أنا وأخي صلاح (٥): أبو يوسف

ولا تجعلنَّ السوءَ الذي جَنَيتموهُ من خيرٍ قُمتُم بتقديمهِ يُثنيكم عن معاودةِ فِعْلِهِ، إنَّ الامتناعَ عن تقديمِ العونِ لَمِنْ ألعَنِ الشّرور

كانت شخصيّة أبو يوسف تتميّز بقامته المعتدلة، المربوعة الشكل والبدينة الجسد. رأسه المائل الى الضخامة علاهُ شعرٌ كثيفٌ يتموّج بين الأبيض والأسود وقد  بدأ يخفّ في أعلاه مُعطياً شكلَ مُسطّح ! أمّا وجهه الأبيض السُّحنة والممتلئ عند الوجنتين فكان يُلفت النظر بالحاجبين الأفقيّين اللذين يتموّجان مع كلّ كلمة ينطق بها!

رزَقهُ الله سبعة أولاد، بينهم ابنة واحدة، ولم يألُ أيّ جهدٍ للسّعي لتوفير العيش الكريم لهم ولزوجته. وقد أرسل أولاده إلى مدارس محترمة ومعروفة كي يُحصّلوا العلمَ من أجل إعدادهم لمستقبلٍ باهر. منهم من حصّل شهاداتٍ وعمل لدى شركات معروفة، ومنهم من هاجر الى بلادٍ بعيدة سعياً لحياة فضلى.

في البدء كان يعمل كطاهٍ في أحد مطاعم المدينة بيروت. كان يستقلّ بوسطة “الصّاوي زنتوت” ذهاباً وإياباً. أما العودة في المساء الى المنزل، فكانت أصعب من مغادرته، مع ان المسافة التي تفصلُ بيته عن الطريق العام تناهز الكيلومترين . رغم التعب الذي كان يُرهقهُ في عمله طوال النهار، كان عليه، بعد النزول من البوسطة، المشي نحو بيته في الضيعة. ذاك المشي يُعدّ بمثابة تسلّق إذ كانت البلدة مبنية على مرتفع. وبالرغم من ان نصف المسافة مستقيمة، إلّا انها كانت مُتعِبة ومُمِلّة!

أذكر أنه زارنا، ذات صباح، في منزلنا في بيروت. كنت في الثانية عشرة من عمري وقد التزمت الفراش نظراً لإصابتي بوعكةٍ صحيّة مع ارتفاع لحرارة جسمي وإصابتي برشحٍ قوي. جلس على كرسيّ خيزرانيّ بالقرب منّي وسألني عن عوارض مرضي. بعد ان أعلمته بما أصابني، تكا رأسه قليلاً نحو اليسار وسند ذقنه بيده اليسرى وأرمقني بنظرة حادقة، ثمّ قال لي بصفة الأمر وهو يُحرّكُ حاجبيه: “هذا “كريب”، أتنملوش!” (بما معناه: لا تلزم الفراش من أجل ذاك المرض)

مرّت الأيام وانتقلنا الى السكن في منزل بناه والدي، على مفرق البلدة. كان أخي صلاح يمارس مهنة المحاماة في مكتبه آنذاك في مدينة صيدا. أما صاحبنا، الذي كبر في السنّ، فقد انتقل عمله الى مطعم بالجوار، على نحو كيلومترات، ولم يعد يعمل في العاصمة نظراً للظروف الأمنيّة. ذهاباً وإياباً ، من المفرق ونحو المفرق، كان يستقلّ إحدى سيارات الأجرة.

لدى العودة، كان ينظر يميناً وشمالًا، علّه يجد أحد أبناء الضيعة، ممّن يتنقلون بسياراتهم، يحمله معه كي يُقصّر الطريق ويُخفّف عن جسمه مشقّة تسلّق الهضبة…

إلّا أن أبناء الضيعة، كانوا ما أن يمرّوا على مقربة منه، لسبب ولآخر، يُديرون رأسهم نحو الناحية الأخرى، تجنباً لإركابه في سياراتهم، مع أنهم يسكنون على مقربة من منزله…

وإذ كان صلاح يعود من عمله في نفس الوقت تقريباً، ومع ان منزلنا كان في أوّل الطريق، كان يشفقُ على أبي يوسف ويُقلّه معه، ويسلك الطريق طلوعاً لإيصاله الى منزله، ثم يعود الى بيتنا!

وإذ أصبحت عمليّة النقل تتوالى يوماً بعد يوم، تعوّد أبو يوسف على الاستفادة من طيبة قلب ناقله. إلّا أنه في أحد الأيام، صدف أن صلاح تأخّر على موعدٍ هام ولم يكن باستطاعته إقلال صاحبنا. في الوقت الذي مرّت سيارة أخي بالقرب منه ولم تتوقّف، صرخ أبو يوسف متذمراً ورافعاً يديه من الغضب!

وفي نفس الليلة أخذ أبو يوسف يطلق الإشاعات أن صلاحاً متكبّر وغير خدوم وغير مؤدب وإلى ما هنالك من أوصاف، وكلّ ذلك على الرغم من أنه لم يشْكُ يوماً من الذين تجاهلوه على الدوام ولم يتوقفوا يوماً لمساعدته!

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s