العمل بين الماضي والحاضر

منذ البدء زوّد الخالق الإنسان بقوّة جسدية تتمثّل بعضلات مركّبة على أطراف جسمه تساعده لتحصيل رزقه أكان ذلك بالسّعي نحو ما يقتات منه أو بجلب ما يحتاج اليه أو الدفاع عن نفسه أو قومه. فالرجل كان يقوم بالمهام الصعبة أو الخطرة كالصيد والحراثة والزراعة والقتال بينما المرأة تكمّل مهام العائلة بالحمل وتربية الأطفال والطبخ والغسيل والعناية بالمسكن وجلب مياه الشرب أو الحطب من مسافات بعيدة  وقطف المحصول وتخزين المونة للأيام القاحلة. وفي ذاك الزمن لم يكن الإنسان بحاجة لممارسة أي نوع من الرياضة لأن عمله كان رياضة بحدّ ذاته!

مع التقدّم التقني أصبح معظم الناس لا يحتاجون الى بذل أي عمل بدني لتحصيل الرزق بل كل ما يفعلونه قد يقتصر مثلاً على الجلوس على كرسي وراء شاشة كمبيوتر لساعات طويلة أو إجراء اتصالات هاتفية أو غير ذلك من الأعمال التي لا تتطلب أي مجهود جسدي كبير! وبما ان الجسم يحتاج الى الحراك أصبح الناس يدفعون مبالغ طائلة لممارسة الرياضة وتقوية العضلات! فما كان يأتي مجاناً في السابق بسبب طبيعة الحياة أصبحنا نخصّص له وقتاً وندفع أموالاً من أجل الحصول عليه!

أما العمل في حياتنا الحديثة فهو جزآن: العمل حول البيت والعمل لتحصيل العيش.

العمل حول البيت

وهذه الأعمال يتقاسم مهامها ربّا المنزل وقد يشترك معهما فيها الأولاد والأقارب الذين يقطنون معهما تحت نفس السقف. وهي تشمل أعمال العناية بالمنزل والطبخ والجلي والغسيل والكي والطهي والحديقة وتنظيف الثلج من أمام المنزل في موسم الشتاء والى ما هنالك من أعمال كالعناية بالأطفال ومستلزماتهم ومساعدتهم في دروسهم وإيصالهم الى مدارسهم اونشاطاتهم الثقافية والرياضية ثم العودة بهم الى المنزل. كلها أعمال مختلفة وقد نحب بعضها بينما نكره البعض الآخر.

العمل لتحصيل العيش

مع التطوّر العلمي والتقني تعدّدت وتنوّعت حاجيّات المرء ولم يعد المأكل والمشرب يحتاجان الى وجود طاقات كبيرة من البشر وذلك لتوفّر شبكات توزيع المياه والكهرباء كما تكاثر وتنوّع الآليّات التي حلّت مكان الإنسان في ميادين الزراعة والبناء وغير ذلك. لذا استُحدثت مهن جديدة وتعدّدت الاختصاصات في كلّ المجالات! وإذ تفاوتت المداخيل بين مهنة وأخرى أصبح طالب العمل يُفتّش عن المردود النقدي للعمل قبل البحث عن مهنة يُحبّها!

لذا في عالمنا الحديث قلّما نجد أناساً يعملون في النطاق الذي يُحبّونه لأن ما يرغبون العمل فيه لا يدرّ ما يكفي لمعيشتهم! وهكذا نجد الكثير من الفنانين، كالرسّامين والنحّاتين وغيرهم، يمارسون هواياتهم في أوقات فراغهم!

وقد نجد الكثيرين يلجؤون الى العمل التطوّعي ضمن مجموعات منظّمة وذلك للتمويه على الرتابة التي تتملكهم وهكذا يشعرون انهم يؤدّون خدمة للمجتمع الذي يعيشون فيه…

قياسي

قصص فنية

كان والدي في مطلع عمره متعدّد الهوايات. فبالإضافة الى أسلوبه المميّز في الكتابة كان يحبّ الموسيقى ويهوى التمثيل والمسرح. وإذ كان تلميذاً في مدرسة “الفرير” في صيدا، تألّق في أخذ أهمّ الأدوار في المسرحيّات التي نظّمتها المدرسة باللغة الفرنسية.

في إحدى الأمسيات المنظمة في تلك المدرسة حضر عمّي شفيق ليحضر المسرحية التي يقوم ببطولتها أخوه كمال (والدي). وإذ صدفه “الفرير” المسؤول وهو يعرفه، سأله: “أنت لا تفهم الفرنسيّة، فماذا جئت تعمل؟” أجابه:”صحيح أنّي لا أعرف الفرنسية، إنما أعرف كيف أُصفّق!”

بعد سنوات من ذلك وبالتحديد سنة ١٩٤٣ قرر والدي إقامة مسرحية في باحة منزل العائلة في بلدة الرميلة ودعا الى حضورها أهل القرية والكثير من الأصدقاء. عنوان المسرحيّة “دكتور بالزور” قام بكتابتها باللغة العاميّة بعد اقتباسها عن مسرحيّة “موليير” Le médecin malgré  lui . احتفظتُ بنسخة المسرحية الأصليّة المكتوبة بخط والدي حتى اندثرت واحترقت مع ما كان في المنزل سنة ١٩٨٥

وإذ كانت تربط والدي صداقة بالمغنّية الراحلة “صباح” التي بدأ نجمها يسطع في ذاك الوقت ، طلب منها الغناء في فاصل الاستراحة. وإذ كان لا بدّ من استحضار من يعزف لها، عرّفته على عاصي الرحباني الذي كان شرطياً وقالت له : “بتدفع له عشر ليرات، بتكفّيه”. وهكذا كان .وقام بالعزف على الكمان. وبعد سنوات التقى والدي بعاصي بعد حضور أولى مسرحيّاته فبادر والدي بالقول:”أنت أوّل من أقنعني أنه من الممكن ان ننجح بالتمثيل باللغة العاميّة!”

أمّا عن فيروز فقد استقيت بعض المعلومات من صديقي الأستاذ إميل ديب الذي كان يلحّن في الإذاعة اللبنانية في تلك الفترة الزمنية. كانت نهاد حداد (فيروز) تعمل في كورس الإذاعة وتغنّي مع غيرها بينما كان عاصي يعزف على البزق والكمان مع الفرقة الموسيقية.

ولمّا بدأ عاصي يُعطي للفولكلور القديم ألواناً جديدة، كان يقوم بتلحين أغانٍ تقوم أخته بإدّاء الغناء بعد ان يكون الفنان الإيطالي “مارتشنيزي” قد قام بتوزيع الموسيقى. الّا ان النجاح لم يكن الّا محدوداً.

وإذ كان الموسيقار حليم الرومي يشغل منصب رئاسة القسم الموسيقي في الإذاعة اللبنانية، سأل عاصي يوماً: ” لمَ لا تستعين بنهاد التي لها صوت دافئ وجميل وممّيز عن غيرها؟” وهكذا كانت البداية…

سنة ١٩٥٤ قامت راهبات قلب يسوع  في بيروت بتنظيم رحلة الى الشام (دمشق) لزيارة مدرسة للراهبات هناك. وإذ كانت فيروز من تلامذتهنّ وقد أصبحت مشهورة، طلبن منها ان تغنّي على مسرح المدرسة في “باب توما”. إلّا انّها لخجلها رفضت ان تظهر على الحضور وأبت ان تغنّي إلّا من وراء الستار! 

قياسي

قصة عصفور الكناري

بعد التجربتين الفاشلتين اللتين عشتهما بين البلبل والحسّون يئست بعض الشيء من ان انجح يوماً في تربية العصافير!

إلّا ان عمّي شفيق قام بإهدائي فرخ كناري (وكنا نسميه بالعاميّة: كنار). قصدت منزله القريب الذي كان يقع في قرية وادي الزينة وغرب طريق صيدا القديمة. كنا نوقف السيارة بجانب الطريق لننحدر نحو المنزل عبر طريق صغيرة تكاد تتسع لسيارة واحدة وهي معبّدة بتربيعات أسمنتية تمّ صبّها بشكل لا توازي أضلاعها اتجاه الانحدار. وقد تمّ زرع حصى زلط ضمن البعض منها بشكل مربعات الداما وذلك للمساعدة على تجنّب خطر الانزلاق. وإذ كانت مسافة ضيقة تفصل بين المربّع والآخر، نبت عشب التيّن الأخضر عبر تلك المساحة ليعطي رونقاً جذّاباً بالإضافة الى الحوضين الطويلين اللذين يوازيان طريق المدخل حيث نمت الأزهار والورود تتخلّلها بعض أشجار الدّفلة الصغيرة.

أما المنزل فكان من طابق واحد من ناحية طريق صيدا بينما من طابقين من ناحية البحر نظراً للانحدار الطبيعي للأرض. وكان خطّ سكّة الحديد يفصل بين موقع المنزل والشاطئ الصخري الذي تُلاطم أمواج البحر نتوآته ليرتفع في الهواء ومع كلّ موجة رذاذ المياه المالحة فتنقلها الرياح الآتية من ناحية القبلة لترطّب الأجواء وتعطّر بنكهتها كلّ من كان يجلس على الشرفة يتأمّل في الأفق البعيد!

في ذلك الوقت كان عمّي شفيق مغرماً بتربية عصافير الكناري في أقفاصها الموزّعة على مختلف غرف المنزل وكلّ منها معلّق في وسط السقف في تعليقة حديديّة مخصّصة لحمل ثريّا الإنارة. أما أصوات الزقزقة المرتفعة والمنوّعة فكانت تعطي المنزل جوّاً لا يقارن!

استلمت عصفور الكناري في قفصٍ زواياه مؤلّفة من عوارض خشبيّة تجمع بينها أسلاك معدنيّة متوازية الأبعاد. أما ريشه فكان من اللون الأصفر الجذاب ويعطيه رونقاً أخّاذاً وكأنّ الخالق ميّزه عن بقيّة العصافير.

وإذ كنا نمضي عطلة نهاية الأسبوع في منزل المزرعة القريبة من منازل أعمامي، في نهاية تلك العطلة أخذت العصفور معي الى منزلنا في بيروت. كنت انتبه الى مأكله ومشربه واخشى عليه من ان ينقصه أيّ شيء!

لم أرضَ أن اتركه يعيش في ذاك القفص البسيط وأردت ان أعزّزه. قصدت أحد المحال التي تبيع الأقفاص ومستلزمات تربية العصافير وكان بجوار وزارة المالية القديمة بالقرب من سينما “كابيتول”.

اشتريت له قفصاً معدنياً مطلياً “بالكروم” اللمّاع جميل الشكل وأكبر بكثير من القفص الصغير الذي استحضرته به. بالإضافة الى معلفي الأكل اللذين كان كل منهما يحتل ناحية من طرفي القفص، كانت أرجوحة معلقة في السقف النصف دائري تُمكّن العصفور من التأرجح كلما وقف على الوقّافة الخشبيّة التي تجمع بين طرفيها! اشتريت له مشربيّة للماء يدخل فمها بين أسلاك القفص بينما يبقى أنبوب زجاجي خارجه يغزّي بالماء كلما شرب العصفور حاجته!

بالإضافة الى ذلك تبضّعت المزيد من الأشياء كعلبة الفيتامينات التي تعلّق داخل القفص ويأخذ منها قدر ما يريد و”لسان البحر” الأبيض الذي كنّا نصدف منه على الشاطئ والذي يزوّده بالكالسيوم كلما غرس منقاره فيه والحمّام البلاستيكي الذي هو بشكل غرفة صغيرة تعلّق على باب القفص وتوضع في قعرها مياه فتمكّن العصفور من الاستحمام فيها!

أما ما استحوذ إعجابي فهي أسطوانة تسجيل لأصوات كناري بلغات متعدّدة تساعد الفرخ الناشئ على تعلّم التغريد والزقزقة حين يسمع الإنشاد “العصفوري” من أفضل نجومه!

عنيتُ كثيراً بتربية ذاك الكناري وكنت أخشى عليه من أشعّة الشمس فلا أُفرطُ في وضعه كثيراً تحت وطأتها. واظبتُ على إسماعه تسجيل الأسطوانة علّه يتعلّم منها بعض التغريدات! إلّا أنه ملّ من سماعها بعد فترة وأصبح ينكبّ على الأكل ما ان أشغّلها له!

كنت انتظر ان أسمع منه زقزقة قصيرة أو حتى تصفيراً إلا انه لم يفعل. وبعد أكثر من سنة من اهتمامي به أخبرت عمّي بالأمر فقال لي: “يبدو ان العصفور أنثى. سنضعها مع ذكر علّهما ينجبان!”

أعدتُ الكناري لعمّي فوضعه كما وعد مع ذكر وانتظر أشهراً دون جدوى. ولما سألته قال ضاحكاً: “هذا “شكر”، لا أنثى ولا ذكر!

بعد فترة قرّر عمّي التخلّص من العصفور. وكان أفكح من بلدة شحيم يصرّ عليه كي يعطيه أحد العصافير التي بحوزته. لذا أعطاه ذاك الكناري الذي كان يمضي وقته بالأكل دون منفعة ووضعه له في قفص لا يساوي ليرة واحدة.

بعد فترة علمت ان عصفوري بدأ يُنشد بزقزقة لم يعرفها أحد من قبل حتى طالت سمعة براعته كلّ الجوار. واستنتجت ان كلّ ما تعلّمه عندي “باضه” في مكان آخر!

قياسي

ما حدث لي في مستشفى “سيتيه دو لا سانتيه”

بعد أشهر من الإنتظار جاء موعد التفحص بواسطة الموجات الصوتيّة لقلبي والذي كان قد طلب إجراءه طبيب القلب الدكتور بطرس. صباح ذاك اليوم قصدت باكراً مستشفى “سيتيه دو لا سانتيه” في مدينة لاڤال القريبة وأوقفت سيارتي في المرآب المخصّص للزوار.

دخلت المستشفى من الباب الرئيسي وانحرفت نحو اليمين ومن ثمّ وبعد مسافة قصيرة نحو اليسار باتجاه جناح الأشعّة. دخلت القسم وتوجهت نحو المسؤولة عن الاستقبال التي تجلس وراء مكتب صغير ويفصلها عن الناس زجاج سميك يذكّر بما نجده في المصارف. كانت شقراء الشعر، مستديرة الوجه، بيضاء البشرة، نحيفة الجسم . مددت لها من الفجوة المفتوحة في الزجاج الاستمارة التي كان قد كتبها الطبيب وأرفقت معها البطاقة البلاستيكية الخاصة بالمستشفى. تأكّدتْ من أوراقي وطلبت مني التوجه نحو مقاعد الانتظار.

وبينما كنت انتظر دوري تذكّرت ما أوصتني به زوجتي بألّا أُغفل عيني عن الحقيبة التي كنت أحملها والتي تحوي محفظتي وهاتفي وأوراقي إذ انها مرّت سابقاً بتجربة في نفس المستشفى كادت تفقد فيها محفظة نقودها وما فيها.

ما هي إلّا دقائق معدودة حتى صرخ أحدهم باسمي فتوجهت نحوه. كان وجهه ابيض مستدير الشكل وذا جبهة عريضة تتسع في وسط شعر رأسه الأسود، مربوع الجسم يرتدي مريولاً ابيض وقد بدت شعرات صدره من فوق فتحة مريوله. أرشدني إلى غرفة الملابس وطلب مني ان اخلع قميصي وان أضع سترة المستشفى ذات اللون الذي يغلب فيه اللون الأزرق.

دخلت غرفة الملابس وكانت مقسومة إلى قسمين تحجب ستارة كلاً منهما. خلعت قميصي الأسود والذي كان من نوع “التي شرت” وعلّقته في احدى التعاليق المخصصة لذلك وأخذت إحدى سترات المستشفى وأخذت أفكّر وأنا أحاول ربطها من الخلف بأن كلّ شيء تقدّم في الطب فيما عدا تلك السترة التي بقيت على تصميمها الأساسي.

بعد ان انتظرت دقائق معدودة على كرسي في رواق الانتظار نادتني المتخصّصة بإجراء التفحّص وأدخلتني إلى غرفة الفحص وطلبت مني التمدّد على سرير قليل العرض وان أميل جسمي نحو اليسار وان ارفع يدي اليسرى فوق رأسي. ثم قبل البدء أخذتْ حقيبتي ووضعتها بجانب رجليّ وهكذا اطمأننت على حاجتي وان لا أحد سيمسّ بها! وفي الحديث معها وبعد ان لا حظت ان وجهها بتكاوينه يبدو مألوفاً لديّ علمت انها كانت قد أجرت لي فحصاً مماثلاً قبل بضع سنوات.

بعد قرابة النصف ساعة انتهيت من الفحص واتجهت نحو غرفة الملابس لخلع السترة وارتداء القميص. الّا ان المفاجأة كانت بأن القميص اختفى من المكان الذي وضعته فيه! أعدت النظر والتفتيش دون ان أجد شيئاً!

قصدت إحدى الممرضات العاملات في القسم ورويت لها قصّتي! حاولت التفتيش معي دون جدوى ! رافقتها نحو مسؤول المناداة الذي قال ان رجلاً مسناً يتنقل على كرسي للمعاقين ادعى ان القميص له وقد ارتداه وذهب!

هنا بدأَت عملية التفتيش عن الرجل الذي قالوا انه ذهب لإجراء فحص دم. نادوه عدة مرات بواسطة مكبرات الصوت تحت اسم “مستر أندرسون” دون ان يحظوا به. اخبروني انهم اتصلوا بزوجته وأخبروها بالأمر. وبعد قرابة النصف ساعة وجدتهم قد أحضروه على الكرسي الذي كان يجلس عليه. يبدو انه كان قد خرج من باب المستشفى للتدخين في ذلك الجو الحار!

طلبوا منه خلع القميص فخلعه وكأن شيئاً لم يكن. الّا ان القميص كان يفحّ بروائح العرق الممزوج بالدخان. قالت لي الممرّضة: “لا يمكنك ارتداء القميص بهذه الروائح! عد إلى منزلك بسترة المستشفى بعد ادخالها تحت السروال!” طلبتُ منها ان ترافقني حتى المدخل كي لا يظن المسؤول عن الأمن أني سرقت السترة. وهكذا كان!

وبينما انا في طريق العودة إلى المنزل لارتداء قميص جديد اتصلتُ بزوجتي لأخبرها بما حدث لي في المستشفى ذاك الصباح فأخذت تقهقه وتقهقه حتى كادت تبلّل ثيابها من كثرة الضحك…

قياسي

قصص عصافير

4DC8B57F-C61D-4330-8105-A64C861DE0CD
كنت في الثانية عشرة من عمري عندما تملّكتني رغبة بتربية العصافير في المنزل إذ كنت أصدف الكثير من الشرفات وهي تتزيّن بأقفاص تصدر منها أنغام تُمجّد الخالق.

بدأت مشواري عندما قام بإهدائي أحد الأقارب حسّوناً مع قفصه. أما القفص فكان هيكله مصنوعاً من عوارض خشبية لها خروم باتجاه واحد وبأبعاد منتظمة بينها تسمح بمرور أسلاك معدنية متوازية الأبعاد وهي تشكل الحاجز الذي يمنع الطائر من الهرب من القفص عندما يكون بابه مقفلاً.

أما الحسّون فكان شكله جميلاً جداً من منقاره العاجي الذي يتوسّط وجهه الأحمر ووجنتيه البيضاوين إلى أعلى رأسه الأسود إلى جناحيه السوداويّن اللذين يتزيّنان بخطٍّ أصفر… كان متى انتصب على عارضة الوقوف يسقسق للحظات ثم يُغرّد على شكل زقزقة وهو يُحرّك رأسه من اليمين إلى الشمال وكأنّه يؤدّي وصلة غنائية في مسرح أمام جمهور ينصت اليه!

لم تدم حيازتي للحسّون طويلاً لأنّه تمكّن من الفرار يوماً من بين الأسلاك المعدنيّة التي كنت مجبراً على لمسها كلما قمت بتنظيف القفص!

وفي أحد أيام نهاية الربيع من تلك السنة وإذ كنت أمشي ضمن أحد بساتين المزرعة سمعت صوت صفير غريب يأتي من على غصن إحدى أشجار الصنوبر البرّي. تسلّقت الجذع وما ان وصلت إلى مستوى الغصن وتتطاولت بجسمي حتى اقتربت من مصدر الصوت وإذ بي أجد عشّ عصافير مبنيّ على ذاك الفرع! ما ان استرقت النظر داخله حتى وجدت فرخي عصافير يفتح كل منهما فمه على كامل مصراعيه مستنجداً طالباً الطعام. عرفت لتوّه أنه عشّ بلالبل!

كنت قد سمعت عن عصفور البلبل ان تدجينه ممكن إذا ما ربّاه صاحبه وقام بإطعامه منذ صغره. أما إذا ما كبر على هذا النحو فهو يرافق مربّيه طوال النهار في المنزل وخارجه ولا يحتاج إلى وضعه في قفص مقفل. لذا أخذت أحد الفرخين ونزلت من الشجرة وتوجهت نحو البيت وأنا أنظر ورائي خوفاً من ان ينقضّ عليّ أحد الوالدين وكنت أسمع صفيراً متعالياً يأتي من الأشجار المحيطة!

ما ان وصلت إلى المنزل حتى استحضرت قفصاً مستطيلاً كان لديّ وأسرعت إلى شجرة التين المجاورة وقطفت إحدى الثمرات وأحضرت معي عوداً اقتطعته من قصبة وأخذت أطعم فيه الفرخ من فمه وهو يصرخ مستغيثاً طلباً للقوت! ما ان مضت دقيقة أو اثنتان حتى شبع فسكت وظننت ان مهمتي انتهت لبعض الوقت إلا انه عاود الكرّة مجدداً بالاستغاثة في زمنٍ لا يتجاوز العشر دقائق! عدت لإطعامه مجدداً لأرتاح دقائق معدودة قبل ان يعاود الصراخ!

بقيت ملصقاً بقربه طوال الأيام التي تلت وكنت أظن أنه سيتمكن من الأكل لوحده بعد أيام إلا أنه كان مصراً على ان أطعمه بنفسي في فترات متقاربة لا يتجاوز طولها الربع ساعة! وكان يبدأ بالاستغاثة مذ بزوغ الشمس ولا ينتهي من طلب الأكل الا بعد غيابها! والغريب بالأمر انه كان يُخرج من معدته بنفس الغزارة التي يأكل فيها لذا كان علي تنظيف القفص عدة مرات كل يوم!

كان ريش جسمه قاتم اللون مائلاً إلى السواد وقد حاولت أخذه في نزهات خارج المنزل الا انه لم يكن قادراً على الطيران لوحده وكان يلازم الوقوف على كتفي طوال النزهة!

بعد مضي شهر كامل على حيازتي للبلبل ضقت ذرعاً بالاهتمام المتواصل به مما منعني من مغادرة المنزل ولو لساعات معدودة لأنه لم يكن قادراً على تناول الأكل لوحده! في حدود الساعة الخامسة من عصر أحد الأيام قررت الذهاب لزيارة أقارب لي لذا أقفلت الدرف الخشبية للنوافذ ليظن ان الشمس قد غابت وهكذا يأوي إلى النوم بانتظار صباح الغد! وهكذا كان… الاّ أني فوجئت لدى عودتي انه لم يقوَ على الاحتمال وقد فارق الحياة!

أما قصّتي مع “الكناري” فسأتركها للمرة القادمة…

قياسي

تمنّياتي لك بمناسبة عيد الفطر

وليكن هذا العيد مباركاً عليك وعلى كل فرد من أفراد عائلتك، علّ هذه المناسبة تجلب خيراً للأزمنة التي تليها فيغمر الأمن عالماً طالما بَعُدَ عنه ويعود الحق إلى أهله وتنعم العهود بالسكينة والطمأنينة ويُرزق كلّ ظمآنٍ ما يروي عطشه وكلّ جائعٍ ما يسدّ حاجته وكلّ بردانٍ ما يكسو جسده.

قياسي

دعائي لكم مع إطلالة هذا الشهر الكريم…

F25ECC19-3758-4FD5-9F74-73A58E3D48BD

دعائي لكم مع إطلالة هذا الشهر الكريم أن يبارك الله أعمالكم الخيّرة ويسدّد خطاكم لصنع المزيد من الحسنات ويرفع الظلم عن كلّ امرئٍ يعزّ عليكم ويبعد الشرّ عن كلّ من ضاقت به الأحوال ويعيد الحقّ إلى من افتقده ويكرّم بيوتكم وأهاليكم ويبعد المآسي عن أوطاننا ويرجع السلام إلى ربوعنا وتغمر المحبة قلوبنا جميعاً.

كل عام وأنتم بخير
بشير القزي

قياسي

بعض ما جاء في كلمتي في حفل توقيع كتابي : ذكريات وخواطر من جعبة مهاجر (القسم الثاني)

منذ نعومة أظافري وانا توّاقٌ لأن أنشأ على خطى والدي وانا كلّي إعجاب بخلقه وطريقة تفكيره وأسلوبه في الحديث وبلاغة كتاباته! كنت أرصد كل تصرفاته وأعيد قراءة النصوص التي قام بكتابتها قبل مولدي والتي تم نشرها على صفحات مجلات وصحف! قمت باقتطاع تلك المقالات وجمعتها ضمن ألبوم خاص أحتفظت به داخل خزانة خشبيّة جانبية صغيرة تابعة للمقعد الكبير في الصالون ذي الفرش الأحمر في الشقة التي نسكنها في مدينة بيروت. بقيَت تلك الخزانة الصغيرة مخبأي وكنت أقوم بين وقت لآخر بإعادة مطالعة تلك المقالات وأتأسّف على عدم قدرتي على المجيء بمثلها!

وعلى الرغم من تفوّقي خلال سني الدراسة في مواد الرياضيات والعلوم إِلَّا أني كنت خجولاً جداً في المواد الأدبية وبالأخص في نصوص الإنشاء! وهكذا تخرجت في الهندسة ودخلت ميدان العمل ومن ثمّ تزوجت وأصبحت أباً ولم أكن آخذ رأي والدي الّا حول بعض النصوص الشعرية التي كنت أكتبها من وقتٍ لآخر باللغة الفرنسية!

لم أكن يوماً من الذين يؤمنون بالتواصل مع عالم الغيب وما زلت حتى يومنا هذا أشك في أحاديث كلّ من روى أنّه اتصل مع قريب له فقده منذ مدة! الّا ان شيئاً ما حصل معي بعد سنوات من وفاة والدي ولا أَجِد له تفسيراً!

عندما قرّرت كتابة أوَّل نصّ لي بالعربيّة كنت مرتبكاً جداً! كيف أَجِد الكلمات والعبارات وأنا لم أقرأ أيّ كتاب بتلك اللغة منذ عقود؟

إِلَّا أَنِّي ما أن بدأت بالكتابة حتى وجدت الجُّمل والعبارات تنسكب لوحدها في نصوصي وكأنّي أقرأها من رسالة أو مخطوطة! حتى ان بعض الكلمات التي أشكّ في أَنِّي أعرفها كانت تضيء نفسها في مخيّلتي فاضطّر للتفتيش عليها في قواميس اللغة للتأكد من صحّة استعمالها!

وهكذا أستخلص أن نجاحي في الكتابة معزُوٌّ الى قدرةٍ ما وقد يعود الى والدي رحمه الله عبر تواصلٍ لا أَجِد له إثباتاً!

قياسي

امتحان لقيادة السيّارة غير شكل

IMG_3665

تختلف طرق قيادة السيّارات بين بلدٍ وآخر! وإن كانت قوانين السير متشابهة على الورق إِلَّا انها تتباعد كثيراً عند التنفيذ. ففي الوقت الذي كنت أظنّ فيه ان أفضلية المرور في بلدٍ كلبنان يأخذها من كان غير خائفٍ على حياته ويهجمُ بسيّارته وهو غير عابئ بأحقّية غيره من السيارات الّا اننا في رمشة بصر نجد نفس السائق المتهوّر يضغط على الكابح بأقصى قدرته ليجمّد سيّارته امام سائقٍ آخر يفوقه جنوناً في قيادته!

أذكرُ جيداً كيف قدَّمت فحص القيادة في مركز كان مخصَّصاً لذلك في منطقة وادي شحرور التي تقع على ربوة قريبة من بيروت. كان أهالي المتقدمين يواكبونهم الى المكان ويصطفّون من الصباح الباكر على جانبي الطريق المخصّص للفحص وذلك لمتابعة الإمتحانات العمليّة بتفاصيلها. وباعتبار ان الامتحانات تجري على سيارات من نوع “جيب” زيتيّة اللّون كان لا بد من تلقين المتقدّم بعض البديهيّات حتى لا يرسب بالفحص، منها مدّ اليد اليسرى من الشبّاك قبل التوقّف او مد اليد اليسرى ايضاً والتلويح بها قبل الانعطاف على مفرق ما، كما عدم إغفال إطفاء المحرّك وسحب المفتاح لدى الانتهاء من الامتحان، إذ ان أيّ إهمال يؤدّي الى الرسوب!

بعد سنين انتقلت الى فلوريدا في الولايات المتحدة ممّا حتّم عليّ التقدّم بامتحان جديد لأن الولاية لا تعترف برخصة غير تلك التي تصدر عنها! قمت بقراءة كتاب يجمع معظم الأسئلة التي يتناولها الامتحان وقدَّمت فحصي ونجحت بسهولة!

خلال تلك الفترة الزمنيّة كان الكثيرون من أبناء الوطن يغامرون بالسفر مع عائلاتهم الى الولايات المتحدة هرباً من الوضع في لبنان! بينهم كان “جورج” الذي وفد مع عائلته وسكن بالقرب من أخيه، رجل الاعمال ، الذي كان قد حصل على الجنسيّة الامريكية قبل عقود. وإذ لم يكن حين ذلك بمقدور جورج الحصول على رخصة قيادة سيارة نظراً لعدم تمكّنه من اللغة الانجليزية، ارتأى أخي صلاح ان نسأل الدائرة عن إمكانية إحضار مترجم!

لدى وصولنا للمركز سأل صلاح أحد المسؤولين، والذي كان يرتدى بزّةً عسكرية، عن تلك الإمكانيّة وكان الجواب بالإيجاب على شرط أخذ موعد مسبق لذلك! التفت اخي نحو المسؤول وأكمل محادثته باللغة الانجليزية قائلاً: ” وانا لا أحسن النطق بالانجليزية فهل بإمكاني احضار من يترجم لي؟” أجابه: “بالطبع، نعم!”

في الموعد المُقَرَّر حضرت برفقة كلٍّ من جورج وصلاح. طلبتْ منّي الشرطيّة المسؤولة عن الامتحان القيام بمهمة الترجمة. جلَّ ما كنت أخشاه ان يجيب أحد المتقدّمَين إجابة خاطئة وأقعُ انا بين سوءين: إما الترجمة الصحيحة للخطأ وهكذا يتضرّر صديقي او أصحّح الخطأ من خلال الترجمة وهكذا أسيء الى ضميري!

الحمدلله أَنِّي لم أحتج الى الوقوع في وضعٍ مشابه! مرّ في البداية أخي ونجح في الامتحان وجاء بعد ذلك دور جورج!

أما جورج فكان معتدل القامة ممتلئ الجثة ذَا بشرة بيضاء وعينين زرقاوين وخدّين منتفخين يغلب الاحمرار عليهما وشعر راْسه مزعتر أشقر قليل الطول. جلس على كرسي عن يميني بينما كانت الشرطيّة التي ترتدي زيّها الرسمي تجلس وراء مكتبها وبدت بعينيها الكبيرتين في الثلاثين من العمر، نحيلة الجسم شعرها أشقر معتدل الطول وقد سرّحته وربطته وراء رأسها!

بدأت الشرطيّة تسأل من خلال كتاب كان معها وكنت أقوم بالترجمة بينها وبين صديقي! ثمّ ارتأت ان تسأل السؤال التالي:” عندما توقف سيارتك على جانب طريق يرتفع نحو الأمام ولا يوجد رصيف على جانب الطريق، كيف تُدير إطارات السيّارة؟” أجاب جورج: “نحو اليسار”. أجابته: “لا، بل نحو اليمين حتى إذا “كرّت” السيّارة تتجه نحو خارج الطريق!” ترجمت ما قالته لجورج وطلبت منه ان يتمتم بعض الكلمات وكأنه يشرح لي تعليقاً ما. التفتُّ نحو الشرطيّة وقلتُ لها: “جورج يطلب منكِ مراجعة الكتاب لان الإجابة مختلفة عمّا تقدّمتِ به!

نظرت نظرة استغراب واخذت تُفتّش عن الإجابة بين الصفحات! ما ان وجدتها حتى انتفضت واقفة وتقدمت نحو جورج وأمسكت بيده اليمنى بكلتي يديها واخذت تهنّئه على ذكائه بينما هو لا يدري ما يحدث وقد زاد احمرار وجنتيه و”برزقت” عيناه بتعجّبٍ لا يوصف!

وهكذا نجح جورج في الامتحان!

قياسي

الى كل امرأة أنجبت طفلاً…

IMG_3654

الى كل امرأة حملت في أحشائها جنينها أشهراً طوالاً وعانت المخاض لإخراج طفلها الى العالم وظنّت ان عناءها قد انتهى لتجد ان صعوبات ومهمّات جديدة تنتظرها من إطعام طفلها وتنظيفه ومعايشة آلامه ومرافقته الى المدرسة عندما يكبر ومشاركة مخاوفه والسهر على تربيته وتشذيب أخلاقه في مجتمع خطر.  وعندما يتزوّج تظن انها ألقت بالحمل على شريك(ة) حياته لتجد ان عليها ان تعنى بأطفال اولادها وحتى بأولادهم عندما يتزوّجون ولا تجد راحة قبل ان يفارقها المنى…
الى كل الأمهات : كل عام وانتنّ بخير وأدام الله عطاءكنّ يا افضل من على هذه الأرض!

قياسي