
لكلّ امرئٍ قصصه فيما يتعلّق ببعضٍ من الهدايا التي تلقّاها خلال حياته وبالأخص تلك التي لم يفهم السبب الذي دفع بمقدّمها الى انتقائها! وبِتْنا أيضاً عبيداً لعادة اقتبسناها عن الغرب وعزّزناها خوفاً من أن يصُحّ فينا القول العامّي “اليد الفاضية مجويّة”!
في الماضي القريب كان يقتصر واجب الإهداء على مناسبات قليلة معدودة كالزواج والولادة! أما اليوم فالمناسبات لا تُحْصى وتُبذخُ أموالٌ طائلة على هدايا لا نجد حاجتنا اليها والكثيرون منّا يمضون ساعاتٍ وأياماً في المتاجر للعمل على إبدالها.
في شهر حزيران (يونيو) من سنة ١٩٦٩ كان قد أُعلن نجاحي في اجتياز الإمتحانات الرسمية اللبنانية للبكالوريا القسم الثاني. وكانت نسبة النجاح ضئيلة كما كانت صعوبة النيل من تلك الشهادة العائق الأساسي أمام تقدم الكثيرين نحو الإلتحاق بالتعليم الجامعي والذي كان في تلك الأيام الضّمان الأساسي لاستحصال مستقبل مزهر وذلك بعكس ما نجده في أيامنا الحديثة من حيث قلّة توفّر مجالات العمل أمام خرّيجي الجامعات.
توافد الكثيرون من الأقارب وأصدقاء العائلة لتهنئتي وكانت العادة أن نقدِّم للزائر فنجان قهوة لبنانية وقطعة بقلاوة احتفاءً بالمناسبة. كما كانت تتوسَّط الصالون على طاولة صينيّة فضيّة مستديرة، وُضعت في وسطها طرحة مستديرة صنعت باليد بطريقة “الكروشيه” ووُضِع فوقها ما لا يقلّ عن عشرة أنواع من علب السجائر. وكانت العادة الإلحاح على الزائر “بتنفيخ” سيجارة! وكانت بمثابة إهانة لصاحب البيت أن يتفقّد الضّيف الأنواع المعروضة ثم يسحب من جيبه صنفاً لا يوجد بين المجموعة المقدمة!
في صباح أحد الأيام كنّا في الشُقّة التي كنّا نسكنها في بيروت في منطقة الخندق الغميق والتي كانت في الطابق الرابع من بناية “أحمد الجزّيني”. كان باب مدخل الشقة خشبياً مطلياً باللون الرمادي من الخارج وباللون البيج من الداخل. وكان الباب مقسوماً على مصراعين، واحد يُفتح بالمغلاق بينما الثاني مثبّت ولا يُفتح الاّ عند اللّزوم. وكانت كلّ درفة تتوسّطها طاقة مصنوعة من إطار خشبي وزجاج محجّر يحجب الرؤية ومحمي من الخارج بالحديد المشغول المزخرف. وكنّا نفتح احدى الطاقات للتأكّد من هويّة الطارق قبل فتح الباب. وما ان ندخل الشقة كان الصالون على اليمين بشبابيكه الزّجاجيّة المحجّرة والمواجهة للغرب بينما غرفة الطعام على اليسار وذلك دون أي قواطع بينهما. أما غرفتا النوم فكانتا تواجهان الغرب ولهما شرفة مشتركة يمكن الخروج اليها من أيّ غرفة عبر باب خشبي زجاجي مزدوج وكان لكلّ باب من الخارج درفتنان من الأباجور الخشبي القديم. وكانت الشرفة تعلو شرفتي الطابقين الأسفليّن وكان المارة يمشون في الشارع إذا أرادوا تحت الشرفات. أمّا الدرابزين فكان مصنوعاً من الخرسانة الصلبة وله مصطبة عُليى تتسع لوضع فنجان قهوة بينما جنبه فكان من الخرسانة التي تواجدت فيها فتحات مزخرفة وكأنها حُفرت في الصَّخْر. كما كانت قد رُكّبت على المصطبة العُليى زوايا حديدية تجمع بينها حبال رفيعة تستعمل لنشر الغسيل. أمّا من الداخل فكان “كوريدور” يفصل بين غرفتي النوم من ناحية والمطبخ وغرفة الغسيل من الناحية الثانية وينتهي بالحمام الصغير ذي الكرسي العربي والذي كانت مغسلته معلّقة خارجه على حائط الكوريدور كما كانت لها حنفية تُزوّدها بالماء البارد فقط! أما على الجدار المتواجد بين باب المطبخ وباب غرفة الغسيل فكانت طاولة صغيرة مستطيلة حديدية ملصقة بالحائط تستعمل لتناول الفطور.
كان “داني” ابن خالي في ضيافتنا لبضعة أسابيع وكنا ومازلنا نعتبره أخاً رابعاً في عائلتنا وكانت المساحات المتوفّرة لا تتّسع لحركته. كان يركض وهو منتصب القامة الصغيرة ولا ترى من جسمه ما يحرك سوى رجليه. كان يخرج راكضاً الى الشرفة من باب ويعود ليدخل راكضاً من الباب الثاني.
رنّ جرس الباب وإذ بقريبة لنا جاءت لتهنئتي بنيل الشهادة. بعد ان قبّلتني وتمنّت لي كل التّوفيق سحبت من حقيبتها علبة بلاستيكية أسطوانية الجوانب، بيجيّة اللّون وكأن النور بدّل في رونقها مع مرور الزمن. كان الغطاء يُسحب من أعلاه. فتحت العلبة وإذ بداخلها من ناحية شريط كهربائي تمّ لفّه لإدخاله بينما كانت من الناحية الثانية ماكينة حلاقة من نوع “براون” لونها بيجي أيضاً ويبدو انها مستعملة! سحبت السيدة الماكينة من العلبة ونظرت اليّ وقالت مبتسمةً:”هذه ماكينة حلاقة كانت لزوجي وقد تعطّلت. أصلحها وخذها!” وكنت أرى شفرات الآلة وكأنها لم يتم تنظيفها منذ زمن!
تردّدت بإظهار ردة فعلي. كيف لا والسيدة من عائلة كريمة عريقة ومعروفة في البلد والمفروض انها تعرف الأصول! وبينما انا أفكر، وإذ “بداني” يحمل العلبة بسرعة البرق ويركض بها نحو الشرفة ويرمي بها الى الشارع. أسرعت لاتفقّد ما حدث خوفاً من ان تكون الماكينة قد وقعت على راس أحد المارة فقتلته! إنما والحمدلله وقعت على الزفت وتبعثرت قِطعها! شكرت ربي على أني تفاديت شرّين: القبول بالهدية اللعينة وخطر إلحاق الأذى بأحد المارة!
كنت أظن أن تلك الهدية تربح جائزة ” أسوأ هدية تلقّيتها” إلى أن وصلتني منذ بضع سنوات هدية تكاد توازيها! كانت علبة شوكولا من نوع “لندت” الشهيرة والمعروفة عالمياً. تذوقت حبتين أو أكثر ولم يكن الطعم مثلما تعوّدته سابقاً حتى اكتشفت ان الشوكولا كانت قد انتهت صلاحيته منذ ثلاث سنوات!
ذكّرتني الحادثة الأخيرة بأيام كنت فيها طفلاً وكنت أرافق والديّ لمعايدة جدة والدتي “زهرة” في مدينة الدامور. كانت الجدة تصرّ على تقديم شوكولا محشيّة من علبة كانت تخفيها في احد الأدراج. كنّا نقرض قطعة صغيرة من الحبّة قبل أكلها لنتفقّد ما إذا كانت تختبئ بداخلها دودة ما!
وإذ أنهي قصّتي هذه، اطلب من القرّاء الذين لهم حوادث مماثلة ان يُقصّوا علينا روايتهم ضمن خانة التعليقات!







