فيلم أجنبي في صيدا

 

كانت صالات السينما في المناطق المهمّة من العاصمة بيروت تتّسع لعدد كبير من الروّاد وبالأخص ما كان يتواجد منها في منطقة البرج او في منطقة الحمراء! واذكر ان أكبرها كانت صالة “الكابيتول” التي كانت تتّسع لأكثر من ألفي مشاهد والتي كانت على ساحة رياض الصلح وتثنيها صالة “بيبلوس” القريبة من صالة “ريفولي” في منطقة البرج!

أما صالات السينما في صيدا فكنت لا أقصدها ولا أعرف عنها الكثير بالرغم من قرب المدينة من منزلنا الصيفي والذي اصبح بعد سنين مركز إقامتنا الدائم. أما أخي صلاح فكان يتردّد على تلك الصالات من وقت لآخر برفقة بعضٍ من أبناء عمّنا!

في أحدى الأمسيات التي كانوا قد قصدوا فيها أحدى دور السينما، كنت جالساً في حديقة المنزل تحت الصنوبرة بين الأنوار الخافتة المُوَزّعة أستمع الى بعض الموسيقى المنبعثة من راديو ترانزستور. وإذ بسيارة بيضاء تصل الى ساحة المنزل ويترجّل منها شاب أشقر الشعر، نحيل القامة ويرتدي نظارات! عرفته لانه كانت تربطه صداقة بابن عمي هاني مذ كان معه على مقاعد الدراسة في “الآي سي” وكان من عائلة “يونس”. سألني:”أين هاني؟” أجبته:” في السينما مع أخي وابن عمي نديم وسيعودون بعد انتهاء العرض” أجابني:” لا أستطيع الانتظار وقد جئت خصيصاً من بيروت لأراه! هيا بِنَا الى صيدا لنبحث عنه!”

وصلنا الى شارع رياض الصلح وكانت السيارة الصغيرة التي استقلّوها، وهي من نوع “داتسون” رماديّة اللون، متوقّفة بجانب الرصيف بين صالتي هيلتون وشهرزاد. واذ لم أكن اعرف اسم الفلم الذي قصدوه، دخلت أولاً الى سينما “شهرزاد” وتوجّهت نحو شباك التذاكر وقلت للموظف ان ابن عمي يحضر الفلم وأريده لامرٍ هام. كنت أظن انه سيناديه عبر مكبر الصوت الاّ انه قال لي:” ادخل الصالة وصِح له.”

وإذ لم أكن أدري ما إذا كانوا يجلسون في قسم الصالة أم في مقصورة البلكون، دخلت القسم السفلي وتوجّهت نحو الشاشة وبعد ان درت على نفسي باتجاه الوراء أخذت انظر الى الوجوه. ومع تلاعب قوة الانارة حسب انعكاس المشهد أخذت أحدّق ملياً ولكن لم يكن بإمكاني معرفة ايٍ من الحضور.

بعد محاولتين من التقدم والرجوع دون جدوى كان لا بد من الصياح! كنت مرتبكاً للغاية فصرخت مكوّزا كلتي يديّ:”هاني!” وإذ بي اسمع صوتاً بين الحضور يجيب:”يالله طالع!” خرجت وانتظرت الاّ ان أحداً لم يخرج. أعدت الكرَّة وبدل الإجابة الواحدة حظيت ببضع اجابات وبعضها يقول:”يالله طالع ليخلص الفلم!” وذلك باللكنة الصيداوية.

حِينَئِذٍ عرفت ان الروّاد كانوا قد اعتادوا على هكذا مواقف وكانوا يجيبون بهذا الشكل عن سبيل المداعبة! بعد تكرار المناداة في البلكون ومن ثم في السينما الثانية وجدت ابن عمّي وعدنا ادراجنا!

جرت العادة انه قبل ان يبدأ عرض الفلم كان المشاهدون يستمتعون بحضور نشرة مصوّرة أِخباريّة تستغرق نحواً من ربع ساعة. كانت المشاهد في البدء تُعرض باللون الأبيض والاسود الى ان أصبحت بالالوان فيما بعد. وكان ذاك الاستعراض المصوّر مهماً في تلك الأيام نظراً لعدم توفّر اجهزة التلفزة في كل المنازل!

سنة ١٩٧٩ صدر فيلم “ذي غريك تيكون” (The Greek Tycoon)وهو الفلم الذي كان يحكي قصة الملياردير اليوناني “أرسطو أوناسيس” بالحقبة التي تزوّج فيها”بجاكلين كندي” زوجة الرئيس الراحل “جون ف. كندي”. كان الممثل “أنطوني كوين” من اقتبس شخصية “أوناسيس” بينما لعبت الممثّلة الفرنسية الجذّابة “جاكلين بيسّيت” دور “جاكلين كندي”! كان الفلم قد لقي ضجّةً عالمية وكان قد وصل الى مدينة صيدا وكان يلعب في سينما شهرزاد!

كان ذلك في اليوم الرابع لعيد الأضحى! ومن لم يعرف كيف تتحلّى صيدا في أيام العيد فهو ينقصه الكثير من المعرفة! فالساحات الفارغة على مدخل المدينة تمتلئ بما يشبه مدن ملاهي مصغّرة وبأعداد كبيرة من المراجيح! أما معالم الزينة فتظهر بشكل حبال ورقية ملوّنة تزهو في الأجواء ويداعب شراشيبها الهواء عاديك عن السلاسل الطويلة من لمبات الأِنارة المعلّقة في الأجواء والتي تعطي المدينة رونقاً لا مثيل له! اما في آخر أيام العيد فتكتظّ الشوارع بالناس والأطفال والباعة المتجوّلين!

بعد ان توصّلت بصعوبة لأِيجاد مكانٍ لأِيقاف سيارتي اتجهت مشياً بين جماهير الناس نحو سينما شهرزاد. كان المدخل يغصُّ بمن قدم لحضور الفلم. اشتريت لنفسي بطاقة وصعدت الدرج نحو صالة البلكون. كانت الصالة ملأى بالحضور واسترعى انتباهي وجود عدد غير عادي من النساء التي ترتدي الأثواب الملونة الطويلة وكن يلبسن على رؤوسهنّ خمارات تتناسب الوانها مع الثياب. فكرت انه بسبب الشهرة التى لاقاها الفلم قرّر الكثير من الرجال اصطحاب نسائهم وزوجاتهم لحضوره.

بعد المقطع الاخباري بدأ عرض الفلم. كان باللغة الأصلية الإنكليزيّة مع ترجمة باللغتين العربية والفرنسية بأسفل الصورة. ما ان بدأت المشاهد حتى سمعت في آنٍ معاً أصوات الرجال يقرأون بصوت مرتفع الترجمة النحوية التي تنساب على أسفل الشاشة مع كل مقطع! كانت الأصوات عالية لدرجة انه لم يكن بمقدوري سماع اي من الكلام باللغة الأصلية! وهكذا بقيت ضائعاً بين متابعة النص، والاصوات والمشاهد!

فهمت فيما بعد ان الكثير من النساء الكهلات كن لا يحسنَّ القراءة بالسرعة المطلوبة لمتابعة الموضوع لذا فَطِنَّ فاستحضرنَ رجالهنَّ للمساعدة!

 

قياسي

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s