يمام

يمام

ورد على مسمعي مؤخراً اسمٌ تحمله سيدة مثقّفة من بلادنا! وإذ ان هذا الاسم قلّما صدفتُ وجوده بين معارفي، لمستُ أنه أعادَ بذاكرتي إلى أيام طفولتي في بيروت حيث نشأتُ وترعرعت، وبالأخص لتلك الفترة التي كنت بلغت فيها العقد الأوّل من عمري!

الاسم هو “يمام”. وحسب معلوماتي اللغويّة المتواضعة، “اليمام” هو صيغة الجمع “لليمامة” وهي الحمامة البرّيّة.

 كنّا نسكن شقّة في الطابق الرابع من مبنى يقع في منطقة “الخندق الغميق” في وسط المدينة. كانت واجهة المسكن تطلُّ نحو الغرب، لذا كانت فترةُ بعد الظهر تجعل منه يعاني من حدّة الشمس مما يضطّرّنا الى إغلاق الأباجورات الخشبيّة للتخفيف من وطأة الحر!

مع أن شرفة الشقة كانت تجمع بين غرفتَي النوم، إلّا أنها كانت متطايرة فوق الطريق، تعلو شرفتين تقعان تحتها. كانت تلك الشرفة أشبه بمقاعد “اللوج” في أحد المسارح، بيد ان الفارق أن المسرح يعيشُ وقت المسرحيّة، بينما الشارع حيّ طوال النهار، بين بائع السحلب في الصباح الباكر، الى بائعي الخضار والفاكهة الذين ينادون على ما يعرضون، ودكانة  إم سيروب، إلى بائعي الدجاج، إلى المنادين على الكعك للعصرونيّة، الى الذين يبيعون غزل البنات، الى صندوق الفرجة، الى المنادين على مِهَنهم كالمبيّضين للأواني النحاسية، والمنجّدين، الى سنّاني السكاكين، الى بائعي الكاز والى ما هنالك …

في صبيحة النهار، كنا نشاهد وسط زُرقة السماء رفوف اليمام تطير مجتمعة على شكل أسراب كبيرة، تحمل شكل غيمة تكاد تحجب نور الشمس لهُنَيهة عندما تمرّ أمامها، وهي ترتفع نحو السماء ثمّ تغوص نزولاً نحو الأرض وكأنها تتبع أوامر من قائد المجموعة!

أما في المغرب فكان المنظر يزداد جمالاً مع حمرة الأفق المُتخفّي وراء الغيوم!

ذات يوم، لمحت يمامة بيضاء حطّت على درابزين الشرفة المبلطح والمصنوع من الباطون. حتى شرشف الدرابزين كان مصبوباً على قوالب خاصة مما يجعله أشبه بالقطع المنحوتة! أما اليمامة، بريشها الأبيض الناعم وعينيها الجميلتين الملوّنتين بشكل يصعب وصفه، فأخذَت تتمختر على مصطبة الدرابزين ثم طارت واختفت!

عقدتُ العزم على التقاطها. جئت ببعض البرغل وفلشته على المصطبة. ثم أخرجت من المنزل قطعة بساط صغيرة فرشتها على الأرض وجلست عليها بشكل لا يظهر به رأسي!

انتظرتُ طويلاً، زهاء الساعة أو أكثر! وإذ بي أجدها تحطّ بالقرب من حبات البرغل. وبلمحة بصر كانت يدي اليمنى تمتد نحوها وتمسكها من رجليها. حاولتْ التخلّص من قبضتي وهي تُصفق بجناحيها، إنما لا فائدة من ذلك. دخلتُ بها الى غرفة النوم وأقفلت الباب الزجاجي ثم تأكدت من ان جميع الشبابيك موصدة، ثم وضعتها على الأرض. حاولت الفرار نحو زجاج النافذة إلّا انها اكتشفت أنها حبيسة المنزل!

حاولت الطيران داخل المنزل انما المسافة كانت قصيرة. كنت سعيداً بإنجازي على الرغم من ان اليمامة فقدت حريّتها. بعد ان تعبتْ من محاولات الطيران حطّت على الأرض وأخذت تتنقّل على رجليها بين غرفة وأخرى. زوّدتها بالبرغل علّها تأكل إن جاعت، كما وضعت لها كوباً من الماء لتشرب.

في المساء رافقتنا الى الصالون حيث كنا نتابع البرامج التلفزيونية. أدهشها جهاز التلفزة بنوره وحاولت الاقتراب قدر الإمكان من الشاشة المضيئة!

صباح اليوم التالي كان لا بدّ من فتح النوافذ، وإذ بها تفرّ نحو الخارج وتطير بجناحيها فوق الأبنية والشوارع!

خال لي أني لن أراها بعد ذلك! إلّا انها عادت بعد يومين ودخلت المنزل الذي تعودَت على أرجائه! مكثَتْ بضع دقائق ثم لاذت بالفرار… وبقيتُ انتظر عودتها طويلاً…ولا أزال!

قياسي

أضف تعليق