر ان أسمع منه زقزقة قصيرة أو حتى تصفيراً إلا انه لم يفعل. وبعد أكثر من سنة من اهتمامي به أخبرت عمّي بالأمر فقال لي: “يبدو ان العصفور أنثى. سنضعها مع ذكر علّهما ينجبان!”
أعدتُ الكناري لعمّي فوضعه كما وعد مع ذكر وانتظر أشهراً دون جدوى. ولما سألته قال ضاحكاً: “هذا “شكر”، لا أنثى ولا ذكر!
بعد فترة قرّر عمّي التخلّص من العصفور. وكان أفكح من بلدة شحيم يصرّ عليه كي يعطيه أحد العصافير التي بحوزته. لذا أعطاه ذاك الكناري الذي كان يمضي وقته بالأكل دون منفعة ووضعه له في قفص لا يساوي ليرة واحدة.
بعد فترة علمت ان عصفوري بدأ يُنشد بزقزقة لم يعرفها أحد من قبل حتى طالت سمعة براعته كلّ الجوار. واستنتجت ان كلّ ما تعلّمه عندي “باضه” في مكان آخر!