
ذكريات من عقد قراني (الجزء الأول)
الذكريات في الخيال هي كآثار الأقدام على رمال الشاطئ، ما ان تُتْرك للرياح وتطالها الأمواج حتى تمَّحي ولا يبقى منها أيّ أثر! لذا أحاول أن أدوّن بعضَ ما زال عالقاً في ذهني قبل أن يبتلعه الزمن!
وإذ صدفَ منذ أيام ذكرى مرور أربعة عقود على زواجي، عادت بي مخيّلتي الى تلك الحقبة من عمري والتي مرّت وكأنها حدثت منذ أيّام معدودة!
كنت أزاول عملي في الرياض بصفة مهندس مسؤول عن مقلع يحوي كسّارات للحصى ومعملاً لتحضير وتوزيع الخرسانة، وشاحنات نقل وخلّاطات، بالإضافة إلى مشاريع إنشاء أبنية وغير ذلك… وكانت تمتدُّ لِمرآيَ مناظر أراضٍ شاسعة، يغلبُ فيها اللون الصحراوي، ولا أرى من المعالم عليها إلّا مناظرَ الرمال والرجال والجِمال، بينما يختفي منها كل ما يمتّ إلى المرأة بِصِلة… وعلى الرغم من فقدان أملي بأن أصدفَ أية فتاة على هذه الأراضي القاحلة، كنت أؤمن بالمقولة التالية: “لو أراد الله لك أمراً تفتقدُ إلى وُجوده، لأنزلنّه لك من بين الغيوم وجعلنَهُ يحطُّ بالقرب منك حتى ولو كنت في أمحل الأقاليم”!
وإذ كنتُ أمضي عطلة نهار الجمعة مع ابن عمّي في شقته، استيقظتُ من قيلولة بعد الظهر على أصوات تأتي من غرفة الجلوس. نهضْتُ من السرير وتوجّهتُ نحو الصالون. كانت “عايدة”، ابنة خال ابن عمّي، برفقة زوجها وطفلتهما، وكان يرافقهم شابٌ معتدل القامة، شعره أشقرٌ يُسرّحُه من اليمين إلى اليسار وبجانبه فتاة ظننت أنها زوجته.
جلست على مقعد يقابلهم. رغم أني أحسست بثقلٍ في رأسي، وهذا ما يصيبني عادة بعد نومة بعد الظهر، حاولت مدَّ حديث مع ذاك الشاب الذي عرفت أنه لبناني، من أصولٍ أرمنية، ويعمل في شركة للتعهدات الميكانيكية. خلال الحديث، كنتُ أتوجّه نحو الجالسين وكأني أحدّثهم جميعاً وأنا أدير رأسي وعينيّ من اليمين نحو الشمال ومن الشمال نحو اليمين! كنت أخشى ان يتوقّف نظري عند الفتاة حتى لا يظنّ أحدهم أني أسترق النظر اليها وأعرّض نفسي الى شيء من الإحراج! وإذ كنت أجول في نظري لاحظت ان الفتاة تتطلّع نحوي وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة مرسومة بأجمل شفتين رأيتهما في حياتي وهما تحيطان بثغرٍ تضيئه أسنان متناسقة بيضاء، وفوقه أنف يتناسب مع الخدّين المائلين الى الاحمرار على بُشْرةٍ ناعمة بيضاء. أما عيناها فكانتا بلونٍ بنّي غامق، ولهما نظرة ثاقبة ويعلوهما حاجبان جميلان طبيعيّان لم يعبث بهما ملقط الشعر!
هززت رأسي قليلا لأنفضَ الصداع منه، وإذ بي تذكّرت أني كنت قد التقيت والدة “عايدة” قبل أسبوعين من الزمن في فرن الأرز المشهور بالخبز اللبناني. قالت لي نهارئذٍ إنها تنتظر وصول ابنتها الصغرى “ميشا” القادمة من لبنان! دعتني للقيام بزيارتهم بعد وصولها! أومأْتُ برأسي وانا أفكّر: “لم تدْعني إلى فنجان قهوة طوال المدة التي مكثتها مذ وصولي الى الرياض، والآن تريدني أن أهَرْوِل لاستقبال ابنتها؟”
نكزْتُ ابن عمّي بكوعي الأيسر وسألته: “هل هذه ميشا؟” أوْمَأَ بالإيجاب مبتسماً وهو يرفع حاجبيه!
يبدو ان الجميع لاحظوا ارتباكي! سألتها بصوت مرتفع: “أأنتِ ميشا؟” هزّت رأسها بالإيجاب وقد انفرجت اساريرها عن ضحكة أنوثية أشبه بتغريدة متناغمة!
كان قد مرّ عقدٌ أو أكثر مذ رأيتها آخر مرّة. من طفلةٍ عرفتها وقتئذٍ، ها هي اليوم فتاة شابة جميلة القوام والشكل…
عقدتُ العزم على القيام بزيارتهم، وللقصّة تتمّة…