قصّة عود (ملحق)

قصّة عود (ملحق)

لدى كتابتي القصّة، أغفلتُ ذكرَ بعض الأمور وذلك خوفاً من الإطالة بالنصّ وتحاشيًا لأن يتملّك المللُ قُرّاءَ الموضوع. إلّا ان رسالةً غير منتظرة وصلتني منذ يومين وجعلتني أُعيدُ النظر في ما كنتُ عزمتُ عليه، وسأخبركم بالمضمون فيما بعد.

لدى تعرّفي بالأستاذ إميل ديب أعلمني أن وجه العود الأصلي نشفَ وتشقّقَ بعد تمضية عقدٍ أو أكثر في الربوع الكنديّة. لذا اضطرّ لتكليف أحد الاختصاصيين بالقيام باستبدال ذاك الوجه الخشبيّ بوجه جديد يتحمّل تغيّرَ درجات الرطوبة في هذه الأصقاع ، مع العلم أن هكذا عمل على العود قد يقلّل من قيمته التاريخية.

وإذ كنت قد أخبرت ابنة عمي دنيا بقصّة العود، رجتني بعد وفاة والدها سنة١٩٩٤ أن أسعى لدى الأستاذ إميل بطلب شراء الآلة، مهما كان الثمن، وذلك لوضعها إلى جانب الألبسة والقبعات الرسمية التي ارتداها عمّي شاهين بالإضافة الى الأوسمة والميداليات التي حصل عليها خلال سنيّ خدمته، وقد تألّق في آواخر تلك الأيام بمركز رئيس الشرطة القضائية! للحقيقة، تلكّأتُ في السعي لتلبية طلبها نظراً لأن تاريخ العود يشهد على الكثير من المواقف التي تسبّبت بخلاف دام عقوداً طوالاً بين عائلتين!

وأعود الى الرسالة التي وصلتني من سيدة اسمها “حلوة”، وهي تُعتبر بالفعل إسماً على مسمّى!   هي صديقة للعائلة،  وتسكن فلوريدا منذ فترة طويلة، وقد  أوردت في النص تفاصيل لم أكن أعرفها! كما أكّدت لي صحّة ما رويتُه في “قصة عود”، وذلك لأنها تعرف العائلتين ملياً، وعلى علمٍ بكلّ ما حصل. ومع انها تجاوزت الآن العقد الثامن من عمرها، إلّا أنها لم تنسَ ما حدث في أيام طفولتها!

في تلك الأيام، كانت والدتها تربطها صداقة متينة بماري، التي كانت تسكن بالجوار مع ابنتها وزوجها في حي البرغوت بمدينة صيدا، في منزل مقابل مستشفى سعدالله الخليل على الطريق التي تربط المدينة بمدينة صور. 

وممّا تذكُرُهُ ان ماري حضرت مساء أحد الأيام برفقة أخيها أنيس المعروف بضرب المندل، ويبدو أنه حصل على كتاب يتناولهما الموضوع . وقد تعرفتُ على أنيس في تسعينات القرن الماضي لدى زيارتي لمنزله في مونتريال، وكان يعاني من إعاقة في يده اليمنى أجبرته على ارتداء يد اصطناعية. ذكَرَت “حلوة” في رسالتها أنه تمّت دعوة الجيران وقتئذٍ لحضور جلسة ضرب المندل ثم أغلقوا الأبواب والشبابيك. طلبَ أنيس كوب ماء وقبل ان يبدأ، تمنّى على الجميع المحافظة على السكون وعدم ذكر أي من أسماء الرسل والقديسين. ثم أخذ يُحدّق بوجه الماء بهدوء وهو يردّد ويتمتمُ بصوت منخفض صلوات وعبارات غير مفهومة أوغير مسموعة بوضوح! ومن المنتظر ان يتراءى له حينئذٍ جنّ،  ثمّ يقومُ هو بطرح الأسئلة عليه وهو يُجيب! إلّا ان “حلوة” لارتعابها وتديّنها أخذت تُردّد في قلبها اسم المسيح وأسماء قديسين. وانتهى اللقاء دون ان يتمكّن أنيس من استحضار أيّ جِن!

واستطردت الرسالة تُخبر أنه في أحد الأيام تعرّض عمّي شاهين لحادث سيارة. إثر إصابته، شاءت الصُّدفُ أن يتم نقله إلى مستشفى سعدالله الخليل مقابل منزل ماري. حين علِمتْ بالأمر، ارتدت فستانا أنيقاً على جسمها وقطعت الطريق ودخلت المستشفى وسألت عن غرفة المصاب. ما ان وصلت الى جانب سريره وما ان تلاقت نظراتهما حتى انهمرت الدموع من أعينهما وأخذا يبكيان بتلوّع دون ان يستطيعا التوقف! جلست على كرسي بجانبه، إلّا ان البكاء والنحيب طالا دون أن يتمكّن أي منهما التفوّه ولو بكلمة واحدة! بعد اقل من نصف ساعة، انتصبت ماري على رجليها وغادرت الغرفة مودّعة شاهين بنظرة من فوق كتفها!

عرّجت على منزل والدة “حلوة” قبل العودة الى المنزل. ما ان استقبلتها حتى فوجئت بالتورّم الكبير في عينيها. سألتها عن السبب فما كان منها إلّا ان قصّت ما حصل معها وهي تلعن والدها على الموقف الذي اتخذه ومنعها من العيش مع الشاب الذي أحبّتهُ والذي بادلها بنفس المشاعر!

لا أدري ما إذا كانا قد التقيا مجدّداً بعد تلك الحادثة، إلّا انه قيل لي أنه زارها مرّة للاطمئنان عليها!

مرّت السنون ومات شاهين بعد ان فاق في سنّه التسعين، فيما عمّرت ماري الى عمرٍ لا يصل إليه إلّا قلائل من البشر، وفارقت هي الأخرى الحياة ولم يبقَ من شاهدٍ على ذاك الحب إلّا العود القابع شمال مدينة مونتريال، والذي ما أن يُقسّم صاحبه ألحاناً على أوتاره حتى تتردّد أصداء قصة حب من الماضي تفوق في رأيي أسطورة روميو وجولييت… فالذين يختارون العيش في آلامهم هم أقوى من الذين يختارون الانتحار كوسيلة للهروب من واقع مرير!

قد تكون هناك الكثير من القصص المماثلة، إلّا أنّها لا تُبصر النور حتى يأتي من يكتب تفاصيلها!

وبالنهاية أستخلص بالقول: إنّ من لم يُعانِ من الحب، لم يعشْ…

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s