القامة اللبنانيّة والقامة الأنجليزيّة

hommes au complet

ذكّرني صديقي عبدو في بيروت والذي ما زالت تربطني به صداقة قديمة تعود الى عقود خلت، بقصّة كنت قد رويتها له في بداية تعارفنا لمّا كنّا ما زلنا نعمل في مدينة الرياض.

لكل شعبٍ ميّزات خاصة به فيما يتعلّق بشكله ومعالم وجهه وشعر رأسه ولون بشرته وطول قامته وغيرها من المواصفات وذلك يعود بمعظمه الى عرقِهِ والسلالة التي تحدَّر منها والتغزية التي توفّرت له خلال سنيّ نشأته. ويبدو ان الكثير قد تغيّر خلال النصف الأخير من القرن الماضي أِذ ان بعض الشعوب زاد معدّل طول قامَتِها بنحوٍ من بضع سنتيمترات وحتى أن منها من كسب زيادة بلغت شبراً أِضافيّاً. ويعود الفضل بمعظمه لتوفر العناية الصحيّة والتغذية السليمة على مدار فصول السنة في العصر الحديث!

عند اكتمال نموّي كنت أتميّز عن أقاربي وأترابي في الدراسة بطول قامتي. في المنطقة التي نشأت فيها كان من زادني طولاً نادر الوجود وكان مظهر جسمه غير مستحب لعدم تناسبه مع قامة الفتيات! كنت فخوراً بقوامي وكنت أخطو بزُها عندما أمشي. أما في الكنيسة في قرية جدرا فكانت النساء يجلسن في مؤخرة القاعة بينما كان الرجال يجلسوم في المقدّمة. وكان رأسي يبدو واضحاً مميزاً فوق مستوى باقي الرؤوس! وكانت النساء إن لاحظن أحد الأطفال ينمو أكثر من غيره يقلن: “ما شاء الله، سيُصبِح بطول بشير!”

كنتُ قد قاربت الثامنة عشرة من عمري عندما اشتريت كنزة صوف جاهزة بلونِ رمليٍ قاتم. وكانت تتميّز بجدلة عمودية على الصدر من ناحية وأخرى من فتحة الرقبة المستديرة.

كانت ابنتا عمّي حليم، “نوال” و”فتنة” قد اشتريتا ماكينة “تريكو” حديثة لحياكة الكنزات. وكانتا قد تعلّمتا تشغيلها عندما كانتا تساعدان والدهما في مشغل “التريكو” الذي كان قد أنشأه في منزل العائلة وكان قد أسماه “تريكو قزيTrico Azzi ” وذلك قبل أكثر من عقد من الزمن!

أخذت الكنزة وقصدتهما وقلت أَنِّي أريد أن أحيك كنزة مثلها أِنما بلون آخر. قالتا أن الكنزة تأخذ من ١٤الى ١٦ شلّة صوف عادة، أما بالنسبة لطول قامتي فعليّ بالأِتيان ب١٨ شلّة.

قصدت سوق المعرض في بيروت وتبضّعت بالعدد المطلوب من ماركة “بان جوان” وكانت من أفضل أنواع الصوف واخترت لوناً أزرق سماوي. وبعد أيام من أِيصالي الكمّيّة المطلوبة لهما، أرسلتا بطلب أربع شلّات أِضافية. وبعد يومين من تسليمي العدد الأِضافي ، قامتا بطلب شلّتين أِضافيّتين…

بعد أيام طلبتا مني الحضور لأن الكنزة قد اكتمل تصنيعها. وما ان وصلتُ حتى طلبتا مني تجريبها. وكانت المفاجأة: كان طول الكنزة يسدل الى ركبتيَّ! لقد كان انطباعهما عن طول قامتي أكثر بكثير من الواقع! وبعد “كرّ” خيوطها قامتا بأِعادة الحياكة لتصبح على المقاس المناسب!

في فترة العشرينات من عمري، كان خصري نحيلاً بينما كان منكباي عريضين وكان ذراعاي طويلين مع ساقين رفيعين وطويلين تذكّران بعصا لعبة “البليار”! كانت الفتيات في ذلك الزمن يفضّلن الشاب البدين، وذلك بعكس ما أصبحن عليه في يومنا هذا بعد ان اكتسبتُ بعض السمانة بفضل كرشٍ أضحى يزيّن وسطي!

كانت البدلات الجاهزة لا تتماشى مع جسمي. حاولت ان أَجِد لباساً الا ان المهمة كانت شبه مستحيلة. قمت بالتردد على عددٍ من أهم المحال للألبسة الرجالية ك”ألفا، وحلبليان و جوزيف عيد” أِنما دون جدوى. كانت الأكمام قصيرة بالنسبة لطول ذراعيّ وكان وسط الجاكيت يفضفض حول خصري. أما السروال فكان يعطي متّسعاً للكثير من اللحم الاضافي الذي لم أكن أملكه. لذا كان لا محالة من القيام بتعديلات متعددة على أية بدلة لدى شرائها كأِطالة الأكمام وتضييق الخصر وتغييرات كثيرة على البنطلون وكل ذلك كان يمسخ بالنهاية الشكل العام للّباس ويفقده رونقه!

حاولت ان أزيد من وزني بتناول دواء يعطي سمنة بعد أن قمتُ بالتزوّد به من الصيدليات. كان اسمه “سوبر ويت أون” وكان باهظ الثمن! كان عليّ ان أمضغ ١٢ حبة يومياً مع شرب ٤ أكواب من الحليب. وحيث ان معدتي كانت حساسة لدى استهلاك هكذا كميات من الحليب، وجدت بعد أسبوعين أن وزني قد خاس فتوقفت عن العلاج!

بعد بضع سنوات، أُرسلت بمهمة للعمل في لندن لمدة بضعة أشهر في مكتب الشركة التي كنت موظفاً لديها. كان موقع العمل في الوسط التجاري على ١١٧ بيكاديلّي بينما كنت أقطن منطقة “هامستيد” في شمال المدينة.

وبينما كنت أمشي خلال فرصة الغداء بحثاً عن فرع البنك الذي تتعامل معه الشركة وكان تحت اسم “ناشونال ريبابلك” على شارع “كورزن ستريت” الموازي لشارع “بيكاديلّي”وجدت متجراً للملبوسات الرجالية يحمل اسم “بيغ إند مايتي Big and Mighty “. قلتُ لنفسي: “ها هو! أخيراً وجدت المكان الذي أَلقى فيه حاجتي من الملبوسات!”

دخلت المتجر عبر الواجهة الزّجاجيّة. كان كثير العمق والملابس معلّقة بشكل منظم من ناحيتيّ الممرّ الرئيسي الموجود في وسط المحل وهوخالٍ من الزبائن الّا ان أحد الباعة، كان يقوم بتصفيف الملابس في منتصف المكان وهو يدير نصف ظهره نحو المدخل وكنت أرى شعره الأشقر وهو يرتدي بدلةً بنيّة.

أخذت أتفقّد بعض ما كان معروضاً وانتظرت منه أن يأتي لمساعدتي لا سيّما أني لم أكن أبعد عنه الاّ خطوات! وأِذ لم يأبه بوجودي أطلقت قحّةً متمنّياً أن ينتبه لي! ألا أن ذلك لم يُجدِ نفعاً وظلّ مواظباً على أِتمام ما كان يفعله!

قلت له: “هاي” بصوت معتدل. وكأنه لم يسمعني! صرخت “هاي” بصوتٍ عالٍ وأِذ به يلتفت نحوي أخيراً. كنت أرى بشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين! سألته: “أبأِمكانك مساعدتي؟” أجاب بتهذيب: “ماذا تريد؟” أجبته أني أريد شراء بدلة. سألني: “لمن؟ “أجبته متعجّباً: “لنفسي.” عندئذٍ هزّ رأسه بالنفي وقال لي: “لا توجد عندنا ملابس لك!” كيف يقول ذلك وأنا لم أَجِد في بيروت مطلبي وها أنا في محلات “بيغ اند مايتي” لا أَجِد ما يناسبني أيضاً؟

لمّا رأى التباسي وتعجّبي اقترب مني وكان يحمل بيده “مازورة” للقياس ثم وضع رأسها على كتفي واسدل طولها الى ما بعد أصابع يدي وقال لي:” أصغر بدلة لدينا تصل الى هنا.” وكان ذلك يزيد عن مقاسي بنحو شبرٍ أِضافي!

سألته :”أين أَجِد هدوماً تناسب مقاس جسمي؟” قال لي: أنت جسمك عادي وتجد ملابس على مقاسك في أية محال مخصصة للهدوم الرجالية. ودلّني على محلات “موس براذيرس” في منطقة “كوفين جاردن” حيث أيقنت فيما بعد أن جسمي “عادي” بامتياز وبالأخص بالنسبة للشعب الأنجليزي!

 

قياسي

رأيان حول “القامة اللبنانيّة والقامة الأنجليزيّة

  1. Samir Abou Saab كتب:

    كالعادة قصص شيّقة من الماضي،
    رزقالله على هيديك الايام.

    على فكرة، لماذا لم تعد عادات الخياطة وبالاخص خياطة البذلات رائجة؟
    كان عندنا في الدامور صديق للعائلة، اسمه يوسف فرح كان يبيع كوبونات جوخ للبذلات وكان يتجوّل في سيارته ومعه العديد منها.
    ومن الماركات الّتي كان يتغنّى بها
    Dormeuil
    وكان خيّاطنا المشهور في تلك الحقبة الياس نعمة اللذي التقيته في مونريال
    واستعدت معه بعض الذكريات المضحكة.
    .
    المضحك مع هذا الخيّاط
    الماهر ، كان عليك أن تسلّمه قطعة القماش في اوّل الصّيف لتستلم بذلتك في أوّل الشّتاء.
    وكان في كلً مرّة تسأله وين صارت هالبدلة يقول والله يا صاحبي ضيّعت القياس،
    فيك تمرق شي يوم حتٌى ناخد القياس عن جديد.
    وفي المرّة التّالية يقول لك ما قلتلّلي اذا بدّك فتحة للجاكيت من ورا وفي المرّة الثالثة؛ ما قلتلّي اذا بدّك قصفة للبنطلون……
    بالرّغم من كل هذا كان محبوباً.
    الى اللّقاء يا صديقي مع قصّة جديدة، لا تبخل علينا.

    • يا لها من ذكريات جميلة أرجعتنا بها يا صديقي سمير الى أيام مضت كالسحر وجعلتنا ضمن تعليقك نعيش معك قصة تفصيل البدلة وخياطتها عند يوسف فرح! شكراً لك لتعليقك المميز والذي سيستمتع به كل من سنحت له فرصة قراءته!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s