
من ذكريات عقد قراني (الجزء الرابع)
منذ قرابة الثلاث سنوات توقّفت عن تكملة ما كنت قد بدأته من ذكريات عقد قراني. فمن أراد العودة إلى النصوص الثلاثة التي سبقت “الجزء الرابع” هذا، بإمكانه مراجعة مضمونها على موقع Bachirvision.com
وإذ قرّرتُ تمضية أسبوعين بجانب الأهل في لبنان، كانت والدتي قد أعدّت لي جدولاً حافلا بالزيارات. لم تعلِمني مسبقاً بالبرنامج التي تزمعُ القيام به، ولم تكن بَعْد قد درجت عادة الاتصال المسبق وأخذ موعد! وقتئذٍ من المقبول جداً ان يختار الزائر الموعد الذي يناسبه، وإن صدف عدم وجود أحد في البيت كان الزائر يقطف زهرة من الحديقة أو يلتقطُ عوداً خشبيّاً ويضعه في شبّاك المدخل وذلك للدلالة على ان أحدًا ما حضر للزيارة! وقبل ذاك الزمن، كانت المفاتيح ضخمة من الطراز القديم، وكان الثقب المُعدّ للمفتاح كبيراً ممّا يُمكّن من إدخال عودٍ بداخله، وكان الزائر يردّد بالعامية ما ان يلتقي الشخص الذي حاول زيارته: “جينا لعندكن ما لقيناكن ، حطّينالكن عود بقدْواحكن!”
قمنا بزيارة عدد لا بأس به من منازل المعارف والأصدقاء ، وكانت توجد فتاة مميّزة في كلٍّ مكان، إلّا ان قلبي لم يهف لأيّ منها، إذ كان متيّماً بتلك التي تركتها بالرياض! كان جسمي يتنقّل من مكان الى آخر، بينما بقيَتْ مشاعري ملتصقة بمكان بعدتُ عنه! مع أني كنت قد اتخذت قراراً بالابتعاد عن ميشا، إلا ان القلب لم يكن ليطيعَ القرار!
لذا عدتُ إلى الرياض دون أن ارتبط بفتاة جديدة، وقد شعرتْ والدتي أن تعلّقي بميشا يفوق قدرتها على التأثير على مشاعري!
إلّا أنّ ما لم يكن في الحسبان كان ان إحدى القريبات كانت قد نشرت خبراً مفاده أني ارتبطتُ بفتاة في لبنان وقد قمت بخطبتها !
في أول نهاية أسبوع لعودتي إلى الرياض لبّيت دعوة عشاء لدى قريب لي اسمه سعيد. كان يسكن الرياض منذ سنوات برفقة زوجته. كان طويل القامة، متجسّم البنية، ابيض البشرة، يرتدي نظارات سميكة تجعل عينيه تلمعان خلف عدستيها. كان من أفضلِ الناس خلقاً وما عرفت إنساناً بطيبته ومحبّته. كان العديد من الأقارب والأصدقاء قد لبُوا الدعوة، إلّا أني فوجئت بوجود ميشا برفقة والدتها بين الحضور. كانت قد صففت شعرها الكستنائي بنفسها، ولفّت طرفه السفلي نحو الداخل بشكلٍ متناسق، وكان طوله يصل إلى كتفيها! كانت ترتدي فستاناً بيجيّاً جميل التصميم، يُظهر تناسب قامتها. كانت تتابعني بنظرات عينيها رغم أن وجهها كان يدور نحو اليمين او نحو اليسار!
هممتُ بالوقوف وتوجّهت نحو الرواق الذي يؤدّي إلى باب المدخل وإذ بها تتبعني وتهمس بأذني: “يجب ان نتكلم!”
خرجنا إلى الباحة الخارجيّة وكان الطقس مائلاً إلى البرودة! فتحتْ حقيبتها التي كانت من نوع لوي ڤيتون وسحبت علبةً جلدية سوداء رقيقة لها إطار ذهبي، وفتحتها لتخرج منها سيجارة وضعتها بين شفتيها وأشعلتها بقدّاحة ذهبية مُميّزة!
مجّت من السيجارة شفّةًّ من الناحية اليمنى لفمها، ثمّ، بعد نحوٍ من ثانيتين أخرجت الدخان من تحت الناحية اليسرى لشفّتها العليا! حدّقتْ بعينيّ وقالت لي بابتسامة تهكّم: “مبروك!”
ابتسمتُ سائلاً: “مبروك على ماذا؟” أجابتْ: “وصلني خبر خطوبتك” أجبتها ضاحكاً: “لا صحّة لذاك الخبر! لم أخطب ابداً “. عندئذٍ لاحظتُ أنّ أساريرها انفرجت وخفّ التشنّج الظاهر في معالمها وتحوّل إلى ابتسامة أنارت وجهها بشكلٍ ينعكسُ سروراً على كلّ من تواجد بحضرتها!
تحادثنا طويلاً وكأنّنا أردنا رأب الصدع الذي ظهر لدى الإشكال الذي حصل مع الجارة التي كانت تسكن على الطابق نفسه مع عائلة ميشا، وذلك قبل ذهابي إلى لبنان!
قبل انتهاء السهرة دعتني للعشاء في اليوم التالي قائلة: “أنا لم أطبخ لك طعاماً بعد!” حضرتُ في الموعد المحدّد، وإذ كنت أصعد الدرج بطوابقه الأربعة، كنت كلّما اقتربت من طابقهم أتوقّع ان تطلّ الجارة من بابها لتواصل شجارها معي! إلّا أنها لم تظهر!
كان العشاء عبارة عن ستيك فيليه مينيون قامت بشيّها على “الغاز” بالإضافة إلى الفطر والبطاطس وذلك بالإضافة إلى السلطة التي قامت بإعدادها قبل ذلك! وكان الحساء من أطيب ما أكلت طوال حياتي…
أما التتمة ففي الجزء الخامس …