
قصّة عود (ملحق رقم ٢)
لدى كتابتي “قصّة عود” ظننت أنّي فرغتُ من كتابة الحكاية التي حدثتْ منذ قرابة قرنٍ مضى، وقد حرّك تفاصيلها وجود عودٍ في مونتريال صدفتُه لدى زيارتي للملحّن الأستاذ إميل ديب، في مدينة “تيربون “. إلّا ان وصول رسالة من السيدة “حلوة”، والتي تقيم في ولاية فلوريدا، جعلني أكتب ملحقاً لتلك القصة!
أما الآن، وبعد ان تكشّفت لي معلوماتٌ إضافيّة، كان لا بد من إضافة تلك التفاصيل في ملحقٍ ثانٍ!
كان يوسف فارس لطفي، المتأصّل من بلدة البرجين، في إقليم الخرّوب، قد أمضى قسماً من عمره في المكسيك، وقد جمع ثروة كبيرة قبل أن يعزم على العودة الى بلده الأمّ. وصل لبنان قبل بداية الحرب العالمية الأولى، وكان يصطحب، بالإضافة الى زوجته، ثلاثة أولاد تم إنجابهم في المكسيك: ماري وأنيس وفارس. أمّا بقيّة أولاده، جورجيت وميشال وألبير، فولدوا في لبنان.
تملّك الكثير من الأراضي والبساتين والأملاك موزّعة بغالبيّتها بين سهل الدامور والرميلة واتخذ من المنزل الكبير الذي اشتراه من جدّي يوسف مسكنا له ولعائلته. كان يستحوذ من الليرات الذهبيّة على ما يزيد على عشرين الف قطعة، أما الأموال النقدية فاستودعها في بنك بطرس الخوري في صيدا! إلّا ان اندلاع الحرب العالمية الأولى حمل العثمانيين على الاستيلاء على ممتلكاته الذهبية وممتلكات غيره من أجلِ تغطية الأعباء المالية التي ترتّبت من جراء الحملات الحربية! أمّا بنك بطرس الخوري فقد أعلن إفلاسه بعد فترة وجيزة !
بعد انتصار الحلفاء ودخول الانتداب الفرنسي، غرّته السياسة ودخل ميدانها إذ ربطته علاقة وثيقة مع حبيب باشا السعد، أول رئيس حكومة في لبنان الكبير. خَوْضُ يوسف فارس لطفي عدّة معارك انتخابية جعلَ الديون تتراكم عليه وبالأخص لأن المقاهي في بلدات ك”برجا” وغيرها من بلدات إقليم الخرّوب، كانت تستضيف الزبائن على حسابه وتسجّل المصاريف على دفتر خاص، وتطلب تسديد المبلغ مرّة كل شهر! وإذ ضاقت به الأحوال فترتئذٍ، وعلى الرغم من ان “الست نظيرة جنبلاط”، والتي كانت تلعب دوراً مهماً في سياسة المنطقة ، كانت قد وعدتهُ بتسوية المشكلة، إلّا أنه قام ببيع مساحات كبيرة من الدونمات لتسديد الديون! ولما عاتبته الست نظيرة بسبب تصفيته للأراضي قبل الرجوع إليها، أجابها: “أنا نزعتُ شعرة من شاربيّ وأودعتها للمطالبين إلى أن أسدّد الديون، ولن أخلفَ بذلك مهما كان الثمن!”
سعى يوسف لتزويد أولاده بالعلم في أفضلِ المدارس آنئذٍ وقد برز بينهم ابنه الأصغر ألبير الذي تخرّج بمهنة محامٍ إلّا أنه، لسبب أو لآخر، غادر البلاد وهاجر إلى كندا وذلك في بداية الخمسينات من القرن الماضي! أما ابن يوسف الأوسط، فارس، فقد فاز بشهادة البكالوريا في أواخر العشرينات، وذلك يُعدّ إنجازا مهمّاً زمانئذٍ، بالإضافة إلى أنه كان يحبّ نظم الشعر العربي وقد حضرتُ حفل توقيع أول ديوان له في مونتريال، وذلك بعد ان بلغ من العمر السنة بعد المائة! أما شهادته فكانت قد أهّلته في مطلع شبابه ليتبوّأ منصب رئيس مصلحة الجمارك!
في ظروفٍ ضيقة من الناحية المادية، لم يرِق ليوسف أن يستنجد به عمّي شاهين طالباً مساعدة ماليّة لإتمام مراسم الزواج من ماري، وذلك بعد خطوبة طال أمَدُها ثلاثة عشر عامًا! لذا قرّر في أحد الأيام أن يفسخ خطوبة ابنته ليُزوّجها من شخص ثريّ مقتدر، لا من شابٍ متوسّط الدخل وما زال في بداية حياته، ولم يستطع حتى تلك الساعة من بناء مستقبل مزهر لنفسه! لم يُفكّر، ولو للحظة، أن ذاك الشاب قد يُصبح إنساناً مرموقًا مميّزاً!
وإذ كان يعرف مدى الحب الذي كان يربطُ الخطيبين، كان على يقين بأن الكلام لن يفيد! لذا دخل غرفته ذاك المساء، وفتح درفة الخزانة، ثم بواسطة المفتاح الذي كان يعلقه برقبته فتح الجارور وأخرج منه مسدّسه وتوجه نحو غرفة الجلوس. كانت ابنته تجلس على كنبة وتنظر نحو النافذة. كان شارباه يتراقصان، وحاجباه معقودان، والنار تقدحُ من عينيه. وضع فوهة المسدس في رأسها وقال آمِراً بصوتٍ تتأرجح نبرته من شدّة الغضب: “أتركيهِ الليلة، وليس غداً، وإلّا سأقتلك الآن وسأقتله بعدكِ!”
انهمرت الدموع من عينيها وغلب الحزن على وجهها! في لحظة واحدة رأت الآمال التي عقدت عليها حياتها تختفي وتصبح في جحيم! كانت تعرف أن والدها ما ان يعقُدَ على أمر إلّا ويُنفّذهُ! أحسّت بالإحباط وفقدت القدرة على الكلام وحتى البكاء!
وإذ انحنت عيناها وهما تنظران إلى أرض الغرفة بانكسار، حتى أعادَ تهديدَه لها وبنبرة أعلى! كان عليها ان تختار أهون الشرّين فأومأتْ بالقبول على مضض!
أثار خبر فسخ الخطوبة خضّة كبيرة في البلدة وجوارها، كما خلّف عداءً كبيراً بين عائلتين معروفتين! وفي زمنٍ لم تكن توجد فيه أجهزة الراديو ولا التلفزيونات وحتى الهاتف، كانت فسخة الخطوبة حديث الساعة! والسؤال الكبير الذي لا يجد جواباً: “ما عدا ممّا بدا؟”
أثارت التساؤلات حفيظة فارس الذي كان يداوم في منطقة أبو كمال على الحدود التركيّة. قرّر الانتقام من شاهين، لأنه تسبب بكل هذه المشاكل ، حسب تحليله. لم يأخذ نهار إجازة من العمل، بل استحصل على ثياب كاهن مع بعض المستحضرات للتمويه، وأخفى مسدّساً تحت ثيابه واستأجر سيارة أجرة تقلّه من أبو كمال الى الرميلة. إلّا انه، لحسن حظه وحظ شاهين، لم يكن عمّي في الجوار، وهكذا عاد الى مقره دون ان يُنفّذ المهمة! بعد ذلك، راجع فكره وهمدَ عزمُه على الانتقام!
بعد سنين من تلك الواقعة وبعد ان تزوّج الجميع، وتوفّي زوج ماري، كانت ابنتها عائدة الى البيت وهي ترتدي الزيّ المدرسي. ما ان دخلت الدار حتى فوجئت بزائر في الصالون. قدّمته لابنتها بأنه شاهين القزي. وإذ كانت الطفلة قد سمعت عنه، لم ترد ان تصافحه. جلست بعيدة عنه، وقد أدارت ركبتيها نحو الخارج وادارت كتفيها باتجاهه وكتّفت يديها وهي تنظر اليه وهي تبحلق في وجهه عاقدة حاجبيها! أخذ يحدّثُ الطفلة عن مزايا والدتها وأخلاقها وعظمة شخصيتها…إلّا انها كانت تستمع دون ان تُصغي…
بعد ان غادر الزائر حذّرت والدتها من انها لن تقبل بان تطأ رجلُ شاهين تلك الدار تحت أي ظرفٍ من الظروف…