
هل التخاطر حقيقة أم خيال؟
كنتُ على عتبة بلوغ سنّ الخامسة من عمري عندما أوفَدَتْ وزارةُ الماليّة والدي إلى باريس للتخصّص في أمورِ الضرائب غير المباشرة. وإذ كان عليه أن يُمضيَ فترة ستة أشهر في مدينة الأنوار، أوصى على كاميرة تصوير جديدة من ماركة “أچفا”، ألمانية الصنع وقد طلبها لدى أحد أصدقائه الذي كان يملكُ محل “فوتو قزي” لبيع أجهزة التصوير في منطقة البرج، مقابل حلويات حدّاد التي كانت مشهورة بالكنافة، ذاك المحل الذي كان مزروعاً بين المحلّات المتواجدة على الأرض التي بُنيَ عليها فيما بعد مسجد محمد الأمين بجانب كنيسة مار جرجس، على شارع الأمير بشير. إلّا ان الكاميرا لم تصل إلّا بعد مغادرة والدي ممّا جعلنا نرسلها له فيما بعد!
أما بالنسبة لتنقّله في باريس، فقد ارتأى ان يدفع عربونًا على سيارة يختارها في بيروت، ويقوم باستلامها في فرنسا، البلد المُصنّع. وهكذا انتقى سيارة “سيمكا، موديل آروند” رصاصيّة اللون، قام بعد انتهاء مهمّته بشحنها إلى لبنان!
أذكر أني رافقت أفراد العائلة لوداعه على المطار. وكان من الممكن الاقتراب من سلّم الطائرة لمعانقة المسافر قبل ان يصعد للمغادرة. أما الطائرات فكانت ما تزال مروحيّة الدفع وذلك قبل انتشار المحركات النفّاثة!
ما أن وصل والدي ألى باريس حتى بدأ يكتب رسائل لوالدتي. كانت طبعاً بخط يده المميّز والمنسّق، مكتوبة بالحبر الأزرق على ورق ناعم مائل إلى الزراق ، مرسلة ضمن مغلّفات مخصّصة للنقل الجوي ، والتي تتميّز بالإطار الملوّن بخطوط مائلة عريضة تتناوب بين اللون الكحلي واللون الأحمر. وكانت الوالدة تقرأ بصوتٍ عالٍ على مسمعي تلك الرسائل التي كاد يوازي عددها عدد الأيام التي أمضاها الوالد في رحلته. وبعد القراءة كانت تضمّها إلى جانب غيرها في الدرج الأعلى لخزانتها في الغرفة، وتُرتّبها فوق بعضها برزمات متناسقة، وتحيطُ كلّ مجموعة بشريط قُماشي تعقدُ طرفيه بربطة على شكل فراشة!
وإذ كنت أؤُمُّ مدرسة البطريركية في غرب بيروت، ينقلني كل يوم إليها ومنها أوتوكار المدرسة ، استفقت ذات صباح وقد ألمّت بي وعكة صحيّة مع ارتفاع بالحرارة. أعطتني الوالدة حبّة “أسبرو” ولازمتُ الفراش وأخذتْ تُلبّخُ على رأسي قطعة قماشٍ بيضاء تبلّها بين حين وآخر في كاسة بالقرب مني تحوي ماءً بارداً ممزوجاً بالخل!
مع ارتفاع درجة حرارة جسمي وظهور معاناتي من المرض، قرّرت والدتي أن أنتقل للنوم في غرفتها، وأحتلّ سرير الوالد البعيد عن باب الشرفة. على الرغم من سعة الغرة ، كان أثاث الموبيليا يكاد يحتل معظم أرجائها. فكلّ من السريرين كان مزدوج الاتساع، تخْتُ الوالدة ملتصقٌ بالحائط الخارجي الذي يحوي الباب الذي يطل على الشرفة، بينما تختُ الوالد يبعد عنه القدر الذي تأخذه منضدة “الكومودينا”، بينما من الناحية الثانية تفصله مسافة صغيرة عن خزانة الماكياج التي تعلوها مرآة كبيرة وتزيّنها حناجير الكولونيا المنوعة، ولا أنسى الساعة التي كانت عليها والمغطاة بقبّة زجاجية مرتفعة تُظهر معالمَها الداخلية المذهّبة، والأجهزة المحرّكة لها، كما القطعة السفليّة من الساعة والتي كانت تدور حول نفسها بشكلٍ منتظم ، مرّة نحو الشمال ومرّة نحو اليمين! أما الحائط المواجه للسريرين، فكانت تكاد تحتلّه خزانة الموبيليا الخشبيّة، ولا تترك مجالاً إلّا لمسافة صغيرة من ناحية الشرفة لعامود تعليق ملابس النوم، وفسحة ثانية بالمقابل، وراء باب مدخل الغرفة، لكرسي خيزراني يجلس عليه والدي لفكِّ أو ربط حذاءه!
نظراً لمرضي، لم أكن كثير الارتياح في السرير، وأخذتْ درجةُ الحرارة ترتفع ولم تعد تنفع حبات الأسبرو أو الضمّاضات الباردة. لم أعد أقوى على الحركة بشكل عادي وبدأت أتضايق من النور الآتي من زجاج الباب.
اتصلت والدتي بالدكتور زهار، وهو صديق للوالد، وطلبت منه الحضور للكشف عليّ بأسرع وقت. لم تردْ إعلام والدي بخبر مرضي، لذا تلكّأتْ عن مراسلته!
حضر الطبيب وكان يحمل حقيبةً جلديةً بنّيّة اللّون، منتفخة، تتّسع لأدوات الكشف كافة. كان معتدلَ القامة، أبيضَ السُّحنة، ممتلئ الجسم، بدأ يخفّ شعره في وسطه الأعلى، لذا كان يترك العنان لشعرِ جانبِ رأسه ليسرّحه من اليمين إلى اليسار كي يُغطّي بعضاً ممّا كَحُلَ نموّه في القمّة!
بعد إجراء الكشف عليّ، تم التشخيص! وهنا كانت المفاجاة الغير منتظرة: مصاب بمرض التيفوئيد! وصفَ لي دواءً أذكرُ منظره جيداً: حبات مستديرة لونها مائل الى البني!
مكثَ الدواءُ بجانبي أياماً ولم أتناوله، وكنت أرى حباته من خلال زجاج الحنجور. لم ترتحْ والدتي لتجرّعي لهكذا دواء.
بعد أيامٍ معدودة من التشخيص، استفقت في أحد الأيام وقد ظهر طفحٌ على جلد جسمي، ويكاد لا توجد بقعة إلّا واعترتها البقع الحمراء! وتمّ الاستنتاج أني أُصبتُ بالحصبة وليس بالتيفوئيد!
أخذ الزوّار المتوافدون من الأقارب يهزأون بتحليل الطبيب، حتى أن أحدهم أحضر لي قضيب خيزران لألقّنَ الطبيب درساً لن ينساه! ولدى حضوره، ولصغر تفكيري في ذاك الوقت ، ضربتُ بالخيزرانة على السرير مهدّداً إياه… ثمّ سمعتُ أمّي تنهرني عمّا أفعله !
لدى شفائي من الحصبة، كتبتْ والدتي رسالة تُعلمُ فيها والدي بما حدث لي وبالتاريخ الذي مرضتُ فيه! لدى استلامها ، صُعق الوالدُ بالخبر! لم ينسَ انه بالتاريخ عينه، أفاق من سباته بفعل كابوس، إذ تهيّأ له أنّه رآني نائماً في سريره وقد تفشّتْ بقعّ حمراء على جسمي، فقال لوالدتي: “يا جانيت! الهيئة الصبي محصّب!” غداة ذاك اليوم، قصدَ صديقَه د. عطيّة، والذي كان يتخصص في باريس. عندما أخبره بما رآه في المنام، طمأنه الصديق قائلاً: “لا ينشغل فكرك! هذا كابوس! أنت متعلّق بعائلتك أكثر من اللزوم!”
أما لما قصدهُ للمرة الثانية وأعطاه الرسالة ليقرأها، فوجئ بالدموع تنهمر من عيني الصديق الذي كاد لا يُصدّق ما يقرأه!
وبالختام، ومع أني أُقرُّ بأني لا أؤمن بالتخاطر، إلّا أنّه لا يوجد لدي البرهان القاطع على استحالته! ولا بدّ من التذكير أننا منذ قرابة الأربعة عقود، كنا لا نصدّق أن إنساناً ما بإمكانه ان يتواصل مع شخص آخر موجود في بقعة بعيدة عنه! فهل الموجات التي تتواصل بواسطتها الأجهزة الخليوية هي حكرٌ على هذه الأجهزه ولا يوجد ما يماثلها للتواصل بين البشر؟