
ذكريات من عقد قراني (الجزء الثاني)
كنت أعلمُ ان والد ميشا سافر إلى الرياض سنة ١٩٥٢، وذلك قبل سنوات عديدة من ولادتها. آنئذٍ، لم يكن المطار الرسمي قد تمّ إنشاؤه! وكانت الطائرات التي تحطّ على المدرج الترابي تُغرّز عجلاتها أحياناً، ممّا يشلُّ حركتها. وكان يتمّ الاتصال به لسحبها من علقتها بواسطة الشاحنة الرافعة!
لم تكن المكيّفات قد وصلت بعد. وإذ إن الجوّ الحار يسودُ معظم أيام السنة، ويتغيّر من حار إلى حار جداً حسب المواسم، كان السكان يبلّون بالماء الشراشف التي يلتحفونها وذلك كي يتمكّنوا من النوم! وهذا الوضع تغيّر طبعاً في الستّينات!
مساء اليوم التالي للقائي بميشا في شقة ابن عمّي ، قرّرتُ أن أقوم بزيارتهم! كانوا يسكنون في الطابق الثالث من عمارة تمّ بناؤها قبل عقدين أو أكثر في منطقة “الملز”، لونها شاحب كبقيّة الأبنية في تلك المنطقة، وذلك بفعل الطوز ، وهي الرياح التي تحمل معها الرمال، والتي تهبّ بين حين وآخر، وتُعدمُ الرؤية أمام المتنقّلين!
وإذ صدفَ ذلك خلال الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني (يناير)، والحرارة في الرياض تنخفض خلال الليل، ارتديتُ فوق ثيابي معطفاً بيجيّاً خفيفاً من نوع الترنشكوت، ووضعتُ على رأسي قبّعةً مبلطحة من الجوخ لونها بيجيّ أيضًا! خلتُ أن من ينظر إلى مظهري يظن أني محقّقٌ في مفرزة المباحث!
ما ان بدأت أصعد سلّم الدرج المكسو ببلاط الموزاييك القديم حتى سمعت صوتَ امرأتين تتحدثان بصوت عالٍ في أعلى السلّم، ثم انقطعتْ الأصوات وسمعتُ طبْشَ بابين. عرفتُ فيما بعد أن والدة ميشا كانت تمدّ حديثاً مع جارتها التي تسكن بالمقابل والتي ما أن لمحتني في أسفل الدرج، حتى سألتْ: من هو ذا القادم؟ أجابتها: “هذا بشير القزّي وقد أتى من أجل ميشا!” وقتئذٍ دخلتْ كلّ منهما الى منزلها مغلقةً وراءها باب شقّتها.
ما ان قرعتُ الباب حتى فتحتْه والدةُ ميشا واستقبلتني ودعتني للدخول. سلّمتُ على والد ميشا الذي كان يجلس على الركن الأيمن من الصالون وكان يبدو عليه الإرهاق بعد أن أمضى نهاره في العمل. جلستُ على الكنبة التي تقع على الجانب الأيسر من باب المدخل، بالقرب من جهاز التلفزة الذي يركنُ في الزاوية. نظرتُ الى فرش الصالون الذي يشبه بتفصيله ما نسمّيه بالمجلس العربي، وبدا اللونُ الأخضر غالباً على بقية الألوان التي يتألف منها القماش. ما هي إلّا دقائق حتى دخلت ميشا وسلّمتْ عليّ باليد ووجهُها تزيّنهُ تلك الابتسامة “القاتلة”… بعد ان جلستْ من الناحية الثانية من التلفزيون أخذنا نتحدّث. قليلة الكلام، إلّا ان الأنوثة كانت تفيض من عينيها!
ما مرّت دقائق حتى رنّ جرسُ الباب. فتحته والدة ميشا فدخلتْ الجارة التي تحدّثتُ عنها. يبدو أنها أخذتْ بعض الوقت لترتيب هندامها وتسريح شعرها الأشقر ووضع أحمر الشفاه. وقفتْ في وسط الباب ورمتني بابتسامة تحيّة! وإذ وقفتُ احتراماً لها وجدْتُها تتفحّصني بعينيها الكبيرتين من أعلى رأسي إلى أسفلِ حذائي. ثم توجهتْ إليّ بالقول: “أنا جورجيت، جارِتُنْ من ١٢ سنة!” دخلتْ نحو المطبخ لتكلّم والدة ميشا ثمّ غادَرَتْ على عجل بعد أن تزوّدَتْ بما يُرضي تَطَفّلها!
أمضيتُ السهرة هناك وأعدْتُ الكرّة بعد يومين، ثمّ أخذتُ أكلّم ميشا على رقم هاتفِ مركز عملها وبدأتْ زياراتي تتقاربُ بالوتيرة!
دعوتها للعشاء لأوّل مرّة. وافقتْ على ما اقترحتُه. مررت في الموعد المحدّد لأخذها من بيت والديها. كان والدها في الصالون. كان عليّ أن استأذنه باصطحاب ميشا الى العشاء، وسألني عن المكان الذي نقصده والساعة التي سأعيدها إلى المنزل!
دخلتْ ميشا إلى الصالون ببهائها المميّز: من شعرها الكستنائيّ الذي تَظهرُ ثنياتُه المتناسقة، وإشراقةُ وجهها الذي تزيّنه تلك الابتسامة الفريدة… إلّا أن ما فاق كل شيء، كان ذاك الفستان الأحمر الوردي والذي كان يلبسُ جسمها! قصير الأكمام ، ما ان يضيقَ عند الخصر، حتى يتّسع تدريجياً ليصل إلى تحت الركبتين، وطيّاتُ القماش تزيد من رونقه. أما الحذاء ذو الكعب المتوسط فكان أحمر أيضاً! للحقيقة، بدا عليها الفستان أجمل مما بدا الثوب الأحمر الشهير الذي ارتدته الممثّلة “جوليا روبرتس” في فيلم “بريتي وومن” والذي صدر بعد عشر سنوات من تلك الليلة!
قصدنا فندق ماريوت خريص حيث تناولنا العشاء، ولا أنسى صحن المقبلات الذي يحوي نصف حبة أفوكادو مع القريدس والصلصة الخاصة بها. أما الطبق الرئيسي فكان من الستيك والخضار.
بعد تلك السهرة تقدمتْ علاقتنا كثيراً إلى أن حدث شائب عكّر صفاءها! سأترك التكملة الى مقالٍ آخر…