ذكرياتٌ أليمة…

كتبت هذه الكلمات على أثر زيارة البابا إلى لبنان…

صادف بدءُ كتابتي لهذا المقال وصولُ الحبر الأعظم إلى بلدي لبنان الذي بعدتُ عنه منذ قرابة عقودٍ خمسة وما زالت ذكرياته تشتعل في قلبي! كان “البابا” في زيارة خاصة إلى بلدي الأم الذي كان، وذلك خلال باكورة زياراته خارج الفاتيكان مذ تنصيبه وهو يسعى إلى المساعدة في رأب الصدع الذي حدث منذ عقود وفي إعادة الاستقرار إلى الأراضي التي خطفت الأحداث الأليمة استقرارها وفرّقت بين شِيَعِها الخلافات ! كنت كلما نظرت إلى جهاز التلفزة واستمعت إلى أحد الذين يجيبون على أسئلة المذيعين، ويعربون عن ولعهم بالوطن الذي كان، وتعلّقهم الدائم به مهما حصل، لوجدت عينيَّ تغرورقان بدموع تنهمر على وجنتيّ ولا أقوى على إيقاف انهمارها ولا على إخفائها أمام الذين يشاركونني متابعة البرنامج!

كيف أنسى نشأتي في طفولتي في منطقة “الغلاطيّة” في بلدة “وادي الزينة”، التي تقع على ساحل الشوف، حيث لم تكن قد وصلت بعد المياه الجارية، وكانت جرارُ الفخّار تُعبّأ من بئرٍ تبعد نحواً من ثلاث ماية متر عن مسكننا ثمّ ترفع على الأكتف أو فوق الرؤوس، وتنقل محمولة سيراً على الاقدام لتركّز في الفيء على مصطبة خشبيّة في باحة المنزل الخارجيّة، بانتظار ان تروي ظمأ كلّ من استبدّ به العطش!

كنُا لا نخشى هشهشة الأفاعي التي كانت تصادفنا أمام مداخل منازلنا،  والكهرباء لم تصل بعد وكنّا نستنير خلال الليل بالشموع وقناديل الكاز واللوكس ! كنا نأوي باكراً إلى أسرّتنا التي كانت تحميها من شرّ البعوض “ناموسيّات” زيتيّة اللون مرفوعة على حمّالات حديديّة! كانت الليالي هادئة وساكنة تتقاطعها أصوات موج البحر وعويل بني آوى! أمّا لدى بزوغ الفجر فكان صياح الديك يوقظنا!

أمّا الأراضي الغير مزروعة فكان البلّان البرّي ذو اللون الأخضر الباهت يغطّيها بأشواكه وتقسم أجزاء منها بشكل غير منتظم هيشّ نبتَ فيها العرن النبيذي اللون المملوء بالأشواك الكبيرة! على الرغم من كلّ شيء، كانت تلك البقعة، بالنسبة لي، تشكّل جنة الخالق على الأرض!

والآن، وبعد ان مضت على هجرتي وفرار أقاربي وجيراني من تلك الأرض سنون تعدّ بالعقود، وبعد أن قضى نحبه الكثير ممّن نشأت معهم في طفولتي، وبعد ان أحسست ان ساعتي قد بدأت تقاربني، أتساءل هل سنعود يوماً إلى ارضنا، وهل سنرجع يوماً إلى حيّنا، وهل سيتعرّف عليّ الذين افترقت عنهم لدى هجرتي ولم يسألوا عمّا حلّ بي طوال ذاك الزمن؟

قياسي

أضف تعليق