غراميّات وربطة عنق في لندن

 

IMG_2786

في الرابع من أيار (مايو) سنة ١٩٧٨ ، وبتوقٍ شديدٍ الى تلك السفرة، استقللت طائرة “الميدل إيست” من بيروت باتجاه لندن حيث سأمكثُ بضعة أشهر في مهمة عمل لدى الشركة التي كنت أعمل لديها. كيف لا يغمرني الفرح وهذه هي سفرتي الأولى الى تلك البلاد؟

رافقت مديري “يافوز” خلال تلك الرحلة والذي ربطتني به فيما بعد صداقة امتدت الى سنوات! اما للذين يستغربون اسمه فذلك يعود الى اصوله التركية وهو من القلائل المتحدّرين من السلالة العثمانية التي كانت تحكم بلاداً شاسعة خلال قرون وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى في بداية القرن الماضي!

ما ان دخلنا الطائرة حتى أخذت لنفسي مقعداً بجوار الشبّاك وذلك في الجناح الأيمن من المنطقة الوسطى من المقصورة. جلس “يافوز” بجانبي في المقعد الوسطي وفتح كتاباً بدأ يقرأه. وإذ لم تكن الرحلة مكتظة بالمسافرين وجدت ان الركاب قد توزّعوا بشكل عشوائي على المقاعد. أردت ان أرى من كان يجلس خلفي فاسترقت نظرة من خلال الشق الموجود بين المقعدين فلمحتُ فتاة جميلة تلبس فستاناً زهريّ اللون تجلس في الكرسي الواقع خلف “يافوز” بين مقعدين خاليين! ما ان تيقّنتُ من أنها لاحظت فضولي حتى خجلتُ من تصرّفي وأدرت وجهي نحو الأمام.

لازمتُ على التركيز نحو الأمام الاّ أنني، بعد دقائق معدودة، لم أستطع مقاومة رغبتي الشديدة بمعاودة الكرَّة فما ان اختلست نظرة جديدة من خلال الفتحة حتى فوجئت بعينيها الحالمتين تتطلّعان نحوي مع ابتسامة ناعمة رسمتها على شفتيها! أدرت رأسي بسرعة بينما أخذت نبضات قلبي تزداد سرعة! لم أعد أعرف ماذا أفعل! أكانت الأبتسامة من باب المجاملة المهذّبة أم للترغيب بالمزيد؟

بعد أن أطفأ الكابتن ضوء ربط الأحزمة بدقائق رأيتها وقد انتصبت على رجليها في وسط الممر وقد بدا شعرها الكستنائي اللون يبرق بتجاعيده الطبيعية وبطوله الذي يصل حتى كتفيها. أما فستانها الزهري اللون بأكمامه القصيرة فبدا وكأنّه يزيد بياض بشرتها نصعاً. تراءى لي طول قامَتَها وخصرها النحيل وتناسق مقاسات جسمها. صوّبت ظهرها ومشت نحو مقدمّة الطائرة بأنوثة وبخطىً منسّقة، مقدّمةً أو مرجعةً كل كتفٍ على حدة بتزامنٍ مع حركات ساقيها، بينما كان ردفاها يميلان يمنةً ويسرةً بشكلٍ كوريوغرافي يُذكّر بمشية عارضات الأزياء. لم تنظر إليّ في ذهابها إنما عندما عادت وهي تحمل بيدها مجلة رمقتني بطرف عينيها وابتسمت… عندئذٍ ظننت اني ملكت الدنيا!

بعد نحوٍ من ربع ساعة استأذنت صاحبي وطلبت منه ان يسمح لي بالمرور لأنني أريد الذهاب الى الحمام. ابتسمت لها قليلاً في طريقي وعندما عدت توقفت عندها. بعد التعارف علمت ان اسمها نسرين وهي أردنية الأصل من عمّان. دَرَست بضع سنوات في بيروت وهي في طريقها الى لندن لأخذ دروس في اللغة الانكليزية وستسكن عند أقارب لها. جلستُ بجانبها وأخذنا نتحدّث وتركت صاحبي يُكمل كتابه!

اضحيت أرى عن قرب جمال تكاوينها وتفاصيل وجهها الذي يشعّ باكمله كلما انفرجت أساريرها! حتى عيناها كانتا تشاركان بالفرح عندما يُفرج ثغرها عن ابتسامة ترسمها شفتاها حول أسنانها البيضاء! وبالأكثر حتى ان العيبين الصغيرين في وجهها من آثار الجرح القديم في خدّها الأيسر، الى السن العلوي الأمامي المتقدّم قليلا عن غيره ما كانا الا ليزيدان جمالها رونقاً ويؤكدان انها بلحمها ودمها من روائع هذا العالم!

عندما خرجنا من المطار أعطيتها رقم الهاتف الوحيد الذي كنت أعرفه وهو رقم المكتب. وعدتني ان تتصل. أستقللنا سيارة أجرة وقمنا بأيصالها الى العنوان الذي كانت تقصده وبعدها توجهنا نحو الفندق الذي كنت انزل فيه وأكمل صديقي بعد ذلك رحلته الى الشقة التي يستأجرها. وأخذت اسأل نفسي: هل وصلت الى لندن ومعي زوّادتي؟

في اليوم التالي قصدت مكتب الشركة. استقبلني مدير شؤون الموظفين. عرّفني بنفسه “ألن سكوفيلد” ثمّ قام بتقديمي الى الموظفين. كان “ألن” طويل القامة، ذَا شعرٍ اسود، له عينان كبيرتان ويرتدي بدلة كحليّة قاتمة اللون قديمة الشكل وقد بدت عليها سنوات الخدمة من اللمعيّة التي تبدو بوضوح على قماشها. كان موديل السروال يعود الى بداية الستينات. اما عقدة عنقه فكانت كحليّة رفيعة قديمة يعود تصنيعها الى نفس الحقبة. أدخلني الى غرفته وكان ديكور المكتب خشبياً بامتياز. دعاني للجلوس على أحد المقعدين الجلديين الموجدين قبالة مكتبه بينما جلس هو في كرسيّه خلف المكتب ورفع رجليه فوق الطاولة وأصبح حذاؤه يحجب لي رؤية وجهه كاملاً ثم رفع ذراعيه وشبك أصابع يديه وراء رأسه وأخذ يحدثني ويشرح لي أمور السكن والتنقل والمكتب والى ما هنالك. كنت أصغي اليه وانظر الى حذائه الاسود الإنكليزي الشكل وبالأخص الى النعل الذي أخذ من المشي نصيبه وبدا تآكلٌ واضح أحدث به ثقباً. كنت أظن ان رفع الارجل من عادات الأميركيين وليس الأنكليز!

رافقني بعد ذلك لتناول الغذاء في احدى الحانات (Pub) وأصرّ على دفع الحساب. ثم دعاني لحفل مشاوٍ في منزله الذي يقع في احدى الضواحي خارج المدينة وذلك نهار أحد يقع بعد أسبوعين من الزمن وأخبرني انه بأمكاني أن أصطحب أية فتاة أعرفها.

ما ان اتصلت بي “نسرين” حتى دعوتها للعشاء في أحد المطاعم. أخبرتها بدعوة زميلي “آلن” فقبلت ووعدتني ان ترافقني.

في اليوم المقرر التقينا وقصدنا محطة الترام التي كانت في جنوب المدينة. قطعت التذاكر وتوجهنا نحو الرصيف الخاص بالرحلة. صعدنا الى احدى المقصورات وجلست بجانبها وأمسكت يدها. كنت في قمة السعادة!

انطلق القطار وكانت البلدة التي نقصدها تبعد نحو ثلاثين ميلاً وهي أول محطة في الرحلة. وصلنا بعد زهاء نصف ساعة ورأيت اسم المدينة واضحاً عبر الزجاج. أسرعت مع نسرين نحو أحد الأبواب وأردت فتحه ألا أني لم أَجِد أي مقبض يمكّنني من فتحه! أسرعنا الى باب المقصورة التالية لأفاجأ أيضاً بعدم وجود أي مقبض! أخذت أركض لأجد من يفسّر لي كيف أفتح الباب ولم أَصدف مخلوقاً يقول لي ما أفعل! انطلق القطار حين التقيت أحد موظفي النقل الذي أفهمني أنه عليّ أن أرفع زجاج الشبّاك وأمد يدي الى الخارج وأمسك بالقبضة الخارجية لفتح الباب! ولم يكن بأمكاني الا متابعة الرحلة والنزول بالمحطة التالية والتي كانت تبعد ستّين ميلاً أضافياً!

لدى نزولي اتصلت ب”بآلن” وأخبرته بما حصل لنا! قال: لا تزعل! سننتظركما عندما تصلان”. مكثنا قرابة ساعة على مقاعد الرصيف حتى وصل اول قطار يرجعنا الى المحطة الأولى والذي كان أبطأ بكثير من الذي استقللناه في مجيئنا. المهم اننا تمكنّا من بلوغ مقصدنا بعد قرابة اكثر من ثلاث ساعات تأخير. تناولنا الطعام في حديقة المنزل مع آلن وصديقته وذلك خلال تبقى من ساعات النهار وعدنا ادراجنا في القطار الى لندن!

عندما أخبرت زملائي في العمل عن دعوة “آلن” تعجبوا كثيراً كونه لم تكن من شيمه ان يدعو أياً كان الى تناول اية وجبة وهو المثابر على ارتداء نفس الثياب يوماً بعد يوم! المهم ان علاقتي الجيدة به استمرت طوال المدة التي قضيتها في الشركة.

عندما انتهت مهمتي قررت ان أقدم له هدية كعربون شكر على معاملته الجيدة. فكّرت كثيراً واعتمدت أخيراً على شراء عقدة عنق تتماشى مع بدلته التي لن يُغيّرها في القريب العاجل. بعد البحث وجدت طلبي وكانت ربطة عنق من الحرير الصافي ماركة “بيير كاردان” عريضة كما الموضة في تلك الحقبة وفيها رسوم وتعريقات زرقاء وكحليّة تتماشى مع لون بدلته وقدمتها له ضمن علبتها الأصلية ومغلّفة بأوراق هدية. أعجب كثيراً بها وبتصميمها وشكرني وتعجّب كيف ان الصدفة جعلت ان الوانها تتناسب مع طقمه!

وعندما وصل الى المكتب صباح اليوم التالي كانت المفاجأة للجميع عندما وجدوه وقد عقد حول عنقه الربطة الجديدة التى تشعّ بألوانها على نفس الطقم القديم الذي لم يُغيّره يوماً. أخذوا يسألونه عن تلك الربطة ويلمسون قماشها ويسألونه كيف حصل عليها وكان يجيب معتزّاً: هذه هدية من بشير!

 

 

 

قياسي

3 آراء حول “غراميّات وربطة عنق في لندن

  1. Samir Abou Saab كتب:

    شو صار بنسرين؟ أنا شو بدّي بربطة العنق.
    قصّة شيّقة جدّاً. لديك المقدرة أن تتذكّر ادقّ التفاصيل بعد كل هذه السّنين. إنّها نعمة من الخالق. إنني بإنتظار أوّل لقاء بيننا لتخبرني بالمزيد. الى الّلقاء قريباً
    سمير

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s