أنا وأخي صلاح ٢

صورة لصلاح مع الوالد

بين الأقارب والأصدقاء، ذاع صيتُ صلاح في قدرته كطفل على ارتجال خطبة بالفصحى وهو ما زال لا يحسن لا الكتابة ولا القراءة! وكان لا يبخل بإلقاء كلمة في أية مناسبة يُطلب منه ذلك!

 اذكر واقعة طريفة حدثت خلال طفولتنا عندما أخذتني مع أخي المربّية التي ساهمت كثيراً في تنشئتنا وذلك من أجل تمضية النهار في منزل أهلها في سهل الضيعة التي كانوا يسكنوها. استقللنا الباص وما ان وصلنا حتى سلكنا طريقاً ترابيّاً لمسافة لا بأس بها ومن ثمّ انحرفنا نحو ممرّات ترابيّة ضيّقة ملتوية بين البساتين المزروعة بالخضار والأشجار. وما أن وصلنا حتى جلسنا على مقاعد خشبية مصنوعة باليد وتغطّيها طراريح قماشيّة متنوعة الألوان وقد باخ قماشها مع مرور الزمن. كان ذلك في الباحة الخارجيّة للمنزل والتي كانت مغطّاة بخيمة مصنوعة من جزوع الشجر تشبكُ بينها أغصان عريشة قديمة العهد تملأها الأوراق الخضراء بكثافة وتتدلّى منها عناقيد العنب البيتموني. قامت مربّيتنا بسؤال ابنة أختها “لولو” التي كانت في الرابعة من عمرها: ” ممّن تريدين أن تتزوّجي؟ من بشير أو من صلاح؟” أجابت دون تردد: “من صلاح!”. سألتْها مجدّداً: “لمَ لا تريدين بشير؟” أجابت بلكنة طفولية تمضغ فيها بعضاً من الأحرف في لفظها: “آكلتْهُ السّمس!” وذلك نظراً لسمار بشرتي!               

واظب صلاح على الذهاب الى المدرسة ومتابعة دروسه! أما في حصّة اللّغة العربيّة فكان يجد أنه يسبق طلّاب صفّه أشواطًا ولم يكن همّه الوحيد تعلّم الأحرف لقراءة النصوص المكتوبة بل أيضًا لكتابة ما كان يتخزّن في دماغه من مواضيع وأفكار. أما حصّة القواعد فكان لا يعيرها اهتماماً يُذكر، فلمَ عليه ان يتعلّم ما كان يُجيده أصلاً بدون دراسة؟

كنت وأخي نتشاجر في صغرنا وذلك لطبيعتي العدائيّة كباقي الصبيان وعلى الرغم من نفسيّته المسالمة! أما إذا اشتد الخلاف فكنّا نحتكم لدى والدينا! إلّا أنّه كان يتغلّب عليّ دائماً بطريقة عرضه للموضوع!  

عند بلوغه للسادسة من عمره وقع خلاف حاد بين والدي، وكان أصغر إخوته، وبين عمّي شاهين الذي كان أكبرهم سناً! وسبب ذلك أن والدي كان ينتظر تأييد أخيه بعد أن تمّ قبول عضويته في لائحة انتخابية مؤهّلة للنجاح، إلّا أنه وجد عكس ذلك واضطر لسحب ترشيحه! عقب ذاك الخلاف قام عمّي بإرسال رسائل بخطه لوالدي الذي كان يجيبه على كلّ منها بأسلوبه الادبيّ المتميّز! وكان يقرأ علينا الرسائل بصوته المعروف بنبرة وإلقاء خاصّين بينما كان صلاح يُصغي الى كلّ كلمة بانتباه!

ما ان بدأ يقرأ بسهولة حتى تبيّن له أنه مشغوف بالمطالعة وبالأخص بالكتب العربية! وفي الوقت الذي كنت فيه أنفق مصروفي على مأكل ومشرب أو شراء ملابس، كان صلاح ينفق ما لديه على شراء الكتب! كنا نسكن في وسط مدينة بيروت وكان شارع المكتبات الموازي لبناية اللعازارية قريباً منا! كان صاحب مكتبة الآداب صديقاً لوالدي وكان صلاح يتردّد على تلك المكتبة عدة مرّات في الأسبوع ليرى ما إذا كان قد وصلها كتاب جديد يستحق القراءة! وما ان يشتري الكتاب حتى كان يلتهم صفحاته بسرعة البرق وينهي قراءته خلال ساعات.

وكان يقرأ على مسمعي، في بعض الأحيان، بعضاً مما يُثير اهتمامه. أذكر مما قرأه في كتاب لنجيب محفوظ  مقاطع عن “الست أمينة” التي لم تكن تعرف لون عيني زوجها حتى بعد مرور عشرات السنوات من زواجها منه، إذ لم تجرؤ يوماً على رفع عينيها نحو وجهه، عندما تكون في حضرته، وذلك احترماً له وخوفاً منه!

عندما كان صلاح في الثانية عشرة من عمره، أصابه سعال موسمي يبدأ معه في بداية شهر تشرين الأول ويرافقه طوال الشتاء ولا ينتهي إلا في بداية الصيف! اعتبر الأطباء ان السبب يعود الى نوع من الحساسية ووصفوا له شتّى أنواع الأدوية المبنية على الكورتيزون إلّا ان أياً منها لم ينفع! وإذ انه لم يكن بمقدوره حضور صفّه خوفًا من إزعاج بقيّة الطلاب بسعاله، ارتأينا ان يترك المدينة ويسكن في بيتنا في المزرعة التي تقع في بداية طريق شحيم في قرية وادي الزينة آملين ان يساعده الهواء النقي على الشفاء!

بالإضافة لمتابعته لدروسه من البيت، أحاط نفسه بالكثير من الكتب التي يقرأها. وأخذ زيادة على ذلك يُشرف على بعض أعمال المزرعة وبالأخص تلقيح الدجاج عند اللّزوم أو الاتصال ببيطري ومتابعته عندما تمرض أحدى الأبقار! والبقرة عندما تمرض لا تعرف كيف تشير على ما يؤلمها ولذا كان من الصعب إيجاد بيطريّ كفوء عند اللزوم لأن الكثير ممن يدّعون أنهم أطبّاء بيطريون كانوا قد تعرّفوا على المهنة عن طريق الممارسة ولم يلتحقوا بأية كلّية! فاكتشف من بينهم من لا يعرف قراءة أسماء الأدوية التي يسميها حسب لونها: الدواء الأصفر أو الأخضر وغير ذلك!

وكان يحظى أيضاً بزيارة صباحية من بعض الأقارب المتقاعدين وكان أصغرهم سناً قد تعدّى السبعين من العمر! كانوا يجلسون في الحديقة تحت العريشة ويتبارون معه بطاولة الزهر ولم يكن أحدهم يلاحظ انه ليس من جيلهم لانه طليق اللسان ويحدّث كل فرد على حسب مستواه الفكري!

مرّت السنون وصلاح يتابع دروسه من البيت وبدأت صحة الأقارب المسنّين تتراجع بسبب العمر. وإذ كان قد مارس إعطاء الحقن للأبقار، أخد يعطي الأقارب الحقن الطبيّة التي قام بوصفها الأطباء وذلك نظراً لعدم وجود ممرضات في المنطقة! وهكذا قام صلاح بمتابعة صحة المسنين على مدى أعوام!

بعد انتقال العائلة للعيش بشكل دائم ببيت المزرعة، جهّز والدي أخي صلاح بسيارة صغيرة كان يستعملها كثيراً في اصطحاب من يلزم الى المستشفيات أو زيارة الأطباء. وقد كان بجانب بعضهم في آخر لحظات حياتهم!

أمّا عن صلاح والأطفال فذاك يتطلّب مقالاً آخر…

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s