تتمّة ذكريات من الدامور

 

IMG_2942.JPG

كانت جدّتي “زهيّة” طليقة اللسان تُحدِّث بلباقة نادرة كلَّ من وُجد في حضرتها وكانت تعرف كيف تنتقي المواضيع والعبارات لتجعل الموجودين يستأنسون في مجالستها. أما جدّي “أمين” فكان قليل الكلام يومئ برأسه من وقت لآخر مع ابتسامة صغيرة للدلالة على مشاركته بالحديث دون أن يتلفّظ بأية كلمة. لم أرهُ يوماً غاضباً من أي أمر وكان يذكّرني بمقطع من أغنية للراحل “فلمون وهبه”:”خِربِتْ عُمرِتْ نِزْلِتْ طُلْعِتْ حادِتْ عن ضَهري…بسيطة!”

كان فخوراً بعددٍ من العِصي التي جمعها عبر عُقودٍ من الزمن أِنّما يفضّل بينها ذاك الذي سواده من صُلبه لأنه مصنوع من خشب ” الإبينوس” النادر والمتين. قلّما تعكّز على اي منها بل كان كلّما جلس على كرسي يضعُ يده اليمنى على مقبض العصا لأِسواء تقويصة ظهره. أما مجموعة مسابح التسلية التي ملكها فحدّث ولا حرج عن أنواعها المختلفة وكان يفضّل بينها المرجانيّة بلونها الأحمر المميّز مع شرّابتها الذهبيّة وتلك المصنوعة من حجر اليسْر الأسود والمطعّمة بالفضّة. وأِذ أن العرف يحلّل نوعاً ما الاستيلاء على مسابح الغير فكان يخشى ذلك كثيراً لدرجة أنه ابتكر طريقة للمحافظة على مسبحته فيربطها بمعصمه بواسطة خيط نايلون من الذي يستعمل لصيد السمك، فما ان يطلب أحدهم استعارتها حتى يمدّ له المسبحة التي تبقى معلقةً بيده وهكذا يضمن استعادتها!

لدى بلوغي العشر سنوات اصطحبني عدة مرات في بعضٍ من زيارات تفقّده لأرزاقه. بعد ان نقطع مشياً على الأقدام المسافة التي تفصل المنزل عن طريق صيدا القديم وذلك عبر أزقّة وطرقات منحدرة، كنا نصل الى جوار كاراج خالي جورج حيث نستقل أحدى بوساطات “الصاوي زنتوت” ونقطع مسافة بحدود الكيلومترين ثم ننزل في سهل الدامور ( وكانوا يسمّونه بالعاميّة “السِّهل”).

كنا نقطع مسافات عبر بساتين الموز والأكي دنيا والليمون وكنا نصدف من وقت لآخر شجرة توت. أخبرني أن سهل الدامور كان مزروعاً بأكمله بشجر التوت والذي كان يستخدم فيما مضى لزراعة دود القز من أجل تجارة الحرير وذلك قبل أن تندثر بتوفّر الحرير الصناعي والأزمة الاقتصادية التي رافقت المجاعة في جبل لبنان أيام الحكم العثماني! وأِذ كنا نجاور في طريقنا قنوات الريّ الخرسانيّة العريضة من أجل الوصول الى بستان جدّي كنا نعرّج أمام مبنى قديم مبنيّ من الحجر الصلب يحمل اسم “الكرخانة” حيث كانت تتم في الماضي عملية تغطيس الشرانق بالماء الساخن من اجل سحب الخيط كاملاً من كل شرنقة قبل ان تنخرها الفراشة الموجودة في قلبها. وكانت هذه العملية تُميت الحشرة مما يبعث روائح كريهة في الجوار! فيما بعد استُعملت كلمة “كرخانة” للدلالة على بيوت الدعارة نظراً لقرفِها وقذارتها بالنسبة للمجتع!

بعد زيارة بستان جدّي في “السِّهل” والذي كان مزروعاً بشجر الموز كنا نعود أدراجنا عبر البساتين سالكين نفس الممرات المجاورة لقناة المياه حتى نقطع طريق صيدا ونتّجه نحو الجنوب ومن ثم نصل الى هضبة مرتفعة تشرف على كامل سهل الدامور. وأذكر انه توجد في أحد الأمكنة مخلَّفات قاعدة مدفع كان يستعمل خلال الحرب العالمية الثانية. أما تلك الهضبة التي ملكها جدّاي فتسمّى بالحصن وتلفظ “الحِسْن” ومزروعة بالزيتون وأجمل ما فيها موقع مشرف يتيح للرّائي مشاهدة مناظر من مدينتي بيروت وصيدا في آنٍ معاً. كنت أسأل جدي: “متى ستبني بيتاً هنا؟” فيجيبني: “ناطر آخر موديل للبيوت”. وتُوفِّي بعد عشرات السنوات قبل ان يبني منزلاً في ذلك الموقع الجميل!

رافقت مرّة أو أكثر خادمة جدّتي الى الفرن القريب من المنزل. كانت تعجن الخبزَة في المساء في لَكَن معدني وتغطّيه بعد ذلك بقماشة لينضج مع الخميرة خلال الليل. وفِي الصباح تُقرّص العجين بقطعٍ مستديرة بحيث ان كلّ كتلة تكفي لخبز رغيف واحد. كانت بعد ذلك تحمل العجنة في اللكن على رأسها وتتجه نحو المخبز.

أما في الفرن فكان رتل من نساء الحيّ قد حضرن بخَبزاتهنَّ بينما أحضر البعض الآخر صواني أعددن فيها طبخاتهن وذلك لخبزها في الفرن وذلك لعدم توفّر الأفران في الكثير من المنازل. كانت النساء يتناولن أخبار البلدة وفضائحها في الوقت الذي كنّ لا يتوقّفن عن رقّ أقراص العجين على ألواح خشبيّة طويلة يتّسع الواحد منها لنحوٍ من عشرة أرغفة ويقرّبنها حسب دورها من الفرّان الذي يدخلها الى آتون الفرن المشتعل بالحطب. كان يدخل اللوح الى الداخل ويسحبه بحركة سحريّة تجعل الأرغفة تتوزّع على أرضيّته الحامية وما هي الا لحظات حتى نرى العجين ينتفخ بشكل بوالين وما ان يحمر وجه الأرغفة حتى يقوم بسحبها بواسطة مشحاف طويل حديدي ويمسكه بواسطة عصا خشبي طويل مثبّت في أوّله.

أما نساء الدامور فكنّ يتميّزن ببشرة ناصعة البياض يحرصن على الاّ يراها نور الشمش خوفاً من أن تسمر! (بعكس أيامنا هذه). فكنّ يتمخترن في مشيتهن على طرف الطريق وهن يحملن شمسيات ملوّنة فوق رؤوسهنّ وذلك في طريقهن لتمضية صُبحِيَّة عند أحدى السيدات.

ومن أخبار الدامور تلك التي روتها لي جدّتي عن “مطانيوس” الذي هاجر الى الولايات المتحدة حيث أمضى عقدين أو أكثر من الزمن وهو يعمل بجِد ومثابرة لجمع كل ما أمكنه من أموال يرسلها لاخيه في الدامور ليشتري له بها أراضيَ في البلدة او في “السِّهل”. وكان أخوه يبعث له بأخبار شراء عقارات وأراضٍ. وبعد أن سئم “مطانيوس” من الغربة عاد الى بلدته باعتبار أنه جمع من الأرزاق ما يكفيه لآخرته. وبعد وصوله سأل أخاه عن أملاكه وكانت المفاجأة بنكران أخيه لتسلمه أية أموال وشراء أية أرزاق وهكذا وجد “مطانيوس” نفسه وقد فقد كل ما جناه!

وفِي صباح يوم أحد وخلال مراسم قدّاس كنيسة “السيدة” الواقعة فى أعالي البلدة والتي يتردد عليها نخبة السكان المقيمين في الدامور جاء وقت المناولة. والمناولة للذين لا يعرفون هي عندما يقدم الكاهن بفم كل متقدم منه برشانة من الخبز تمثّل جسد ودم السيّد المسيح. وأِذ جاء دور الأخ لتناول القربان أمام المذبح وأِذ كان مطانيوس واقفاً في وسط الكنيسة دوّى صوته مخاطباً أخاه باسمه:” أزلع يا أبو الياس، أزلع! أِذا مال أميركا ما شبّعك، هالبرشانة رح تشبّعك؟”

وأصبحت تلك القصة مثلاً يردده الداموريون حول كل شخص يستولي على أموال أقاربه عن غير حق وكم في مجتمعنا من أمثال “أبو الياس” وقد أثروا بطرق ملتوية ولم يوفّروا أية مناسبة تسمح لهم بزيادة أملاكهم مهما كانت الطريقة بينما هم يُصَلُّون ويصومون ويركعون ويلطمون صدورهم أمام رَبَّهُم وهم في الحقيقة أبعد الناس عنه!

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s