
ذكريات مع الاستاذ إميل ديب
لما اقتربت ساعة رحيل الصديق الأستاذ الملحّن إميل ديب، عادت بيَ الذكريات إلى أيامٍ مضت تعود إلى ما يزيد على ثلاثة عقود، مذ تعرّفت عليه في منزله الواقع على شارع ماكنزي في مدينة تيربورن، القريبة من مونتريال! وكأني كنت أتابع فيلماً وثائقيّاً، استعرضَ خيالي مجموعة من الأحداث والوقائع التي واكبتُهُ فيها!
كان قد أخبرني أنه، بعد ان ترك بلده الأم إثر الأحداث التي ألمّت بلبنان، وصل إلى مدينة تيربورن منذ قرابة الخمسة عقود وقام بشراء ذاك البيت منذ السنة الأولى لوصوله وقد عاش بين جدرانه طوال المدة التي أمضاها في كندا!
قبل ذلك كان له باعٌ طويل في التعليم، وقد قام بالتدريس في دمشق وبيروت وجبل لبنان! إلّا أنّ الشغف الذي لازمه لآخر أيامه كان حبّهُ للموسيقى وقد أتقنها وأبدع فيها من خلال المؤلفات الموسيقية الكثيرة التي تُخلّدهُ! كما أنه تعاقد مع الإذاعة اللبنانية وقام بتأليف العديد من الأغنيات وقام بالإشراف على تقديمها على أكمل وجه من ناحية الموسيقى والأداء وغير ذلك، وقد تم بثُّ تلك الأغاني على موجات الإذاعة وقد لاقت نجاحاً مرموقاً! بالإضافة إلى ذلك قام بنشر عدة كتب لتعليم الموسيقى باللغة العربية وهي تحمل الأسماء التالية: “فجر النغم ” و ” دو” و” ري” و” مي”.
قبل سنوات من وصول جائحة الكورونا، كنت أُداوم على زيارته صباح كلّ نهار سبت حيث كنا نشرب القهوة سوياً. كنت اصطحبُ في بعض الأحيان أحد أصدقائي وأذكر منهم الصديق نبيل لحّام والصديق جوزيف سكاف وقد تمكّنتُ بمساعدتهما من نشر ثلاثة كتب للأستاذ إميل ديب على “كندل “على الإنترنت وهم:” دو” و “ري” و” مي” وأصبح بالإمكان لمن يُحب ان يأخذ دروساً في الموسيقى باللغة العربية! كما توصّلتُ إلى الحصول على بعض تسجيلات من الإذاعة اللبنانية لكثير من الأغنيات التي قام الأستاذ إميل بتأليف موسيقاها، وقد قمنا بتسجيل الكثير منها على اليوتيوب! ويجب ألّا ننسى أنه قد تمّ نهبُ الكثير من تسجيلات الإذاعة اللبنانية التي كانت بحوزتها خلال الاحداث الدامية التي مرّ بها لبنان!
أما مدينة تيربون فتشتهر بالقسم القديم منها والذي يُعرف “بتيربون القديمة” وهي منطقة جميلة على طرف النهر، مليئة بالمباني القديمة العهد وفيها الكثير من المطاعم والمقاهي المشهورة! توصّلتُ إلى اكتشاف مقهى مبني على شكلٍ محمصة وهي تأخذ قسماً من المبنى الخشبي القديم! أما اسم المقهى فهو “محمصة النهر”.
داومتُ مع الأستاذ إميل على التردّد على ذاك المقهى صباح كل نهار سبت. كانت فتاتان تقومان بالخدمة. الأولى شقراء الشعر، بيضاء السحنة، زرقاء العينين، طويلة القامة، ولطيفة في تحدّثها واستقبالها للزبائن. أما الثانية فكانت سوداء الشعر، بيضاء البشرة، معتدلة القامة، جميلة المعالم، قليلة الكلام! ومع أنّي لا أحبّذ الجمال المضاف لدى اللواتي يتزيّنّ بالاوشام، إلّا ان تلك الفتاة كانت تخالف القاعدة كون الأوشام الظاهرة والتي رسمتها على ذراعيها وجسدها كانت تعطي رونقا جميلاً يختلف عمّا نجده عند غيرها!
كنا نجلس في إحدى زوايا المقهى، وكان يرافقنا بين حين وآخر أحد الأصدقاء!
في إحدى المرات كان يرافقني الصديق الإعلامي ڤكتور دياب. وفيما كنّا نحتسي قهوتنا، توجّهتْ نحو الطاولة التي كنا نجلس عليها سيدة في العقد السادس من العمر شعر رأسها مالس وقصير، بيضاء البشرة، زرقاء العينين، منتصبة القامة! بدت وكأنّها صاحبة المقهى. رفعت يديها قليلا وتوجّهت بالحديث نحو الأستاذ إميل والذي كان وقتئذٍ في أواخر الثمانينات من العمر، وقالت: “ما أجملك يا رجل! ما أجملك يا رجل!” ثم غيّرت اتجاهها ومشت نحو المطبخ!
بدا نوعٌ من الخجل على وجه الأستاذ إميل. تبادلتُ نظرات التعجّب أنا وڤكتور كون السيّدة انتقت الأستاذ إميل لتبدي إعجابها والذي يسبقنا بعقود من العمر!
وقتئذٍ استخلصت أنّ الجمال لا عمر له!
