رابع تتمّة لشر البليّة ما يضحك

IMG_3297

وإذ كنت أذكر ما حدث معي في مستشفى رزق في بيروت عادت الى مخيّلتي وقائع أحدثُ منها حصلت معي في مونتريال ليلة خميس من أواخر شهر أيار (مايو) من سنة ٢٠١٥. قصدت ذاك المساء برفقة جاري وصديقي إيلي وزوجته كاتدرائية الروم الملكيّين على شارع “الأكادي”. أردنا الإشتراك بمراسم احتفالات “خميس الجسد الإلهي” والذي يقيمه “الزحلاويون” كل سنة تيمّناً بذكرى ما حدث سنة ١٨٢٥ حين دعا مطران الروم الكاثوليك أهل زحلة للسير وراء القربان المقدس في شوارعها وذلك لدرء مرض الطاعون الذي كان قد فتك بأهلها. وبعد أعجوبة الشفاء بذلك التاريخ واظب أهل زحلة في لبنان والمهجر على استذكار تلك الواقعة!

بعد الانتهاء من القدّاس اشتركت مع الجموع في الزيّاح عبر الشوارع المحيطة بالكنيسة وقد دام قرابة الساعة أو أكثر وكانت الجموع تتوقّف امام منازل تمّ تزيينها مسبقاً للمناسبة. وكنت أُعجب من السيدات اللواتي كنّ يمشينَ طوال المسافة وهنّ ينتعلنَ أحذية ذات كعوب عالية!

وما ان انتهينا من الإحتفال وكانت الساعة قد قاربت العاشرة مساءً حتى اقترح صديقي إيلي ان نقصد مطعم “دانز” القريب في مدينة “لاڤال” والذي يقدّم وجبات سريعة من شرائح اللحم المدخّن.

بعد تناول سندويشات وقطع من البطاطا المقلية ركبنا السيّارة الكحلية اللّون وكانت من نوع BMW واتجهنا نحو منزلينا. كان صديقي يحادثني من وراء المقود وكانت زوجته تجلس بجانبه وكنت في المقعد الخلفي وراءها. لم أشأ ربط حزام الأمان نظراً لقصر المسافة.

ما ان انعطفنا على بولڤار “غوان” حتى توقّفنا على إشارة ضوئيّة حمراء وراء سيارة متوقفة على مفرق “سامرست”. وما ان التفتَ إيلي نحوي ليكمل حديثه حتى قذفتنا والسيارة نحو الامام لطمة مدوية جاءت من الخلف مما جعل مقدّمة سيارتنا تلتطم بالتي كانت متوقفة أمامنا. وإذ كنت قد تعافيت منذ فترة قصيرة من كسور في بعض خرزات العمود الفقري كما كنت أتناول مسيّلاً للدم، شعرت بان مكروهاً ما قد حدث لي. لم أشأ ان اتحرّك خوفاً من ان يكون تأثير الحادث لم يتبلور بعد!

ما هي الا لحظات حتى وجدنا فتاة تدق بيدها على زجاج إيلي. انزل زجاج النافذة وهو يلوي رأسه نحو اليمين واليسار من تأثير الصدمة. كانت طويلة القامة نحيفة الجسم لها عينان كبيرتان ووجه مستطيل شعرها كستنائي مالس يطال كتفيها وتحمل بيدها اليمنى هاتفاً آلياً. قالت: “آسفة لما حدث. لم انتبه لكم”. شعرت انها كانت تكتب رسالة على هاتفها ولذا لم ترنا! ثم استطردتْ: “هل أطلب لكم الإسعاف؟”

كان إيلي منفعلاً من تأثير الحادث. توجه نحوها ببعض كلمات النهر وطلب منها ان تبتعد عنا. توجّهَتْ نحو سيارتها لتنتظر الشرطة. لم أجرؤ التطلع نحو الوراء لأعرف نوع سيارتها خوفا من ان أؤذي رقبتي!

في الوقت نفسه اتصل إيلي برقم الطوارئ. لما أجاب العامل المسؤول عن تلبية حاجات المتّصلين فوجئ إيلي برتل من الأسئلة لم يكن يتوقعها وكأنه يواجه محققاً عسكرياً. وإذ كنت اسمع تفاصيل المكالمة على مكبّر الصوت كان المتحدّث يتمادى بالأسئلة وكل ما كان يطلبه صديقي لم يزد عن سيارتَيّ اسعاف لتقلّانا الى المستشفى! اما زوجته فكانت بخير ولا تحتاج لأية عناية!

وصلت سيّارتا إسعاف مع عدد من سيّارات الإطفاء الضخمة وسيارات البوليس. اهتمّ ممرضان بإنزالي من وراء المقعد بينما تولّى آخران أمر إيلي. تمّ سحبي من المقعد بشكل لم أكن أتوقعه وبعناية فائقة. بعد ان مُدّدتُ على حمّالة متنقلة أخذ ممرّض الإسعاف يلفّ حول جسمي شريطاً أشبه “بالداكت تيب” وأصبحت أشبه بمومياء غير قادرة على الحراك. رُفعت الى منصّة العربة حيث أخذ الممرض عدداً من المقاسات بواسطة آليّاته. بعد ذلك سألني مجموعة من الأسئلة ثمّ وقف ينتظر الأوامر لمعرفة المستشفى الذي سيتم نقلنا اليه. جاء رفضٌ من “الساكري كور” لاستقبالنا لكثرة الحالات لديه. شكرت ربّي لأني لم أكن ارغب بمعاودة زيارة ذاك المستشفى.

بينما كنا ننتظر القرار نظرت بطرف عيني نحو الممرض لأني لم أكن قادرًا على تحريك رأسي من كثرة الأربطة التي كانت ملفوفة حولي. كان في منتصف الثلاثينات من العمر أشقر الشعر وسيم المظهر. سألته عن نوع السيّارة التي تسببت بصدمنا وكنت أشك انها من نوع BMW ايضاً. توجه نحب الباب ونظر نحو السيّارة ثم عاد ليقول لي: “أنا في القراءات ولست في السيارات!”

توجهنا نحو ” الجويش هوسبيتال” الذي وقع الاختيار عليه. بعد معاملات التسجيل تم إدخالي الى غرفة طوارئ. جاء بعدها طبيب وعاينني وطلب اجراء فحص عينات من الدم وإجراء صور الأشعة “والسكانر”. بعد ذلك أُدخلت الى غرفة الأشعة.

استقبلتني ممرضة في الثلاثينات من العمر ممتلئة الجسم سوداء البشرة شعرها قصير وأملس. وبينما كنت أعاني الأمرّين من عدم قدرتي على الحراك وقد بدأت مفاصل جسمي تؤلمني، بدأت الممرضة تفكّ بعض الأربطة وسحبت حزامي الجلدي وبدأت تفكّ بعض الأزرار الأمامية. ثم صرخت بإعجاب قائلةً :” ما هذه الألبسة الجميلة التي ترتديها وما هذا الحذاء الرائع الذي تحتذيه؟ أريد أن أشتري لصديقي مثلها!” لم اعرف بماذا أجيبها وانا في وضعٍ لا أحسد عليه!

تمّ الإفراج عني في الثانية والنصف من الصباح ودخلت غرفة الإنتظار في الطوارئ. كان عدد كبيرٌ من الناس ينتظرون دورهم. وإذ لم يكن قد تمّ بعد الإفراج عن صديقي، أخذت ألهو بهاتفي. واذ وجدت اني أخذت صورة لمراسم الزيّاح توخّى لي ان أرسلها لزوجتي التي كانت في دبي في زيارة ابنتي!

وهنا كانت المفاجأة عندما وَجَدتْ اني ما زلت صاحياً في هذا الوقت المتأخر. طلبتني بواسطة “سكايب” فأجبتها وانا ابتسم حتى لا ينشغل بالها. سألت: “أين انت؟” قلتُ: “انا في المستشفى” وهنا كانت المصيبة وهي ترى المرضى من حولي ينتظرون دورهم!

لم يكن من السهل إفهامها بما حدث إلا أني أردّد عندما أذكر تلك الواقعة: شرّ البليّة ما يضحك!

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s