قدّاس نهار الأحد

قدّاس نهار الأحد

واظبتُ مذ وصولي إلى مونتريال منذ ما يقارب الأربعة عقود إلى اصطحاب زوجني إلى دير مار أنطونيوس الكبير، في أوترمون، كلّ صباح أحد وذلك للمشاركة بصلاة القدّاس الإلهي. وكانت وما زالت تجري إقامة القداديس في صالة الكنيسة والتي كانت في السابق كنيساً يهودياً قبل أن تستحوذ عليه الرهبنة المارونية وتقوم بشرائه مع المبنى الكبير سنة ١٩٨٣. ومن اللافت للنظر ان الرهبنة، بالاشتراك مع الكثير من المتطوعين أمضوا مدة طويلة لإزالة النجوم المسدّسة والتي كانت منتشرة وموزّعة على المعالم كافةً.

كانت زوجتي، وما زالت، تعتبرُ حضورَ القداس نهار الأحد أمراً مهماً ليس بإمكانها التغاضي عن المشاركة فيه. كانت تجلس على نفس المقعد الخشبي كل أسبوع وكنتُ أجلس بجانبها. وإذ كنتُ انظر إلى من كان يجلس على المقاعد التي كانت من حولي، أكان ذلك قي وسط القاعة، أم الجناح الأيمن او الجناح الأيسر منها، كنتُ ألحظُ على مرّ الأسابيع أن أكثر العائلات التي تتردد على الكنيسة تجلس في نفس الأمكنة التي اختارتها في أول مرّة دخلت القاعة!

إلّا انه من المثير للتساؤل أن المتوافدين على الصلاة كانوا يتغيّرون، إمّا بفعل الوفاة، أو الانتقال إلى بلدٍ آخر، او السكن بعيداً عن الكنيسة حيث يتبعون رعايا جديدة في كنائس تمّ افتتاحها في أزمنة متلاحقة! ومع توافد عائلات كثيرة إلى مونتريال هرباً من الأزمات التي كانت تحلّّ في البلد الأم، كان تغيّر الوجوه في الكنيسة أمراً يحدث مع كلّ هجمة جديدة للوافدين!

بخلاف زوجتي، كنتُ أحبّ اللقاء الذي كان يحدث بعد كلّ قداس في الصالة  السفلى تحت الكنيسة حيث كان يُقدم فنجان قهوة للذين يرغبون، وكنت استغلُ تلك المناسبة للقاء الكثيرين من الأصدقاء اوالذين كنت قد تعرّفت عليهم سابقاً، وتبادل الأحاديث في شتى المواضيع! أمّا زوجتي فكانت تُفضّل ان تغادر الكنيسة بمجرّد الانتهاء من القداس!

منذ سنوات معدودة، وفبل جائحة الكورونا، وإذ كانت الكنيسة تعجُّ بالمصلّين بمناسبة إقامة جنّاز الأربعين لأحد المتوفّين، أصررتُ على النزول إلى القاعة! بادلتني زوجتي بتحدٍ قائلة:” لماذا تريدُ النزول؟ أشارِطُكَ أنّكَ لن تجد أحداً يعرفكَ ولن تلتقي بأحدٍ يسلّم عليك!” رفعتُ حاجب عيني اليسرى ونظرتُ إلى وجهها وحدّقتُ بعينيها نظرة الذي يقبل التحدّي! إلّا أن المفاجأة كانت أني لم أجد وجهاً أعرفه بين كلّ تلك الجماهير وكنت كالغريب الذي يحضر للمكان لأوّل مرةً في حياته! إلا أن الحظ أراد الّا أخسر، فصادفتُ مارون الذي سلّم عليّ، و هو الذي يلمّ الصينيّة كلّ أحد في الكنيسة !

مساء سبتٍ ما، منذ قرابة العقدين من الزمن، دعانا الصديقان سمير ومي إلى حفل عشاء في منزلهما الكائن في جزيرة الراهبات القريبة من مونتريال! كانا قد قاما بدعوة ما يزيد على عشرة معازيم من بين الأصدقاء المقربين. بين الموجودين كان الأب زياد، وهو الراهب الذي كان يتولّى إدارة دير مار أنطونيوس الكبير وكان يرافقه أحد الرهبان! أما الاب زياد فقد تميّز بأخلاقه الكريمة وتفانيه في خدمة أفراد الرعيّة!

وإذ كنّا نجلس في الصالون، نظر الأب زياد نحو زوجتي وحدّق بعينيها مبتسماً من وراء نظارته المستطيلة، وتوجّه نحوها سائلاً: “يا ميشا! لاحظتُ في الآونة الأخيرة أنّكِ لم تعودي تحضرين قدّاس يوم الأحد! فهل من مانع؟” وإذ ميشا تُعرفُ بصراحة تزيد عن المسموح به أجابتهُ  وقد عقدت حاجبيها: “وعْظتَكْ يا أبونا كتير طويلة”! والوعظة هي الموعظة التي يتلوها الأب بعد قرائته لمقطعٍ من الانجيل المقدس! جمُد الجو قليلاً حتى عدنا بعد دقائق إلى الجو الطبيعي!

بعد انتهاء العشاء ولدى استعدادنا للمغادرة، سأل أبونا زياد ميشا: “هل ستحضرين يا ميشا قداس يوم غد الأحد؟” أجابته قائلة: “إذا بتوعدني انك ما رح تطوّل الوعظة!” ضحك وقد هزًّ رأسه بالإيجاب!

في اليوم التالي قصدنا الكنيسة وكنا نتوقع وعظةً أقصر من اللواتي تعودنا ان نسمعها في الفترة التي سبقت ذاك الأحد، إلّا انه استهلّ وعظته بشرح طويل عن موقفه تجاه الذين يفضّلون موعظة قصيرة في حين أنه يفضل الإسهاب بالشرح عن الفكرة التي يود شرحها…

قياسي

أضف تعليق