
من ذكريات عقد قراني (الجزء التاسع)
في اليوم التالي غادرتُ الفندق برفقة عروسي باتجاه مطار بيروت حيث استقللنا طائرة أقلّتنا إلى روما. وصلنا قبل غروب الشمس وما ان خرجنا إلى باحة المطار الخارجية حتى صادفتُ إحدى سيّارات الأجرة فطلبت من السائق ان ينقلنا إلى أحد الفنادق في وسط المدينة. في تلك الأيام لم تكن بعد قد وصلت تقنيّة الحجوزات بواسطة الانترنت، أما التواصل عبر الهواتف فكان شبه معدومٍ وبالأخص مع لبنان!
أوصلنا السائق إلى جادة جميلة في وسط المدينة تحمل اسم “ڤيّا كواترو نوڤمبري” وانزلنا أمام فندق تتماشى هندسته مع المباني التاريخية التي تحيط به! اخترنا إحدى الغرف الجميلة وخلدنا إلى النوم ولم نستفق حتى صباح اليوم التالي حيث قصدنا مطعم الفندق لتناول وجبة الفطور.
كنا الضيفين الوحيدين اللذين يتناولان الفطور في الوقت الذي قصدنا فيه المطعم. كانت نادلة إيطالية متوسطة العمر تقوم بالخدمة، إلّا أنها لم تكن تفهم إلّا الإيطالية. حاولت إفهامها ما نريده، إلّا ان إفهامها بدا كمهمّة مستحيلة رغم محاولتي لفظ الكلمات الإنجليزيّة او الفرنسية باللّكنة الإيطالية! وإذ كنت أحاول عبثاً إفهامها ما نريده، دخلت عائلة سعودية المطعم، مؤلفة من أربعة اشخاص، وجلست على إحدى الطاولات! توجه الأب نحو النادلة قائلاً باللغة العربية العامية: “آبي بيض عيون” وإذ بها تزوّده بما يريد خلال دقائق ونحن ما زلنا في حيرة من أمرنا! فهمتُ آنذاك أنّ إفهام بعض الناس قد يكون أبسط ممّا نتخيّل!
وإذ تعوّدنا في بلادنا أن وجبة الطعام الرئيسية هي وجبة الظهيرة، قصدنا ظهر ذاك اليوم مطعماً يحمل إسم “بيتزا”. إلّا أني فوجئت بأن “الطليان”، في ذاك الزمن، لا يأكلون البيتزا مع وجبة الغداء بل يأكلونها مع فطور المساء!
عدنا إلى المطعم نفسه مساء ذاك اليوم! استقبلنا النادل الذي بدا في الستين من العمر بلائحةِ الوجبات المتوفرة، إلّا أنها كانت مكتوبة بالإيطالية. وإذ لم أرد الإطالة في البحث عمّا سأطلبه، تذكّرت أننا كنا في بيروت نطلب “بيتزا نابوليتانا” في مطعمي “بوبي” أو”أستيريكس” اللذين كانا يقعان في منطقة الروشة. فما أن طلبت “بيتزا نابوليتانا” حتى حدّق بوجهي النادل وصرخ غاضباً: “تذهب إلى “نابولي” لتأكل بيتزا نابوليتانا، أمّا هنا فتطلب بيتزا رومانا!” قلت في نفسي: “إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون!” لذا رضيت “ببيتزا رومانا” تفاديا لمشكل كاد ان يشتعل!
صباح اليوم التالي وجدت صحيفة دعائيّة مكتوبة بالإيطالية لدى كاونتر الاستقبال. أخذت نسخة وتوجهت نحو الغرفة وبدأت اتصفّحها. وإذ كنت أقلّب الصفحات وقعت على دعاية لمطعم يحمل اسم “دا ميو باتاكا” وهو مطعم يذكرني بمطعم يحمل الاسم عينه في منطقة الحمرا في بيروت. أذكر أنّي ترددت على ذاك المطعم زهاء السنتين قبل ان أتمكّن من حفظ اسمه! غيّبت عنوان المطعم وقلت لميشا: “هيّا بنا لتناول وجبة الغداء!” (طبعاً لم أعلمها عن المطعم)
طلبت سيارة أجرة وبعد ان صعدنا قلت للسائق:
Trastevere, Piazza Mercanti, Da Meo Pataca Restaurante
انطلق السائق بالسيارة ولم يسألني أي سؤال وكأنه فهم ما طلبته منه! وإذ بنا ندخل مناطق لم ندخلها من قبل، جنّ جنون عروسي وقالت لي:” كيف تتكلّم بالإيطالية؟ يبدو انك أتيت إلى هنا من قبل!”
وكلما دخلنا إلى امكنة لم نزرها من قبل كان الفضول يدخل قلب زوجتي بينما كان الفخر ينفخ رئتيَّ! في النهاية دخلنا ساحة للمشاة تكسو أرضها الأحجار المبلطحة. توقف السائق لينزلنا وأشار بيده اليسرى إلى الخارج قائلاً: دا ميو باتاكا رستورنتي” دفعت الأجرة ونزلنا لنجد ان الكراسي في المطعم مرفوعة فوق الطاولات وهو مقفل لا يفتح إلّا للمساء!
حاولنا أخذ سيارة أجرة، إلّا اننا لم نتمكن من إيجاد أي منها! مشينا في طريق العودة ما يزيد على الساعة حتى وجدنا مطعماً جاهزاً لاستقبال الزبائن!