أسوأ هديّة تلقيتها

IMG_2027

لكلّ امرئٍ قصصه فيما يتعلّق ببعضٍ من الهدايا التي تلقّاها خلال حياته وبالأخص تلك التي لم يفهم السبب الذي دفع بمقدّمها الى انتقائها! وبِتْنا أيضاً عبيداً لعادة اقتبسناها عن الغرب وعزّزناها خوفاً من أن يصُحّ فينا القول العامّي “اليد الفاضية مجويّة”!
في الماضي القريب كان يقتصر واجب الإهداء على مناسبات قليلة معدودة كالزواج والولادة! أما اليوم فالمناسبات لا تُحْصى وتُبذخُ أموالٌ طائلة على هدايا لا نجد حاجتنا اليها والكثيرون منّا يمضون ساعاتٍ وأياماً في المتاجر للعمل على إبدالها.
في شهر حزيران (يونيو) من سنة ١٩٦٩ كان قد أُعلن نجاحي في اجتياز الإمتحانات الرسمية اللبنانية للبكالوريا القسم الثاني. وكانت نسبة النجاح ضئيلة كما كانت صعوبة النيل من تلك الشهادة العائق الأساسي أمام تقدم الكثيرين نحو الإلتحاق بالتعليم الجامعي والذي كان في تلك الأيام الضّمان الأساسي لاستحصال مستقبل مزهر وذلك بعكس ما نجده في أيامنا الحديثة من حيث قلّة توفّر مجالات العمل أمام خرّيجي الجامعات.
توافد الكثيرون من الأقارب وأصدقاء العائلة لتهنئتي وكانت العادة أن نقدِّم للزائر فنجان قهوة لبنانية وقطعة بقلاوة احتفاءً بالمناسبة. كما كانت تتوسَّط الصالون على طاولة صينيّة فضيّة مستديرة، وُضعت في وسطها طرحة مستديرة صنعت باليد بطريقة “الكروشيه” ووُضِع فوقها ما لا يقلّ عن عشرة أنواع من علب السجائر. وكانت العادة الإلحاح على الزائر “بتنفيخ” سيجارة! وكانت بمثابة إهانة لصاحب البيت أن يتفقّد الضّيف الأنواع المعروضة ثم يسحب من جيبه صنفاً لا يوجد بين المجموعة المقدمة!
في صباح أحد الأيام كنّا في الشُقّة التي كنّا نسكنها في بيروت في منطقة الخندق الغميق والتي كانت في الطابق الرابع من بناية “أحمد الجزّيني”. كان باب مدخل الشقة خشبياً مطلياً باللون الرمادي من الخارج وباللون البيج من الداخل. وكان الباب مقسوماً على مصراعين، واحد يُفتح بالمغلاق بينما الثاني مثبّت ولا يُفتح الاّ عند اللّزوم. وكانت كلّ درفة تتوسّطها طاقة مصنوعة من إطار خشبي وزجاج محجّر يحجب الرؤية ومحمي من الخارج بالحديد المشغول المزخرف. وكنّا نفتح احدى الطاقات للتأكّد من هويّة الطارق قبل فتح الباب. وما ان ندخل الشقة كان الصالون على اليمين بشبابيكه الزّجاجيّة المحجّرة والمواجهة للغرب بينما غرفة الطعام على اليسار وذلك دون أي قواطع بينهما. أما غرفتا النوم فكانتا تواجهان الغرب ولهما شرفة مشتركة يمكن الخروج اليها من أيّ غرفة عبر باب خشبي زجاجي مزدوج وكان لكلّ باب من الخارج درفتنان من الأباجور الخشبي القديم. وكانت الشرفة تعلو شرفتي الطابقين الأسفليّن وكان المارة يمشون في الشارع إذا أرادوا تحت الشرفات. أمّا الدرابزين فكان مصنوعاً من الخرسانة الصلبة وله مصطبة عُليى تتسع لوضع فنجان قهوة بينما جنبه فكان من الخرسانة التي تواجدت فيها فتحات مزخرفة وكأنها حُفرت في الصَّخْر. كما كانت قد رُكّبت على المصطبة العُليى زوايا حديدية تجمع بينها حبال رفيعة تستعمل لنشر الغسيل. أمّا من الداخل فكان “كوريدور” يفصل بين غرفتي النوم من ناحية والمطبخ وغرفة الغسيل من الناحية الثانية وينتهي بالحمام الصغير ذي الكرسي العربي والذي كانت مغسلته معلّقة خارجه على حائط الكوريدور كما كانت لها حنفية تُزوّدها بالماء البارد فقط! أما على الجدار المتواجد بين باب المطبخ وباب غرفة الغسيل فكانت طاولة صغيرة مستطيلة حديدية ملصقة بالحائط تستعمل لتناول الفطور.
كان “داني” ابن خالي في ضيافتنا لبضعة أسابيع وكنا ومازلنا نعتبره أخاً رابعاً في عائلتنا وكانت المساحات المتوفّرة لا تتّسع لحركته. كان يركض وهو منتصب القامة الصغيرة ولا ترى من جسمه ما يحرك سوى رجليه. كان يخرج راكضاً الى الشرفة من باب ويعود ليدخل راكضاً من الباب الثاني.
رنّ جرس الباب وإذ بقريبة لنا جاءت لتهنئتي بنيل الشهادة. بعد ان قبّلتني وتمنّت لي كل التّوفيق سحبت من حقيبتها علبة بلاستيكية أسطوانية الجوانب، بيجيّة اللّون وكأن النور بدّل في رونقها مع مرور الزمن. كان الغطاء يُسحب من أعلاه. فتحت العلبة وإذ بداخلها من ناحية شريط كهربائي تمّ لفّه لإدخاله بينما كانت من الناحية الثانية ماكينة حلاقة من نوع “براون” لونها بيجي أيضاً ويبدو انها مستعملة! سحبت السيدة الماكينة من العلبة ونظرت اليّ وقالت مبتسمةً:”هذه ماكينة حلاقة كانت لزوجي وقد تعطّلت. أصلحها وخذها!” وكنت أرى شفرات الآلة وكأنها لم يتم تنظيفها منذ زمن!
تردّدت بإظهار ردة فعلي. كيف لا والسيدة من عائلة كريمة عريقة ومعروفة في البلد والمفروض انها تعرف الأصول! وبينما انا أفكر، وإذ “بداني” يحمل العلبة بسرعة البرق ويركض بها نحو الشرفة ويرمي بها الى الشارع. أسرعت لاتفقّد ما حدث خوفاً من ان تكون الماكينة قد وقعت على راس أحد المارة فقتلته! إنما والحمدلله وقعت على الزفت وتبعثرت قِطعها! شكرت ربي على أني تفاديت شرّين: القبول بالهدية اللعينة وخطر إلحاق الأذى بأحد المارة!
كنت أظن أن تلك الهدية تربح جائزة ” أسوأ هدية تلقّيتها” إلى أن وصلتني منذ بضع سنوات هدية تكاد توازيها! كانت علبة شوكولا من نوع “لندت” الشهيرة والمعروفة عالمياً. تذوقت حبتين أو أكثر ولم يكن الطعم مثلما تعوّدته سابقاً حتى اكتشفت ان الشوكولا كانت قد انتهت صلاحيته منذ ثلاث سنوات!
ذكّرتني الحادثة الأخيرة بأيام كنت فيها طفلاً وكنت أرافق والديّ لمعايدة جدة والدتي “زهرة” في مدينة الدامور. كانت الجدة تصرّ على تقديم شوكولا محشيّة من علبة كانت تخفيها في احد الأدراج. كنّا نقرض قطعة صغيرة من الحبّة قبل أكلها لنتفقّد ما إذا كانت تختبئ بداخلها دودة ما!
وإذ أنهي قصّتي هذه، اطلب من القرّاء الذين لهم حوادث مماثلة ان يُقصّوا علينا روايتهم ضمن خانة التعليقات!

قياسي

هل كان قريبي مثلي الجنس؟

IMG_2022

لي قريب أعرفه منذ نعومة أظافره تلك التي كان وما زال يقضمها دون ان يترك لها المجال أن تنمو. أما والده فقد اجتهد كثيراً دون أن يفلح لإقلاعه عن تلك العادة الغير مستحبّة وكان يسأله بالفرنسية فور عودته من عمله:”أرني أظافرك يا نادي!” . كان له من العمر قرابة الثلاث سنوات عندما مكث بيننا بضعة أسابيع في منزل المزرعة التي كانت عائلتي تمتلكها في بلدة وادي الزينة التي تقع على ساحل قضاء الشوف. كنت أتقدّمه بالسن بنحو عقد ونصف وكنت أراقب الكثير من تصرفاته. كان سريع الحركة، قليل الكلام، يُفكّر قبل ان يتفوَّه، وكانت له نظرات ثاقبة تدلّ على ذكائه وعلى انه يعي كل ما يدور حوله.
مرّت الأيام وكبر نادي وترعرع بعد أن تعلّم في أفضل المدارس رغم سني الحرب اللبنانية. ثمّ سافر الى الولايات المتحدة حيث التحق بإحدى الجامعات المعروفة لإكمال تحصيله الجامعي. وفِي سنة ١٩٩٣ اتصل بي بالهاتف وقال لي انه سيكون في مونتريال في اليوم التالي.لمّا التقيته وجدته شاباً معتدل القامة رياضي المظهر تكاد عضلاته تفيض من قميصه. دعوته للإقامة في منزلي فقبل وأمضى يومين في ضيافتي ثم انتقل للإقامة بضعة أيام لدى شبانٍ كان يعرفهم يسكنون شقة في وسط البلد.
مرّت سنون ولم أسمع عنه الكثير الى أن اتصل بي بالهاتف سنة ٢٠٠٣ وقال:”أنا في رحلة تفسّح وإستجمام. لقد أتيت من نيويورك بالسيارة منذ أيام الى تورنتو وسأصل في الغد الى مونتريال. قلت له: “ممتاز. إذن ستنزل بضيافتنا”. أجاب: “لا أقدر! معي صاحبي وقد حجزت غرفة في أوتيل “الشيراتون” في وسط البلد.” حاولت ان ألحّ الاّ انه أصرّ على قراره.
وإذ كنت في مكتبي عندما كلّمني، استقللت سيارتي عائداً الى البيت وانا لا أفهم رفضه لضيافتي. فتحت الراديو وإذ بالمذيع يُلقي نشرة الأخبار ويقول ان الآلاف من مثليي الجنس يتوجّهون من نيويورك وتورنتو نحو مونتريال للإشتراك بالإحتفاءات الخاصة بهم. وبدأ “الفأر يلعب في عبّي” وبدأت أتساءل:”هل يعقل ان يكون قريبي من تلك الجماعات وقد حضر خصّيصاً مع صاحبه للإشتراك بالإحتفالات؟” لم أسمع عنه يوماً انه كان بصحبة فتاة!
في اليوم التالي أعلمتني السكرتيرة بوصوله. خرجت من مكتبي لأسلم عليه. كان وصاحبه يجلسان على كنبات الإنتظار ذات اللون الأزرق الفاتح. رحّبت به بحفاوة وكان كما عهدته سابقاً مفتول العضلات، رجولي المظهر وقد حلق رأسه الى اقصر حدٍ ممكن. أما “صاحبه” فكان طويل القامة، حسن الملبس، نحيل الجسم، شعره اسود معتدل الطول، عيناه حالمتان وكان منظره يذكّر بالمغني الشهير “مارك انطوني” مع الفارق انه كان يرتدي حلقة ذهبية في أذنه اليمنى. عرّفني به قريبي: “هذا صديقي باسم”.
قررنا الذهاب لشرب البيرة في منزلي الذي كان في منطقة بييرفون. كان نادي يقود سيارة سبور مكشوفة صفراء اللون من نوع BMW Z3
تبعاني بالسيارة وكلما نظرت بالمرآة لأتفقدهما ورائي كنت اشعر ان شكّي اصبح يقيناً. قلت لنفسي:”هذا أمر لا مفر منه! عليّ ان أقبل بالوضع كما هو!”.
عندما وصلنا الى المنزل كانت زوجتي قد وصلت لتوّها ومعها كيس من اللوز الأخضر. لم استطع ان اخبرها على الهاتف بخلفيات الموضوع.
جلسنا على الشرفة التي تواجه البوليفار وبينما كانت زوجتي تحضر المشروب من المطبخ بدأت املأ الفراغ بالتكلّم انه سبق لي وزوجتي ان شاهدنا احتفالات مثلي الجنس في المدينة ومظاهراتهم بينما كان قريبي يحدّق وقد عقد حاجبيه.
خرجت زوجتي على الشرفة مع المشروب واللوز وسألت قريبي: “لم تُعرفني بمن معك؟” أجاب:”هذا باسم أخُ زوجتي!”
عندئذٍ انتفضت وسألته: “أنت متزوج؟ لمَ لم تُخبرني من قبل؟ مذ متى؟” قال:” ان ذلك تم منذ سنة”. قلت لهم: ” يجب ان أخبركم بما حصل لي اليوم”. وبدأت أقص عليهم ما حدث لي وكيف كنت على يقين بأنهما مثلي الجنس.
وقبل ان انهي حكايتي كان باسم قد خلع الحلق الذهبي من أذنه بينما قال قريبي:” منذ أسبوع وانا اطلب منه ان يخلع الحلق وهو مصرّ على لبسه”.

قياسي

ملهى الراقصات

IMG_2012

كنت في السنة الثانية لاستقراري مع عائلتي الصغيرة في مدينة مونتريال عندما قررت مع صديق لي ان نبني منزلين متلاصقين لعائلتينا في منطقة “بييرفون”. وكالمثل القائل “رُبّ أخٍ لم تلده لك أمّك” كانت وما زالت تربطني بصديقي نبيل صداقة تعود الى أيام دراستنا في الكلّية العليا للهندسة في بيروت التابعة للجامعة اليسوعيّة.
بعد إنقلاب “الأحدب” في لبنان بتاريخ ١١ آذار ١٩٧٦ وبعد انقطاعي عن التواصل مع أهلي والذين كانوا يتواجدون في المنطقة الغربيّة، اضطررت للمكوث بضعة أسابيع لدى منزل ابنة عمّي هلا وزوجها شاكر في مدينة “زوق مكايل” الكسروانيّة.هناك التقيت بنبيل مجدداً وكان يسكن في بلدة صربا. كان احد افراد عائلة كريمة مؤلّفة من الوالدين وعشرة أبناء وبنات يعيشون في منزل متواضع في منطقة الكسليك. للدلالة على البيت في بلد لا توجد فيها ارقام للمنازل كان يكفي الإشارة الى انه الباب الذي كان مفتاحه مغروساً في ثقبه على الدوام. فلم يكن على القادم إلا أن يفتح لنفسه الباب ويدخل! جميع الأولاد أفلحوا في دروسهم بفضل تربية الوالد الكسرواني الى جانب الوالدة الماردينيّة الأصل.
التقينا بعد ذلك في الرياض حيث كان لكلٍّ منا عمله، ثم بعد ذلك في فلوريدا حيث قام بزيارتي وحثّني عَلى المجيء الى مونتريال فحططت فيها رحالي بعد أشهر وجعلت منها موطني الجديد!
ولنعد الى موضوع بناء المنزلين وإذ كنّا في لقاء بين عائلتينا في شُقّة كان يسكنها في منطقة “سان لوران” غمز صاحبي بعينه واقترب منّي وهتف بأذني وهو يُخفي جانباً من فمه حتى لا يسمعه أحد: “هيّا معي لنذهب لشرب قنّينة بيرة”. قلت: “الى أين؟”. أجابني: “سأُعلِمُك في الطريق.”
كانت الشمس قد قاربت على المغيب في ذاك اليوم من أوائل شهر أيار (مايو). تذرّعنا لنسائنا بأننا بصدد الاجتماع بنجّار معماري وطلبت من زوجتي أن تصطحب ابنتنا وتعود بالسيارة الى البيت. أما زوجة نبيل فطلبت منه ان يشتري ربطتي خبز في طريق العودة.
استقللت مع نبيل سيّارته التي كانت سوداء اللون من نوع هوندا “آكّورد” وانطلقنا. اخبرني اننا نقصد ملهىً للراقصات في منطقة “بوانت كلير”. في الطريق توقّفنا على شارع “سان جرمان” لنأخذ معنا صديقنا “أبو الزوز” إلاّ انه لم يكن قد عاد بعد من عمله. أكملنا الطريق حتى وصلنا الى المكان المقصود.
دخلنا الى داخل القاعة وسط صوت الموسيقى المرتفع والديكور الأخاذ والألوان الجذابة وأجهزة الإنارة التي منها الخافت ومنها المسلّط. ما ان جلسنا حول طاولة صغيرة مستديرة الشكل قريبة من المسرح حتى جاءت احدى المضيفات وسألتنا عمّا نريد ان نشرب ثم اتجهت نحو البار لتحضر ما طلبناه بسرعة البرق وتستوفي الثمن. أخذت استطلع ما كان حولي فكان عدد لا يستهان به من الرجال قد تسمّروا على طاولاتهم وقد أتوا آحاداً او مجموعات صغيرة مؤلفة من اثنين او اكثر. اما الفتيات فكنّ كلهن جميلات ويرتدين ما كاد لا يخفي من أجسادهن الا القليل. وكانت أجسامهن متناسقة وكأن تضرّسات مفاتنهنّ رُسمت بإبداع مابين محيط الصدر ونحالة الخصر وبروز الأرداف. وإن اختلفت أشكالهن ومقاساتهن إلاّ إنهن كنّ كلّهنّ جميلات كما نرى في حديقة زرعت بأزهار مختلفة بينما كلها جميلة وجذّابة. وكانت بعض الفتيات تتنقل حاملة منصّة معدنية خفيفة لتعتليها عندما ترقص امام احد الزبائن مقابل مبلغ خمسة دولارات للأغنية الواحدة.
صعدت المسرح إحدى الراقصات وهي تتمخطر مع كل خطوة لتؤدّي وصلتها. كانت ترتدي قبّعةً بيضاء فوق شعرٍ أشقر يلوح مع كل حركة ونظارات شمسية كبيرة سوداء تتزيّن بوجهها الناصع البياض والأنف المتناسق والشفاه التي لوَّنها الأحمر الذي اختارته فظهرت وكأنها لوحة دعائية تُعلَّق على الجدران في محلات الماكياج النسائيّة. كان عامود نحاسي يتوسّط المنصّة وكانت الأضواء تسطع نحوه.
أمسكت العامود النحاسي بيدها اليمنى فبانت أناملها الجميلة وأظافرها الطويلة والمصبوغة بنفس الأحمر الذي يُزيّن شفتيها واخذت تتماوج وترقص مع الموسيقى وبدأت تتخلَّى عن ملابسها الحمراء والزرقاء قطعة وراء الأخرى مع كل نغمة كاشفة المزيد من جمال جسدها وبشرتها الناعمة الحريرية إنما متمسكة على الدوام بحذائها النسائي الأحمر ذي الكعب العالي. وفِي آخر المطاف أهدرت الستارة عن كنزيها فبديا وهي منتصبة امام العامود وكأن كل كنزٍ يواجه جمهوره!
بعد ان صفّق لها الحاضرون، طلب مني نبيل ان أتصل بالهاتف “بأبو الزوز” وأطلب منه ملاقاتنا الى الملهى! فهذه المشاهد هي شيء لم نعهده بعد، نحن المشرقيّون!
وفِي زمنٍ لم تكن توجد فيه الخليويّات توجّهت نحو الهاتف العمومي والذي تضع فيه قطهة ٢٥ سنتاً ثم تطلب الرقم. أما “أبو الزوز” فكان جهوري الصوت، رياضيّ المظهر، طويل القامة، له شاربان كثيفان يكادان يغطّيان شفته العليا تحت أنف يدل على شخصيته المميّزة. تخيّلته جالساً باعوجاج على الكنبة البيج العريضة وقد وضعت له زوجته أنواع الطعام التي اعدّتها على طاولة الصالون الخشبية وهو يشتفّ كأساً من الويسكي محاطاً بكلٍ من زوجته، وبناته الثلاث، وأمه وأخته اللتين كانتا قد حضرتا من البلاد لقضاء شهرٍ في ضيافته.
طلبت الرقم وإذ “بأبو الزوز” يرد: “آلو، مين عم يحكي؟”
قلت له: “بشير”. قال: “بشير؟ أش هالضجّة عندك؟” وكان يسمع الموسيقى الصاخبة في الملهى. فسكتُّ.
ثم قال بصوت مرتفع: “بشير، انت مع من؟” أجبته : “انا مع نبيل”. قال: “مع نبيل؟” قلت:”نعم”
ثم سأل:”إنتم وين؟” أجبته:”على بولفار هايموس”. ردّ ورائي بصوت مرتفع:”بولفار هايموس؟”. قلت: نعم
ثم سأل مجدداً: “شو اسم المحل؟” أجبت:”لا سورس دو سكس”. ردد ورائي:”لا سورس دو سكس؟”. “La Source du sexe”
عندئذٍ تمنّيت لو ان الأرض تبتلعني لان “أبو الزوز” فضحنا أمام النساء! ثم قال: “انا اليوم تعبان وليس بمقدوري ان الاقيكم!”
عدت الى مقعدي وقد احمرّت أذناي واصفرّ وجهي ولم أعد استطيع الكلام او مشاهدة ما يجري حولي.
وعندما رجعنا الى منزلينا كانت النساء قد تخابرت فما كان علينا الا ان ندفع غالياً وعلى أسابيع ثمن مغامراتنا المشؤومة!

 

قياسي

علامَ أحبكَ يا وطني؟

IMG_0145

 

مذ فتحتُ عينيّ على الدنيا، يا وطني، ربَيتُ على ان أعشق ترابكَ وأعبُد سماكَ وأرتعِش لذكراك. عند لفظ اسمكَ ترتجفُ شفتاي وتدمعُ عيناي وينقبضُ صدري ويشتعلُ قلبي.
ألّهتُ وجودكَ بين الأوطان على هذه الأرض وآمنت أَنِّي سأمكثُ بين أرجائكَ ماحييتُ وحتى يواريني الثَّرَى بعد ان أكون قد زرعت ذريّتي لتُبقي ذكرى وجودي وذكرى أجدادي.
خفق قلبي لأناشيدكَ وصفّقت يدايَ لجيشكَ المغوار ودبكت رجلايَ مع كلِّ أغنية تُمجدكَ ورقصتُ حتى ساعات الصباح على أنغامٍ تتغنّى بإعماركَ.
منذ صغري حلمت بمستقبلي بين أرجائك وما ان شببت حتى تخيّلت نفسي بأني سأكون بين النخبة التي ستصهَرُ شوائبك لتمكّنك من ان ترمق اكثر بين سواك من البلدان.
إلاّ ان الفاجعة وقعت وغيَّرت مفهومي للأوطان .
الوطن لا يتمثّل فقط بقطعة الأرض التي يغطيها بل بالامن والاستقرار الذي يؤمّنه لأبنائه. الأرضُ خائنة إذ تُعطي خيراتها لكلّ من استولى عليها وتنسى في لحظة من الزمن كلّ من كان قد قدّم حياته من أجلها. الوطن هو الناس الطيّبون الخيّرون الذين من دونهم لا طعم للحياة.
لقد فشلت الأديان المتعددة في تأدية رسالتها وقام بعضها بصبّ الزيت على النار بدل ان يخمدها في جحرها قبل ان تمتد لتحرق الأخضر واليابس.
بلادي غدت ملكاً للصقور التي تتنازع السماء فيما بينها ولاتنزل من عليائها الا لتنقضّ على أجساد الضعفاء الممددة بين القذارات لتنهش من لحمها غذاءً لسلطانها.
فعلامَ أحبّك يا وطني؟

قياسي

دروس في أمور الحياة لن أنساها وبوسطة عين الرمانة

IMG_1992

كلُّ امرئٍ يعبر تجارب خلال فترة نشأته تجعله أكثر تحضّراً وتأهلاً لمواجهة الحياة المستقبليّة التي تنتظره بدروبها الملتوي
عندما وصلت في دراستي التكميلية الى صف “البريفيه”، وكان ذلك في منتصف الستيناتمن القرن الماضي، قام والدي بتسجيلي وأخي صلاح في تكميليّة عين الرُمَّانة الرسميّة والتي كان يديرها الأستاذ مخايل داغر المتحدّر من بلدة مجدلونا في إقليم الخرّوب والذي كان يسعى جاهداً لجعل مستوى مدرسته يوازي ما كانت تتميّز به المدارس الخاصة. وأذكر ممن قاموا بتعليمي الأستاذ “بركات” للّغة الفرنسية، أما بالنسبة للرياضيات والعلوم فقد كان للاستاذ “حنّا يونس” فضل كبيرفي دفعي للتفوّق في هاتين المادّتين رغم انه كان يلدغُ بحرفين او أكثر كلّما تكلّم
ولا يمكنني أن أعود لتلك الحقبة دون أن أتذكّر واقعةً صغيرة علّمتني ألّا أستعجل في الكلام. فبعد ان تصادقت وأحد تلاميذ صفّي وكان يدعى أنطوان، كنت برفقته في الملعب خلال فرصة الساعة العاشرة. وما كنت استطلع ما كان حولي حتى وقعت عيناي على شاب كان يلعب مع رفاقه في احدى زوايا الملعب. كان نحيل الجسم، مقوّص الظهر، شعره الأشقر مكرب المظهر بعد ان معكته الوسادة التي كان قد نام عليها. أمّا عيناه الزرقاوان فكانتا تبدوان أكبر من حجمهما الطبيعي وراء العدستين السميكتين المركبتين على إطارٍ بُنّي. اما بشرة وجهه البيضاء فكادت تختفي بين حبيبات الصِّبا الحمراء وشعيرات الوجه المبعثرة. أما شفتاه المشقّقتان فكانتا تُفرجان عندما يبتسم عن أسنان كبيرة غير متناسقة وفيها بعض من الإصفرار! نظرت الى صديقي بجانبي وقلت له: “ما أبشع هذا الشاب!” أجابني وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تراوحت بين الانزعاج والإستسلام للواقع ثم قال لي:”هذا أخي!”. صُعقت بما قال وما زلت حتى اليوم لا أسامح نفسي عمّا تفوّه به لساني في تلك اللّحظة
وإذ كنّا نسكن وسط مدينة بيروت كان علينا االمجيء من البلد الى المدرسة في الصباح والعودة في آخر النهار. في تلك الأيام كان ترام بيروت الشهير قد أُحيل على التقاعد ليحلّ مكانه أوتوبيس الدولة وكانت كلفة الرحلة ١٥قرشاً إلا أنه لم يكن يصل الى جوار المدرسة. والخيار الثاني كان استعمال سيارات الأجرة (تاكسي مشترك) وكانت كلها سيارات من نوع مرسيدس ١٨٠ والتي كان لها الفضل الأكبر في رفع اسم تلك الشركة في السنين التي تلت من ناحية جودتها ومتانة صناعتها. وكانت كلفة نقل الراكب الواحد ٢٥ قرشاً
اما الخيار الثالث الذي انتقيناه فكان “بوسطة عين الرمانة” وهي لا علاقة لها بالبوسطة التي حملت نفس الإسم خلال الفاجعة التي وقعت في نيسان ١٩٧٥ وكانت الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان. كانت تكلفة الراكب ١٠ قروش وكان موقف الإنطلاق يبعد مئات الأمتار عن البناية التي كنّا نسكنها. والأهم من ذلك ان خطّ مسارها كان يُعرّج من امام المدرسة التي كنّا نؤمُّها
كما اسلفت في مقال سابق كنّا نسكن في شارع المستشفى الفرنسي الذي تمّ بتره بعد ثورة ١٩٥٨ بإنشاء جادة فؤاد شهاب والتي سُمِّيت فيما بعد “بالرنغ”. علماً ان أخي صلاح يصغرني بثلاث سنوات وعدة أشهر  كنّا نترافق يومياً الى ومن المدرسة. كان والدي يعطيني خمس ليرات كل أسبوع لتغطية كلفة تنقّلنا وبعض مما كنّا نستحلي شراءه من وقت لآخر ككوب ليموناضة او قرن بوظة لكلٍّ منا من عند الدكّنجي القريب من المدرسة والذي كان زحلاوي الأصل
في مدخل البناية التي كنّا نسكنها كان سمكري اسمه محمّد لطيفاً جداً ويرتدي كل يوم لباس عمل لونه كحلي. كان يحتلّ نصف المدخل وكان يُصنِّع من ألواح التنك أشياء مختلفة بمهارة عالية وكانت تتنوّع من أباريق لسقي الزرع، الى إناءات تستعمل لنقع الغسيل أوغسله الى ما هنالك من أشياء يحتاجها كل منزل. وكان يعرض منتجاته على الطريق عن يمين ويسار المدخل
ما كنا نخرج من البناية حتى كنّا نتوجه نحو جادة فؤاد شهاب عبر ٧ او ٨ درجات تأخذ عرض شارعنا. من هناك كنّا نمشي بموازاة الجادة مسافة حوالي مئتي متر لنصل الى موقف البوسطة والذي كان يقع بالقرب من سينما “الغومون بالاس”
أما البوسطة فكانت من نوع “دودج” وكانت تتّسع لنحو ١٦ راكباً. كان لونها أحمر تتخلله طبقات أفقيّة بيضاء. أما المقاعد فكانت مغلّفة بالبلاستيك الأحمر والأبيض. أما باب الصعود والنزول فكان في الامام عن يمين السائق ويظل مفتوحاً في اغلب الأحيان. كانت البوسطة تنتظر زهاء الربع ساعة لتنطلق بمن فيها وتفسح المجال لبوسطة أخرى تأتي مكانها. وكانت تنطلق صعوداً في شارع بشارة الخوري ثم تنعطف يساراً لتأخذ خط الشام الذي يصبح خط فرن الشبّاك حتى تفرق على اليمين لتدخل عين الرمانة لتسلك مساراً لولبياً مروراً من امام الصنوبرة الشهيرة
في الطريق كان السائق ينحرف بالباص نحو اليمين ليتوقف ويصعد كل من يشير له او لينزل أي راكب أينما أراد. لم تكن توجد مواقف ثابتة للباصات وكان الركاب يستغلّون هذه الحرية لإيقاف البوسطة حيثما يشاؤون
وكان مشهد حركة ذراعي السائق من المناظر التي لا تُفوّت. فبين الإمساك بالمقود وإدارته المستمرة من اليمين إلى اليسار وتغيير السرعة المتتابع بواسطة عصا إختيار السرعة الحديدي والذي كان ملتوي الرأس عند قبضة اليد الكرويّة، الى استحصال التعرفة من كل من ينزل، كان منظره وكأنه بهلواني في خضمّ عرضه على المسرح
في اليوم الأول لصعودي في البوسطة فوجئت بوجود احد رفاقي الذي كان في صف الدراسة معي مذ كنت اتعلَّم في “الليسيه الفرنسي”. كان ذلك قبل اربع سنوات خلت. كان اسمه “إدوار” وكان يمتّ بقرابة للأستاذ الذي كان يعلمنا الدروس باللغة الفرنسية والذي لم أكن المّ له التقدير الذي أكنه لغيره من الأساتذة
جلست بجانب إدوار وأخذنا نتحدّث. علمت انه كان يتعلم في مدرسة “السانت فاميّ” في عين الرمانة والتي كانت قريبة من مدرستي. وإذ كانت مواعيد الدراسة متطابقة في الصباح لمدرستينا قلت له بسرور: حسناً سنترافق كل يوم
وإذ هممت بالنزول مع أخي من البوسطة أمام مدخل مدرستنا قمت بدفع تعرفة إدوار أيضاً فأومأت له بأن الحساب “واصل” فأجابني متشكراً بحركة من يده اليمنى. وكانت العادة ان الكثيرين من الركاب يتداورون بين بعضهم في تسديد قيمة التعرفة. وكان بإمكان صاحبي النزول معي إلا أنه كان يفضّل المكوث في مقعده المسافة المتبقّية لمحطّته وكانت لا تزيد عن ثلاثين متراً إضافيّة! وهذا كان مثالاً للتنبلة اللبنانية
في اليوم التالي التقيت رفيقي في الباص وكان لحظة الوصول يمكث دون حراك في مكانه بينما كنت أسدد التعرفة عند نزولي! وهذا ما حدث خلال ما تلا من أيام
بدأت أتساءل: عشرة قروش ليست بالكثير! ويبدو انه من عائلة كريمة ويتلقى تعليمه في مدارس خاصة! هل يعقل ان ليس بإمكانه ان يوفّر ما دفعته عنه بالأمس ليسدّد عني في اليوم التالي
قلت سأدفع المزيد من جيبي لأتعلم شيئاً في هذه الحياة وأرى اليوم الذي يقوم فيه صاحبي بتسديد الأجرة. إلا ان ذاك اليوم لم يأتِ! بعد أشهر من الإستمرار في تسديد تعرفته، وإذ كنت جالساً بجانبه، تطلع نحوي وقال:” إسمع يا بشير. من اليوم وصاعداً، حتى لا نتخانق، كل واحد يدفع عن نفسه!”
وإذ أروي هذه الواقعة وانا لا أدري ان كان درسي قد أفادني فعلاً في مجرى حياتي، أذكر ما كان قد قصّه لي والدي، رحمه الله، عن واقعةٍ حدثت خلال بناء خط السكة الحديدي على الشاطئ اللبناني. كان مراقبان، واحد إنكليزي وآخر لبناني يترافقان لتفقّد العمل الجاري على الخط. كان الإنكليزي يرتدي لباساً أوروبياً بينما كان اللبناني يرتدي شروالاً تقليدياً أسود تزنِّره شملة حريرية سوداء كانت العادة ان يخفي فيها نقوده
كان المراقبان يستقلاّن مركبة يجرها الخيل. وما ان يصلا الى آخر المسافة حتى يأتي وقت تأدية الحساب، كان اللبناني يبدأ بفك شملته الطويلة ليصل الى النقود. الا ان الإنكليزي لم تكن تستغرق منه لحظة حتى يكون قد سحب الفلوس من جيبه وسدّد الحساب
استمر الوضع على هذه الحال حتى سئم الإنكليزي من الوضع فراح وأوصى لنفسه شملة تفوق بطولها تلك التي يتزنّر بها اللبناني. وعند الوصول أخذ كلٌ من المراقبين يفكُّ شملته وهكذا تمكّن الإنكليزي من ان يأخذ بثأره بعد ان قام اللبناني بدفع الأجرة اخيراً

قياسي

How a man is bound to lose to his wife!

IMG_5120

A friend of mine, Joe, narrated to me his married life experience wondering if all men do live the same reality in marriage and eventually derive the conclusion that:” A man, any man in marital life, is ultimately bound to lose to his wife!” He said and I quote:

 

In the first years of my marriage it was normal that I was learning to cope with the new situation. I had to discover on my own the complexity of deciding to share my life with an unknown person (actually falling in love with another person and sharing moments or days together for a certain period of time is not like living together!)

I am not going to discuss all kinds of obstacles that any individual would encounter in his new life but I am going to concentrate on some of the bedroom issues like which side of the bed should I take, at which time should I go to bed, at which time should I get up, should I expect to go to bed at the same time of my wife and should I expect her to snooze for an hour or two after I wake up…

In theory, everything looks simple. But in reality things are more complicated! It is not like a piece of furniture that you buy from IKEA and that comes with instructions! Here, there are no instructions and there is no sequence to follow!

After resolving the issue of which side of the bed is mine, each person could go to bed whenever he feels like, wake up independently etc…there was a tiny problem that took me a while to solve:

Against all the recommendations of the specialists, I like before falling asleep to take a little time in bed to watch TV, or listen to some music (I wouldn’t mind to put the radio on the “sleep “ mode so it shuts off in 30min or so) or read a book or… That helps me rewind in order to forget about the stress of the day and get ready to close my eyes.

On the opposite when my new bride (at the time) slips into bed it is to go to sleep right away. She shuts the light off and she pulls up the blanket to cover her head completely! I was getting worried that she gets herself suffocated. But 🙂 she is able to survive the lack of oxygen!

As for me I cannot rest unless my head is completely uncovered! So desperately needing my 30 minutes or so, I tried all the following, one at a time:

o TV
I put the TV on. She complained that she cannot sleep. I lowered the volume. Still too much sound. I chose a subtitled program and put the noise off. Still she was deranged by the fluctuation of the light of the screen that was getting reflected on the walls then reaching under the bed cover!

o Radio
As you may have guessed, it was not an option to put the radio on! So l thought about a bright idea that would solve my problem: use an earphone to listen to the radio. So I inserted the earpiece into my ear with a smile on my face thinking “Eureka “. It didn’t take long seconds before she complained that she was irritated by the little noise coming out of my ear!

o Reading a book
As it was my last recourse, I bought an interesting book put it by my bed and was ready to enjoy my first night! It didn’t take long before she protested that she was not able to sleep because of the light of the side lamp!

o The “Itty Bitty Light”
After getting desperate about my situation (and Google didn’t exist yet to help me out) I discovered the “Itty Bitty Light”. It is a smartly designed light with no glare that clips into the book and enlightens the spot you are reading without disturbing your bedmate! Thinking that finally I found the solution I started reading the first page. It didn’t take long before she was awakened by the sound of turning the page!

 

قياسي

بيتزا “سوربرايز” في بغداد

 

في سنة ١٩٧٧ ، وخلال السنة الأولى لتواجدي في العراق بداعي العمل، كنت كلّما زرت بغداد أستعلم من أصدقائي الذين كانوا يعملون معي في نفس الشركة حول تجاربهم من ريادة مطاعم المدينة. وكانت تلك العاصمة تتميّز عن الكثير من مثيلاتها في الوطن العربي بتوفّر عدد لا يُستهان به من الأماكن التي لا يخشى المرء الأكل فيها من ناحية النظافة أوالخدمة. وكان التنوّع يبدأ من مطاعم الوجبات السريعة كال”كص” وهو ما يوازي الشاورما عندنا وغيره، وانتهاءً بالسمك “المسكوف” الذي كنّا نجده في شارع أبو النوّاس مروراً بالمطاعم العاديّة المُوَزّعة في أنحاء مختلفة من المدينة وأجملها ما كان منها في وسط حديقة على ضِفاف نهر دِجلة، واذكر منها “قصر الشوق” الذي كان يقع في منطقة “عرصات الهنديّة”. كان هذا المطعم يتميّز “بشيش قصر الشوق” الذي كانت تُستحضر فيه قطع اللحم المشوي مغروسةً بسيف مستقيم يُحمل بشكل عمودي بينما لهيب النار يُكمل الطهي مرتفعاً فوق قبضة اليد

اما في ذلك العهد المتمثّل بالنظام الاشتراكي لم تكن كل البضائع متوفرة في الكثير من الأوقات! حتى المشروبات الكحولية المصنعة وطنيّاً كالعرق المستخلص من البلح وبيرة “فريدة” الفريدة في مذاقها كان عليها الكثير من التقنين. أما كلّ ما كان يُستورد فكان المستهلك يجده حيناً ويفتقده أحياناً. وكان سيّد مراكز التحوّج للبضائع المستوردة ما كان يعرف “بالأورزدي” وذلك تيمّناً بالمؤسس “أوروزدي باك” والذي كانت له محلات في عدة مدن منها في وسط بيروت وذلك على شارع الجمارك. وكانت ما ان تصل بضاعة ما مستوردة ومرغوبة حتى تجد الراغبين بالشراء يصطفّون في طابور طويل بانتظار دورهم. وكان بعض المارة يلزمون الصف قبل ان يعرفوا ما هم بصدد شرائه خوفاً من ان يضيّعوا أفضليتهم! وكانت “الأستكنات” وهي كاسات الشاي الزجاجية المزخرفة من أكثر ما كان يثير رغبة المتحوّجين

وعودة الى المطاعم تبيّن لنا ان مطعماً جديداً كان قد تمّ افتتاحه منذ أشهر تحت اسم “الينابيع”. لا أذكر موقعه بالظبط الاّ أن ميزته الأساسية كانت عمل “البيتزا” بالإضافة الى استحضار بعض الأطباق الإيطالية. والبيتزا لم تكن قد انتشرت بعد في بغداد على الرغم من تعدد الأفران التي كانت منكبّة على انتاج خبز “الصَمّون” الذي كان مرغوباً لدى العائلات. كان هذا الخبز شبيهاً بالخبز الإفرنجي إنما إنتفاخه أقل بينما شكله “لوزنجي” أشبه بشكل السنيورة الصيداوية إنما طبعا بحجم اكبر

وصلت الى المطعم برفقة زميلين لي. كانت الواجهة الخارجيّة مغلّفة بحجر صخري متموّج الألوان وغير منتظم المقاسات إنما تمّ بناؤه بإتقان. اما الشبابيك وباب المدخل فكانت خشبية من نوع “الماهوجوني” البنّي المائل للقليل من الإحمرار وكان الزجاج مقطّعاً بمربّعات خشبيّة ناعمة على الطراز الإفرنجي بينما تمّ زرع بعض الزهور الملوّنة في احواض تحت عتبات الشبابيك

ما ان دخلنا حتى أحسسنا وكأننا انتقلنا الى حي “تراستيفيري” في روما حيث ان الديكور الداخلي تم تصميمه بعناء وذوق. من سيراميك الأرض، الى تلييس الجدران والقناطر على طراز بداية القرن العشرين، الى الديكورات الخشبية في الجدران والسقف، الى الإنارة المنسّقة، الى اللوحات المعروضة على الجدران، الى الطاولات الخشبية والتي وضعت عليها شراشف من قماش يحمل مربعات خضراء وبيضاء، الى الكراسي الخشبية ذات القوائم المربّعة وعارضات الظهر المسطّحة والملوية لاحتواء الظهر، الى طرّاحات الجلوس المنسّقة مع الشراشف وفُوَط السفرة، الى المزهريات التي كانت مزيّنة ببعضٍ من زهور القرنفل، الى الفرن الذي كان يتصدّر بواجهته الحجرية زاوية قريبة من المطبخ والذي كان يستعمل لخبز البيتزا والخبز اللبناني الصغير… كل ذلك جعلنا نشعر وكأن بساط الريح حملنا الى مدينة اوروبّية

علمنا ان الذي قام بافتتاح المطعم إنما هو مهندس معماري لبناني ترك بلاده بسبب الأحداث وقرر الانتقال الى بغداد للابتعاد عن الأجواء المشحونة

ما ان أجلسنا النادل (الشخص المسؤول عن خدمة الزبا ئن) على احدى الطاولات حتى أودع كلاً منا لائحة الأطعمة التي تقدم في المطعم وكانت مطبوعة بشكل مرتّب ضمن دفّتين سميكتين مغلفتين بالجلد الناعم الأسود. بينما اخذنا نتأمّل أنواع البيتزا التي اتينا من اجلها، اختفى خادمنا ليعود ويقدم لنا ثلاثة أرغفة ساخنة طازجة ومنفوحة كالبالونات مع صحن صغير من الزيتون

كلّما اخترت صنفاً من أصناف البيتزا، كان يجيبني النادل انه ليس بمقدورهم تقديمه في الوقت الحاضر نظراً لعدم توفّر المواد في الأسواق كجبنة الموتزاريلا، او الجونبون، او البيبيروني، او السوسيس الإيطالية، او البارموزانو الى ما هنالك… الى ان وصلت الى نوع اسمه: بيتزا سوربرايز “Surprise” أي “المفاجأة”

سألت النادل: ماذا تحوي هذه البيتزا؟
أجابني: لا يمكنني الإفصاح عن المحتويات لانها يجب ان تكون “سوربرايز” أي مفاجأة

طلبت لنفسبي هذه البيتزا بينما عدل رفيقاي وطلبا طعاماً مختلفاً

عندما وصل صحني فوجئت ان البيتزا لم تكن مفتوحة بل كانت مطوية على شكل فطيرة او شكل “كالزون” إيطالي. سألت من كان يخدمنا: لماذا هذا الشكل؟ أجاب : هذه بيتزا سوربرايز وعليك ان تفتحها بنفسك لتكتشف ما في داخلها

وما ان أخذت شوكتي وسكينتي وقطعت وسطها حتى كانت المفاجأة! الذي كان في داخلها ما كان إلا بيضة على طريقة برشت! قلت في نفسي: جئت لآكل بيتزا وانتهيت بأكل خبز وبيض

بعد الانتهاء من الاكل طلبت فنجان قهوة وقطعة كيك إيطالية. اقتطعت بالشوكة قطعة صغيرة وأكلتها ثم أدرت الصحن لأفاجأ بوجود ذبابة مغروسة بالكريمة. صرخت مجدداً لمن كان يخدمنا فحضر على الفور الى جانبي. ما ان أريته الذبابة حتى أخذ شوكة واقتطع حواليها ثم قال: يمكنك اكل ما تبقى من القطعة

كانت هذه اول وآخر مرة أقصد فيها ذاك المطعم

قياسي

وقعة غير منتظرة مع المطاوعة

IMG_1955

وإن أخذ المرءُ كلّ حيطة لتجنّب ارتكاب أي مشاب في تصرفاته إلاّ ان تجده يقع أحياناً فريسةً سهلة لمن كان يرصد غيره! فعلى سبيل المثال نجد ان الكثير ممن يتلقّون مخالفة سرعة إنما هم أناسٌ منضبطون يحترمون قانون السير ولا يخالفونه عمداً.

كنت اصطحب زوجتي خلال الأشهر الاولى لزواجنا للتسوّق وتكملة حاجات المطبخ من أوانٍ وادوات خاصة بالطهي. وكانت طنجرة الضغط من العناصر المهمة التي يحتاجها كل منزل. وبعد ان جُبنا مدينة الرياض من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب بحثاً عن إناءٍ من ذاك النوع وبالحجم الذي يرضي رغبة زوجتي توصَّلْنا الى إيجاد طنجرة لها سعة ١٢ ليتراً قمنا بشرائها بعد ان قبلت بها على مضض لانها كانت تُفتّش عن حجمٍ أكبر.

أما في الشقة التي كنّا نسكنها فكان التصميم الإيطالي المودرن يغلب على مطبخها الصغير المنمّق. كانت الخزائن مبنيّة من ألواح ملساء لونها أخضر فاتح بينما مساحات العمل الأفقيّة كانت من لون بُنّي فيه تعريقات خشبية. أمّا الجدران فكانت مغطاة بالسيراميك الأخضر يحمل بعضٌ من قطعه رسومات تزيينيّة. وعند وضع الطنجرة فوق الموقد، كان غطاؤها يكاد يطال مروحة الشفط المركّزة فوقه، إضافة إلى أن ضغط البخار لم يكن كافياً لإشغال الصفّارة نظراً لصغر حجم الطبخة المُعدّة لشخصين. أما جرن المجلى فكان بالكاد يتّسع لاستيعابها لتنظيفها.

قصدنا سوبر ماركت الخزامى القريب لشراء طنجرة ضغط بحجمٍ أصغر من التي كنّا قد استحصلنا عليها سابقاً. كانت زوجتي ترتدي عباءةً حريرية سوداء فوق هدومها وذلك للتحشّم كما جرت العادة في تلك البلاد وتلك الأيام.

داخل السوبر ماركت أخذ كلٌّ منّا جناحاً للتفتيش عن الطنجرة. وما هي الاّ دقائق حتى عادت زوجتي لملاقاتي وهي تحمل بيديها إناءً من النوع الذي كنّا نبحث عنه. ما ان اقتربت مني وبادرت بالتكلم معي حتى ربّت أحدهم على كتفي. التفتّ الى الوراء وإذ بي أرى رَجُلين طويلي القامة يرتدي كلٌّ منهما على رأسه كفيّةً من اللون الأحمر الوطني إنَّما بدون عقال. كانت ذقن كلّ واحد منهما قد ربت بدون عناية ولا تنسيق. وكان احدهما يرتدي دشداشة بيضاء بينما كان لون دشداشة الثاني صحراوياً. وكان كل منهما يحمل بيده اليمنى خيزرانة رفيعة تكاد تصل الى كتفه.

سألني الرجل الذي كان الأقرب لي: “هل هذه الحرمة حقّك؟”. أجبته:”نعم”. قال آمراً: “أعطني إقامتك”. سألته: ” لماذا؟” وأنا أنظر الى زوجتي ولا أرى شائباً في منظرها. أجاب متوعّداً وهو يهزّ بخيزرانته: “لا تفتح تمّك بولا كلمة وإلا تسمع شيء ما يرضيك وتشوف شيء ما يعجبك!” أعطيته بطاقة إقامتي ومن ثم أودعني ورقة معدّة مسبقاً عليها عنوان قائلاً: ” إذهب بعد يومين بعد صلاة المغرب الى جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك يمكنك إعادة استلامها.”

سألت فيما بعد عن هذا التصرّف فأجابني أحدهم ان السبب يعود الى ان العباءة لم تحسن زوجتي العناية بها بكيّها بانتظام لذا انكمش قماشها وارتفع أسفلها الى ما فوق الكاحلين.

قصدت المركز في الموعد المحدد وكان يتواجد خلف احد الجوامع. بعد أن خلعت حذائي الى جانب الأحذية المصفوفة في المدخل، سحبت محبس زواجي الذهبي وساعة معصمي التي كان عليها بعض من الطلاء الأصفر وأخفيتهما في جيبي على أساس انه لا يجوز للرجل ان يتزيّن بهكذا معدن. دخلت رواقاً طويلاً أدّى الى غرفة بابها مفتوح كان يجلس فيها وراء مكتب خشبي أحد المسؤولين في المركز بينما كان يجلس في مواجهته على المقاعد الجلدية أحد الموقوفين مثلي الذي عرفت عنه لاحقاً انه لبناني.

كان الجالس وراء المكتب من ناحية اللباس والذقن يشابه كثيراً غيره في الجمعية بالإضافة الى انه كان يرتدي نظارات بنّية الإطار. ما ان عرّفت بنفسي حتى سحب دفتر إقامتي من درجه. كان بإمكانه التمييز من لون دفتر الإقامة، بين اللون البني وبين اللون الأبيض، بين المسلم وغير المسلم.

أخذ يُسائلني ويُوَبّخني في آنٍ معاً وكأن زوجتي تقترف الآثام وانا أُغفِل نظري. قال لي: هذه المرأة “حلالك” يجب ان تحافظ عليها. يجب ان لا تتركها تظهر بهذا المظهر! ثم استطرد سائلاً:”ليش ما تصير مسلم؟” أجبته: “ان شالله بنصير”.

ثم خطّ لي على ورقة تعهّداً طلب مني توقيعه:” نعم انا (….) ضُبطتُ وزوجتي متبرّجة وأتعهد بالمحافظة عليها وبردعها عن التبرّج (…) وذلك تحت طائلة التسفير من البلاد (…)

بعد ان وقّعت على التعهّد أعطاني كتاباً عن “التبرّج” وآخر عن “التدخين”. ثم طلب منّي الجلوس على الكنبة بجانب الشخص الذي كان جالساً في الغرفة قبلي لدى دخولي. فهمت ان حالته اصعب بكثير من حالتي. كان مسلماً اسمه “علي” وقد ضُبط برفقة زوجته التي لم تكن تلبس عباءة في متجرٍ يبيع الثياب النسائية وهو يعمل فيه.

وحيث ان البتّ بأمر “علي” كان يتجاوز صلاحياته فتح لنا باباً وطلب منا الدخول الى مجلس خاص بالجمعية. أجلسنا كلّاً على كرسي بالقرب من الباب الذي أغلقه في مواجهة رئيس المجلس الذي كان يجلس وراء مكتب خشبي كبير بينما بقية الأعضاء وكان عددهم يتجاوز العشرة يجلسون من اليمين واليسار على كنبات بنّية جلديّة. كان بعضهم يعبث بيده بأصابع الرجل التي رفعها الى جانبه وكأنه يمشّط خِصل شعر. أما رئيس المجلس فبدا أنه كان فاقد الرؤية في إحدى عينيه.

تطلُّع نحو “علي” وخاطبه: زوجتك تبيع في المحل؟
أجابه علي: لا، إنما جاءت لزيارتي في موقع عملي.
سأله: كيف تيجي بدون عباية؟
أجابه: جاءت لعندي لأشتري لها عباية.
سأله: وكيف وصلت لعندك؟ (على أساس أن المرأة لا يجوز أن تأتي لوحدها)
أجابه: أوصلها أخوها.
سأله: عندكم في المحل صور موديلات.
أجابه: مُذ قلتم أن ذاك ممنوع نزعناها.
سأله: عندكم موسيقى في المحل.
أجابه: لا، أوقفنا الموسيقى مُذ علمنا بأنها ممنوعة.
سأله: عندكم مرايا.
أجابه: مذ علمنا بأن ذلك مرفوض خلعناها.
سأله: عندكم غرفة لقياس الملابس!
أجابه: لا، هذا حمام.
سأله: وكيف فيه مراية؟
أجابه: قلتم لنا المراية ممنوعة في المحل فأخفيناها في الحمّام.
عندئذٍ انتفض رئيس المجلس وسأل “علي”: فين عقد النكاح حقك؟
قام “علي” وَسَلَّمه صورة عن عقد زواجه. ما ان تفقّد نصّها حتى بدأ يسأل “علي” مجدداً ليتأكّد من أنه لم يحضر عقداً ملفّقاً: ما اسم زوجتك؟ ما اسم عائلتها؟
عندما أعطاه اسم عائلتها انتفض الشيخ مجدداً وفتح أحد أدراج مكتبه وأخذ يبحث داخله الى ان سحب بطاقة إقامة وبادر بالسؤال: هل تعرف فلان من نفس العائلة؟
أجابه: هذا أخو زوجتي.
قال: هذا ضبطناه من ثلاثة شهور بمخالفة ولم يأتِ بعد الى المركز. هل هذا هو الأخ الذي أوصلها إليك!
قال: لا، هذا الأخ الثاني وهو خارج البلاد من ثلاثة شهور.

عندئذٍ طلب رئيس المجلس من “علي” التوقيع على تعهد بإحضار الأخ المسافر الى المركز فور عودته الى البلاد وذلك تحت طائلة المسؤولية.

وهنا انتهت تجربتي وعدت الي بيتي راجياً ان لا تتكرّر…

 

قياسي

ذكرى صلاة لا أنساها

IMG_7289.JPG

ذات يوم أحدٍ من شهر آذار منذ حوالي ثلاث سنوات، قصدتُ كنيسة دير مار مطانيوس الكبير في “أوترمون” في مدينة مونتريال وذلك للمشاركة بجنّاز الأربعين لوفاة والدة أحد أصدقائي. بعد ان أوقفت سيارتي بجانب رصيف أحد الشوارع المحيطة بالدير، أخذت أمشي نحو الكنيسة. زرقة السماء كانت صافية بينما أَشِعَّة الشمس الذهبية كانت تجد لنفسها أروقةً تسمح لها بالتسرب عبر الأبنية لتطال بعضاً من أغصان الشجر المتعرّي ومساحات من الطرقات والأزقًّة والأرصفة. رغم ذلك كان بردٌ قارسٌ لم يمنعه معطفي الأسود من اختراقه للوصول الى صلب جسمي.

بعد ان صعدت الدرج الرئيسي فتحت الباب الخشبي الخارجي ومن ثمّ عبرت الرواق للوصول الى الباب الداخلي. دخلت قاعة الكنيسة التي كانت في ماضٍ خلا كنيساً لليهود وقد تم ترميمه في بداية الثمانينات بعد ان انتزعت كل النجوم المسدّسة الزوايا. بهو الكنيسة ينقسم الى أربعة أقسام: الوسط وهو يأخذ القسم الأكبر من المساحة وهو مزنّر بجناحين واحد من اليمين والآخر من اليسار يعتلي كلٌّ منهما المنطقة الوسطى بنحو ثلاث درجات. أما القسم الرابع في صدر القاعة فما هو إلا المذبح المرمري الجميل الذي يزيده رونقاً الحائط المزيّن برسومات فسيفسائيّة والمتواجد خلفه.

بينما كانت الجموع تتوافد لحضور القداس، دخلت من الممر الأيمن للصالة وجلست على طرف أحد المقاعد الطويلة المصنوعة من خشب السنديان الصلب والمطلية بفارنيش خاص لوقايتها. ورحت أفكّر بزوجتي الموجودة خارج البلاد في زيارة لابنتنا في دبي وإذ بعائلة من ثلاثة أشخاص طلب مني احد أفرادها الغوص داخل المقعد لإفساح مجال لهم بالجلوس.

أزحت نفسي نحو اليسار حتى وصلت الى جوار سيدة في العقد الثامن من العمر كانت قد دخلت من الممر الأوسط وكان يجلس عن يسارها رجل يأخذ المكان الأقرب من الممر الأوسطي. كانت المسافة التي تفصلني عنها بمثابة ما كان يأخذه معطفها الذي طوته على المقعد عن يمينها والحقيبة الجلدية السوداء التي وضعتها فوقه. كانت ترتدي على رأسها منديلاً ابيض عليه رسومات سوداء يغطي معظم شعر رأسها وقد تمكنت بصعوبة من ربطه بعقدتين تحت ذقنها. أعادني منظهرها الى ايام طفولتي حيث كانت النساء يرتدين مناديل على رؤوسهن عندما يدخلن الكنائس! كان لها بعض البدانة في جسمها وكانت ترتدي فستاناً قماشه معرّق بألوان مائلة للأزرق وسترة كحليّة. اما أنفها فكان بحجمه يعطيها نوعاً من الوقار وبالأخص بالتالولة البارزة على جانبه الأيمن. أما عيناها فكانتا كبيرتين يكلّلهما حاجبان لم يعبث بهما ملقط شعر منذ زمنٍ بعيد!

وما مرّ وقت قصير لجلوسي حتى عطست السيدة عطسة دوت الصالة بصوتها وكانت قد تلقتها بسرعة البرق بكفّيها كليهما. بعد دقائق تلت العطسة الأولى عطسة ثانية ثم ثالثة الى ما هنالك. وكانت مواظبة على تلقف العطسات بكفيها كاملة ما خلا القليل من الرذاذ الذي كان يفلت من بين أصابعها!

لم يكن بإمكاني الهروب من موقعي لا من ناحية اليمين ولا من ناحية اليسار. جعلت انتظر الفرج او نهاية القداس وكان عمودي الفقري يزداد تقويساً نحو اليمين مع كل عطسة!

وما زاد “الطين بلّة” أن كان وصول “البركة”. وللذين لا يعرفون بالتفصيل كيفيّة إيصال البركة لدى الموارنة الى جميع المصلّين سأحاول ان اشرحها باختصار. يُعطي الكاهن البركة الى عدد من الأطفال الذين يلبسون اثواباً بيضاء. يتوزع الأطفال الصالة أقساماً بحيث يذهب كلٌّ منهم لإعطاء البركة للجالس على طرف كل صف وذلك بلمس يده. عندئذٍ على كل من تصله البركة ان يوصلها الى الجالس بجنبه. وطريقة الإيصال تتم بأن المستلم يضم كفيه ليتمكن العاطي من ان يطبق بكفيه فوق يديه، ثم المستلم يفتح يديه ليعطي بدوره البركة لجاره بنفس الطريقة…

ذعرت لمّا جاء دوري. لا مجال للفرار. أطبقتُ كفيّ وادرت يديّ نحوها وأغمضت عينيّ. المسألة لا تستغرق أكثر من جزء من الثانية! …بعد اكثر من ثانية كنت مازلت أشعر بيديّ عالقتين بين كفّيها كما كنت أشعر بنوع من الرطوبة اللاصقة تغطي ما لمست من بشرتي. فتحت عينيّ لأجدها تبتسم لي وهي تميل رأسها من اليمين الى اليسار!

انتظرت بفارغ الصبر وقت المناولة لأتمكن من مبارحة مكاني. كنت اشعر طوال ذلك الوقت بأن الجراثيم تجهد لاختراق جلدي. ذهبت بأسرع ما يمكن الى الحمام لأغسل يديّ مراراً عديدة. وبعد ان انتهيت لم أعد الى مكاني!

 

 

 

قياسي

كيف دخلت السجن بسبب مخالفة سير

img_1945

تعودت منذ حداثة سني ان احترم قوانين اي بلد أزوره قدر ما كنت على علم بتلك القوانين.

كنت قد امضيت زهاء سنتين في مدينة الرياض عندما حدثت لي تلك الواقعة. مُذ عقد قراني قبل أشهر كنت اسكن مع زوجتي شقةً في منطقة العليّا تقع في الطابق السابع من مبنى ابيض كان يُعرف ببناية البنك الأمريكي نظراً لتواجد الفرع الرئيسي في طابقه الأرضي. وكانت واجهات العمارة تتميّز بشبابيكها ونتوءاتها المعمارية لتذكر الرائي بكرتونة البيض. ولم يكن من الصعب الدلالة عليها.

في ذلك الزمن كانت المدينة في خِضمِّ نشأتها وكانت الشوارع الجديدة تُعبّد بسرعة لا تسمح بالبحث عن اسماء لها. فكانت تسمّى مثلاً “بشارع الستّين” او “شارع الأربعين” او “الثلاثين” وذلك تكنّياً بالأمتار التي كان عرض الشارع يأخذها !

ذات يومٍ وفِي حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، كنت في طريقي الى مسكني حيث كانت زوجتي تعد الدقائق في انتظاري لتناول وجبة الغذاء. كنت أخالها وقد أعدّت المائدة على طاولة السفرة المستديرة بينما الوجبة الرئيسيّة ما زالت في الطنجرة تُطهى على نار هادئة.

وإذ كنت في الميل الأخير لرحلتي كان عليَّ ان انعطف من شارع الثلاثين نحو اليسار على إشارة ضوئية ثلاثية الإتجاهات. إلا انه لدى وصولي للتقاطع، فوجئت، كما فوجئ غيري، بشرطي يشير لنا باتِّباع الطريق ويمنعنا من الإتجاه نحو اليسار. اكملت الطريق باتجاه منطقة السليمانية الى ان وصلت بعد نحو كلم الى إشارة ضوئية ثلاثية الإتجاهات أيضاً إنما بشكل معاكس للأولى. وكانت السيارات التي لم تفلح مثلي في أخذ المفرق السابق تنتظر دورها للإنعطاف نحو اليسار والعودة بالإتجاه المعاكس. وكانت السيارات تأخذ منحاها بالإلتفاف بأرتال مكونة من نحو من عشر سيارات او أكثر كلما أستضاءت الإشارة بالنور الأخضر.

ما ان جاء دوري وانعطفت بالسيارة وإذ بي أفاجأ بحاجز شرطة مؤلف من شرطييْن اثنين يشيران الى السيارات بالإتجاه نحو فسحة ترابية كبيرة غير منتظمة على يمين الطريق بينما كان أفراد آخرون من الشرطة يطلبون من السائقين إيقاف سياراتهم: “برِّك السيارة هِنا واصعد في الباص”.

كانت ثلاث حافلات كبيرة تنتظر جموع الموقوفين. تم إعلامنا ان مخالفة الإلتفاف الى اليسار عقابها ثلاثة ايّام حبس. وكانت إشارة مرور مبرشة اللون موجودة على التقاطع تشير الى عدم السماح بالإلتفاف. صعدت الى احدى الحافلات واخذت احدّق بمن تواجد. كانوا جميعاً من غير المحلّيّين. أما ابن البلد الذي كان يعرف من لباسه الأبيض وكفيّته وعقاله فكان لا يكف عن مجادلة الشرطي بانفعال وهو ينفض يده اليمنى المفتوحة من أعلى الى أسفل حتى يخرجه الشرطي من الحافلة ويتوارى عن انظارنا.

انطلقت الحافلات نحو السجن. بعد نحو نصف ساعة وصلنا الى باحته. توقفت الباصات. صعد الى حافلتنا مذيع تلفزيوني مع ميكروفونه ومرافقه الذي كان يصور بكاميرته تحقيقاً للأخبار المحلية. أخذ يسأل الموقوفين عن شعورهم وعواطفهم تجاه تطبيق قوانين السير! أخذت انظر جانباً محاولاً ان اختبئ عن أنظاره. ماذا أجيبه لو سألني؟

وقفنا في صفٍّ طويل امام كشك حارس المدخل. كان كل منا يسلم حذاءه وسير الخصر وأي قلم حبر كان يحمله. كان كل قلم يرمى في علبة كرتونية قديمة للأحذية فيما الأحذية والأحزمة كانت توضع على ارف خشبية باخ لونها من كثرة الاستعمال. في زمن لم تكن قد تواجدت فيه بعد الخلويات، سألت عن كيفية الاتصال بعائلتي لاعلامها عن مكان وجودي وكنت أفكر بزوجتي القابعة في انتظاري. أجابني الحارس بوجود هاتف داخل السجن. سألني عن اسمي الاول ودوّنه على دفتر عادي كالذي كنت استعمله في المدرسة ايّام زمان.

دخلت وراء الواجهة ذات القضبان الحديدية عبر باب من نفس التصميم. كان الداخل عبارة عن صالة كبيرة غير منتظمة الجوانب بحيث انه، من ناحية اليمين الأمامية، كان يتواجد ممر بعرض نحو من مترين ونصف وطول خمسة أمتار يؤدي الى باب حديدي مغلق على الدوام تختفي وراءه حجرة الموقوفين الخطرين. اما من ناحية اليسار الخلفية فكان يتواجد ممرّ يؤدي الى غرفة صغيرة يستعملها بائع الشاي داخل السجن.

أسرعت نحو الهاتف المعلق على الحائط وكان قد رُكِّز على مستوى عالٍ. تساءلت : ماذا يفعل قصيرو القامة ؟ وبدا لي ان الجهاز كان قد عانى الأمرّين في ما مضى وقد تغيّر لونه مع الزمن إذ خلت انه كان في الأصل ابيض اللون. كانت الأرقام من النوع الذي تضغط بإصبعك على كل رقم تطلبه. حاولت طلب رقم المنزل ولم أفلح لأن احد الأرقام لم يكن ليعمل!

رجعت نحو الواجهة الحديدية وإذ بي أرى في الخارج عشرات الأشخاص مصطفّين ينظرون إلينا. يبدو أنهم جاؤوا لتفقد أناس يعرفونهم وقد تم سجنهم. وبينما كنت أحدّق في الوجوه وجدت بينهم شخصاً أعرفه. صرخت له وطلبت منه الإتصال بزوجتي لإخبارها بوضعي وبإرسال طعام لي وغطاء للنوم (كانت الوسادات ممنوعة داخل السجن).

بعد ان اطمأننت ان زوجتي ستعلم بما حصل لي أخذت أفتّش عن مكان أقبع فيه. تربعت قرب الحائط الخارجي في الممر القريب من ركن السجناء المتهمين بذنوب أكثر خطورة. أخذت أحدّق بما حولي. كانت الارض مغطاة بسجادة بنيّة اللون من نوع الموكيت الرخيص الذي برِش تحت الارجل في الوسط بينما ملأت البقع المختلفة والمتنوعة الحجم بقيّة المساحات. بعد ان حيّاني جلس بجانبي احد الموقوفين وأخذنا نتحدّث. أعلمني ان بعض “النزلاء” لهم أكثر من أسبوع لأن كفلاءهم لم يحضروا لإخراجهم!

كان تعداد الموقوفين يزداد مع الوقت وكلّما وصلت حافلات جديدة. وقد استرعى انتباهي وصول عاملين من أصل يمني يبدو أنهما كانا يعملان على معدات ثقب الصخور. كان الغبار الأبيض يغطّي جسميهما كافةً من شعر الرأس مروراً بالحواجب والرموش انتهاء بكعب ارجلهما.

زاد امتلاء القاعة بالمساجين لدرجة ان التنقل بين ناحية واُخرى اصبح بصعوبة بمكان. افترشت مكاناً لجسدي على الأرض بالغطاءين اللذين كانت قد أرسلتهما لي زوجتي غير عابئ بما كان تحتي من بقع! ولإفساح المجال للآخرين اضطررنا للنوم رأساً وعقباً!

لا يمكنني ان أنسى تلك الليلة التي تميزت بتنويع من الروائح النتنة وسمفونيات شخير نابعة من أجسام مرهقة!

لم أمكث ثلاثة ايّام في ذلك السجن لان الإتصالات ساعدتني للخروج منه بعد ظهر اليوم الثاني. وعندما خرجت لم أتمالك نفسي من ذرف الدموع…

قياسي