خلال السنة الدراسية ١٩٧٢-١٩٧٣ في لبنان كانت التحركات الطلاّبية في أوجّها. وما ميّز تلك الفترة بالذات كان اتفاق افرقاء اليمين واليسار لأول مرة على خطوط مشتركة لتفعيل وتحقيق المطالِب الطلاّبية. وقد لعب دوراً بارزاً فريق كان يحمل اسم حركة الوعي.
آنئذٍ كنت رئيساً لرابطة طلاّب كليّة الهندسة في الجامعة اليسوعية. لذا كان عليَّ تمثيل كليَّتي في الإجتماعات الطلابيّة كافةً. فاشتركت في مؤتمر دام يومين في قاعة الاونسكو في محيط كلية التربية تمّ خلاله الإتفاق على نقاط وضعناها بشكل مطالب يتم العمل على تحقيقها لاحقاً.
وبعد ان لمس الطلاب تصلباً من قبل الحكومة لتلبية اي من المطالب، كان لا بد من ان يلجأوا الى وسائل ضغط كالإضراب والتظاهر. ويجب ان لا ننسى ان هذه التحركات تلت ما كان قد حدث في باريس لبضع سنوات خلت وأسفر فيما بعد عن استقالة الجنرال “ديغول” من الرئاسة!
في تلك السنة كان الرئيس صائب سلام يتولى وزارة الداخلية بالإضافة الى منصبه كرئيس للوزارة. وإذ كان يغضُّ النظر عن الإضرابات في داخل الحرم الجامعي او في المدارس الثانوية إلا انه كان يمسك الشارع بقبضةٍ من حديد! فكانت كل محاولة تظاهر تبوء بالفشل لان قوى الأمن كانت تنقضُّ بسرعة البرق وتفرّق المتظاهرين. وكان شرط السلطة انها لن تسمح بأي مظاهرة لم تكن قد حصلت على إذن مسبق من قبل السلطات المختصّة!
وبقي الوضع الطلابي يراوح مكانه من إضرابات طلابية ومطالب لا تجد لها أُذُناً صاغية الى ان جاءنا طلب من القيّمين على التنظيم الطلابي بالدعوة الى مظاهرة تم “الترخيص” لها وذلك في اليوم التالي للإعلان ودعوا الجميع للاشتراك بها بكل طاقاتهم.
دعوتُ طلاب الكلية الى جمعية عمومية فاتخذنا قراراً بالإضراب والإشتراك بكثافة في المظاهرة التي كانت معدة للإنطلاق من محيط الاونسكو.
في اليوم التالي قصدت المكان بسيارتي، وكانت من نوع ڤولس ڤاكن، خنفسائية الشكل، لونها أزرق سماوي وكان يظهر عليها بضع سنوات من الخدمة. أوقفتها الى جانب احد الأرصفة القريبة وتوجهت سيرًا على الأقدام الى قاعة الاجتماع المعدة لرؤساء الكليّات والثانويّات. وما ان اجتمعنا الى ان تم إبلاغنا ان المظاهرة لم تكن مرخَّصة قط وان الخبر عارٍ عن الصحة وإنما تمّ نشره لاستقطاب اكبر عدد من المشاركين!
احسست ببعضٍ من الإحباط نظراً لأني أنا كنت قد أكّدتُ لكثيرين من الطلاب الحضور أن المظاهرة “مرخَّص” بها، فلذا يجب حضورهم ولم أكن اريد بالتالي ان أعطي ايّ إنطباع بأني خدعتهم كما لا اريد أن أحمل ذنب أي شائبة قد تصيب أياً منهم فيما لو حصل ما لا تُحمد عُقباه!
خرجت بعد الاجتماع الى الباحة لمقابلة ربعي وكان من المفترض ان يرفعوا لافتات تحمل اسم كليّة الهندسة وكانت مفاجأتي عظيمة إذ لم أَجِد من أصل نحو ٥٠٠ تلميذ هندسة الا ما قد لا يزيد كثيراً عن عدد أصابع اليد الواحدة! وكانت القلّة التي حضرت تتبع تيارات يسارية متطرفة فيما فضّل الآخرون اعتبار النهار نهار عطلة مدرسيّة يقصدون فيه منتجعاً كفاريا أو اي مكان آخر لتمضية الوقت. وما زاد الطين بلة أني التقيت احد معارفي والذي كان يعمل بالمخابرات إذ بادرني: ماذا تفعل هنا؟ هذا ليس مكانك! معلوماتي ان المظاهرة لن تنتهي على خير!
بدأنا بالإصطفاف للإنطلاق فكان بشكل خطوط متوازية تأخذ عرض الطريق وكان كل صف يحوي نحواً من عشرين طالب. وما ان أخذت لنفسي مكاناً في الصف الثاني من الطليعة حتى انتفض احد المنظمين وقال لي: “انت رئيس، تمشي في الصف الأول.” وأخذني بيدي ليضعني في وسط الصف الأول! وبدأت اسأل نفسي هل يعقل ان امشي في مظاهرة قد آخذ فيها تعنيفاً بالضرب بينما من أمثِّلهم يشمّون الهواء ويتنزهون؟
انطلقنا نحو دوّار الكولا والذي كان في محيط الجامعة العربية وكان الطلاب يهتفون شعارات بشكل منظم ليزيدوا من حماس الحشود المشاركة. وكنت انظر الى الخلف لأرى ولو شعاراً واحداً مرفوعاً يمثّل كليّتي او على الأقل أحداً من اليساريين القلائل الذين شاركوا الا أن عينيَّ كانتا تزوغان دون التوصل الى رؤية ما ابحث عنه!
انعطفت المسيرة عند الدوار باتجاه طلعة برج ابي حيدر الذي كان يؤدي الى وسط المدينة. وكان حماس الطلاب يزيد والصراخ يعلو بشكل منتظم وكأن الشعارات ما كانت الا مقاطع من اناشيد وطنية! وضاقت الصفوف الأمامية بتلاصق اكتاف الماشين فانتهزتها فرصة للانزلاق الى الصف الثاني وما مرّت لحظات الا ليُعاد وضعي في وسط الصف الاول!
ما ان اقتربنا من التقاطع مع كورنيش المزرعة حتى بدأت ألمح عن بعد الإعدادات الشبه قتالية التي كانت تنتظرنا. فعلى الزوايا الأربع كانت فرق أشبه بالقوات النظاميّة بكامل عدَّتها من خوّزات حديدية، الى دروع خاصة، الى هراوات الى بنادق حربية والكل ينتظر وصول المظاهرة للإنقضاض عليها!
بدأت أفكّر بالشبان الذين يمشون ورائي ولا يعلمون ما ينتظرهم مصدقين ان التظاهرة قد حصلت على ترخيص مسبق! فتمتمت شفتاي: الله يمررها بسلام!
ما ان دخلنا التقاطع حتى كنت ارى عن قرب أفراد القوى الأمنية بنظراتهم الثاقبة واحناكهم المطبقة على أسنان تكزكز وشفاههم التي تتحرّك نحو الامام ثم تعود الى الوراء وأجسامهم التي تموج وهي تراوح مكانها وكأنها ملجمة وجاهزة للإنقضاض على فريستها!
وما هي الا لحظات حتى علا صوت الرصاص وانقضّت القوات على المتظاهرين ودوى الصراخ وأصبح التقاطع مسرحاً لمعركة ولعمليات كرٍّ وفر. عندئذ لم يكن لي خيار سوى تشميع الخيط والهروب من حيث اتيت! واذ كان صوت الرصاص لا يهدأ كان كعبا رجليّ يطالان ظهري وانا اركض نحو السيارة…
علمت صباح اليوم التالي من الصحيفة ان نحواً من مئة طالب تم ايقافهم بينما أصيب شاب من كليّة الهندسة في الجامعة اليسوعية اسمه بشير أُبَري برصاصة في فخذه!
تأخرت بعض الوقت للوصول الى الكليّة وكانت تقع على تلّة مار روكز فوق الدكوانة لأُفاجأ بأن الطلاب يعقدون إضراباً ويطالبون بالإفراج عني ظَنّا منهم أني كنت في عداد الموقوفين!
وصلني من الإعلامية السيدة كوليت ضرغام التعليق التالي:
لا توّثق وتؤّرخ فحسب بل وترفق صورة من واقع الحدث آنذاك وكأنّك كنت عارفا يومها أنه سيأتي يوم تحتاج فيه إلى سرد تلك الحكايات ونقل أجوائها على غرار المؤرخين وكتّاب التاريخ…
أكرّر وأقول بأنك تملك حس الروائي الذي يشوّق قارءه لمتابعة حكايته بسلاستها وانسيابها وكثرة التوصيف فيها ودقته وتنجح في كل مرّة صديقي بشير في أخذنا إلى فُرجة جميلة !
شكرا على قصصك والسؤال هل عندك بعد من هذه الحكايا ووين كنت مخّبيها؟
الف شكر يا سيدتي على هذا الإطراء الجميل الذي يزيد من عزيمتي على المتابعة في الكتابة ونشر مواقف كنت قد عايشتها في ايّام خلت وان لم تكن في حينها في نفس الطرافة التي نقرؤها اليوم.
طبعاً لدي الكثير من الأخبار التي تنتظر دورها للبزوغ الى النور بعد ان كنت قد دفنتها لسنين في ذاكرتي وأرجو ان تسنح لي الأيام ان انقل بكلمات صوراً لم تتوافر في حينه عدسات الكاميرات لتوثيقها للزمن.