ذكريات داموريّة

IMG_2679خلال سني طفولتي كنت في قمة السعادة عندما كنت امضي بضعة ايام عند جدّتي “زهيّة” في بلدة الدامور! بعد زيارتها لنا في بيروت كانت تصطحبني ونستقلّ إحدى سيارات الأجرة من موقف الدامور والذي كان يقع امام مدرسة مارمنصور القريبة من منزلنا وعلى الشارع المتفرّع من شارع سوريا. لم تكن تلك السيارات من نوع مرسيدس ١٨٠ كغيرها بل كانت أمريكيّة الصنع موديل “ستايشن” ماركة “ديزوتو” او “شفروليه”. من الخارج كان اللون الأبيض يُغطّي بعضاً من جوانبها وسطحها بينما اللون الغالب قد يكون أخضر أو أحمر او غير ذلك من الألوان. أما المقاعد فكانت بلاستيكيّة التغليف بألوان تتماشى مع ألوان السيارة وكانت بعض الشقوق قد بدأت تظهر على الفرش بسبب كثرة الاستعمال! كان الركاب يضعون أكياسهم الكبيرة في الصندوق ويجلسون في المقاعد بانتظار اكتمال العدد لانطلاق السيارة. وكانت الرحلة تبدأ بسلوك شارع بشارة الخوري مروراً بالشيّاح والشويفات عبر طريق صيدا القديم حتى نبلغ بلدة الدامور فيقوم السائق بأِنزال كل راكب امام باب داره.

ما كنّا نصل الى جوار السنديانة الكبيرة المعمِّرة بالقرب من مبنى المحكمة القديم حتى ننعطف نحو اليمين وندخل زقاقاً يتّسع لمرور سيّارة واحدة مع بعض المتّسعات التي تُمَكِّن من إركان سيارة من ناحية واحدة فقط. عند المرور أمام منشرة “إبن غنيمة” عن اليسار كنّا نسمع صوت المنشار العمودي وهو يلعلع وكان يبدو واضحاً من باب المدخل العريض! لا يمكنني ان أنسى صاحب المنشرة الذي كان يُفصِّل لي سيفاً خشبياً من لوح معاكس! وبعد قطع مسافة لا تزيد عن مئة متر بين المنازل المبنية من الصخر الطبيعي والمزروعة على طرفي الطريق كنّا نصل الى منزل جدّتي فتتوقف السيارة ونترجّل ونتّجه نحو مدخل الحديقة على يسار الطريق.

كان نصف السور الأمامي مبنيّاً من الحجر الطبيعي بينما كان النصف العلوي من الحديد المطاوع المشغول والمطلي باللون الاسود من قضبان مصنّعة على شكل حراب ومصطفّة بوضعٍ عمودي تجمع بينها مبسّطات حديديّة ملويّة بأشكال فنية. في وسط السور بوابة حديدية من نفس التصميم ولها مصراعان يفتح احدهما بقفلٍ له مزلاج وكان بالإمكان فتحه من الخارج بتسليل اليد عبر القضبان الحديدية. وكانت الياسمينة المزروعة وراء السور تخفي بعضاً من معالم البيت الذي تمّ بناؤه في بداية القرن العشرين.

كان المنزل يأخذ كامل مساحة العقار من ناحية العرض فيما عدا ما كان وراء الكراج والذي تمت إضافته في وقت لاحق والذي كان يمتد من السور حتى زاوية المنزل وكان ملتصقاً بعقار أخِ جدّتي عزيزعون!

كان الممر الذي يقسم الحديقة الى قسمين والمبلّط ببلاط رمادي يزداد عرضاً ما ان يقترب من المنزل ليصبح باحة عريضة تستعمل للجلوس في أوقات العصر والمساء. وكانت تظهر معالم واجهة البيت المبنيّة بالحجر المنقوش الأبيض والتي كان يُكلّلها سقف قرميد أحمر كما ان الشبابيك الخشبية العالية الإرتفاع والموزّعة بتوازن من ناحيتي باب المدخل القديم والمصنوعة من الخشب القطراني كانت تشعُّ برونقها الفريد وبالأخص بوجود دُرف “الأباجور” الخارجية والتي باخ لونها مع الزمن دون ان تعكّر جمالها عوامل الطبيعة!

أما عن قسمي الحديقة فكانت شجرة صنوبر عمرها يُعدُّ بالعقود تتوسَّط القسم الأيسر بينما شجرة ليمون كانت قد زُرعت في القسم الأيمن بالقرب من بركة الحديقة المثمّنة الأضلاع والتي كانت مالسة الجوانب وتتوسطها نافورة مياه ترش ماءها عبر ثقوب في رأسها المستدير بينما كانت بضع سمكات حمراء تسبح في مياه قاعها. ولي ذكريات مع تلك البركة حيث كانت تغطُّ على حافتها حشرات اليعسوب وذات الألوان الحمراء والارجوانية والتي تشبه بجسمها وجوانحها طائرة الهليكوبتر المروحيّة! كنت أنجح أحياناً بالتقاط إحداها بإمساكها من ذنبها الرفيع عندما تحطّ على الحافة.

كانت الحديقة ملأى بالأزهار المتنوّعة منها الورد الجوري والقرنفل وتم السمكة والزنبق كما المرجان والذي كانت أزهاره بشكل أبواق رفيعة حمراء! أما رائعة الحديقة فكانت في وجود شجرتين لم أرَ مثيلتيهما في حياتي! كانتا شجرتي ورد بلون ابيض مكسور نميتا كلٌّ من ناحية من الجنينة حتى بلغ علوها ما يوازي الثلاثة أمتار وكان جزع كل واحدة يوازي جزع شجرة عادية بذاك الحجم! وكان جدّي قد أعلمني انه نجح عبر تقليم مستمر للأضلاع بان يجعل كل الخصوبة تنمو عبر جزع واحد!

ما ان تدخل المنزل حتى ينفتح قلبك مع نظرك على صالة كبيرة سقفها عالٍ يدخلها النور من ناحيتين: عبر شبابيك الواجهة الشرقية كما عبر شبابيك الواجهة الغربيّة التي تحتضن باب المدخل. كما كان يدخل بعض النور عبر أبواب غرفتي النوم الموجودتين عن يمين القاعة. كما يأتي بعض الضوء الضئيل عبر بابي الصالون الرسمي وغرفة الطعام الموجودين على اليسار. كان الديكور مزيجاً من التقليدي و”الآرت ديكو” بما في ذلك الفرش الخشبي والمنجّد بقماش يحوي الكثير من الأخضر في ألوان قماشاته، والثريّات ذوات القناديل الزجاجية المزخرفة والمزيّنة بسلاسل الكريستال، وذلك دون ان ننسى البرادي والسجاد العجمي والصور التذكارية الكبيرة!

للوصول الى دورة المياه كان لا محالة من المرور عبر غرفة الطعام ثم صعود درجتين واجتياز المطبخ وعبور ممر امام غرفة الغسيل! كان المرحاض من النوع الإفرنجي ولم تكن قد درجت بعد موضة استعمال ورق التواليت بل كان يستعاض عن ذلك بتمزيق ورق الصحف بشكل مربعات وإحداث ثقبٍ في الرزمة لتعليقها برأس شنكل حديدي معكوف على شكل صنّارة ومثبّت على الحائط بواسطة لوح صغير من الخشب! وكان من الممكن ان يستمتع الجالس لقضاء حاجته بقراءة بعض ما عُلّق على الشنكل!

كان لغرفة جدّتي وجدّي شبّاكان اثنان، الأول من الغرب والثاني من الجنوب. وكان الفرش من نوع الموبيليا الخشبيّة التي تلمع وكان لكلٍ منهما سريره وكومودينته وكانت خزانة كبيرة من نفس الخشب تزين الحائط كما كانت توجد خزانة التسريح والتزيّن مع مرآتها الكبيرة على يمين باب الغرفة. وكان الملفت للنظر وجود عدد كبير من حناجير نيليّة اللون وبغطاءات كروميّة وبأحجام مختلفة صُفّت بالتدريج وكانت كلّها من نوع “سوار دي پاري ” Soir de Paris

كان جدّي معتدل القامة، ابيض البشرة، نحيل الجسم، شعر رأسه خفيف ويسرّحه من اليمين الى اليسار. كان قليل الكلام، يأكل القليل ولا يحب اكل اللحم اذ كان يفتح وسط الكوساية المحشية لانتقاء فرمات اللحم ووضعها على جانب الصحن. لم أرَه غاضباً يوماً! واذ كان يأوي الى فراشه باكراً كان إذا رضي عنّي يبتسم ثم يفتح درفة الخزانة الخاصة به ثم يسحب من رقبته خيط مصّيص كان قد علّق فيه مفتاحاً من النوع القديم ثم يفتح الدرج الأعلى في وسط الخزانة ويخرج علبة كرتونيّة مربّعة عليها رسومات وكتابات بلون أحمر ثم يفتح غطاءها ويقدمها نحوي لأنتقي منها حبّة من “راحة الحلقوم”.

كان خالي آمال ينام في الغرفة الموازية لغرفة جدّتي وجدّي. اذكر في تلك الغرفة السرير النحاسي وروزنامة معلّقة على الحائط المواجه تحوي جمالات نساء العالم حسب بلادهنّ وكان كل شهر يحوي صورة فتاة جميلة من قطر مختلف ترتدي زي بلادها وأذكر منها الحُسْنَ الفارسي!

اما انا فكنت انام على صوفا مغطاة بسجادة أعجمية كانت تحت الشباك على يسار باب المدخل. كانت جدّتي تستعملها للقيلولة او للنظر من الشباك على من كان يمر في الشارع. لم تكن تزعجني رائحة الفساء التي كانت تنضح من السجادة التي كانت تحت الشرشف الذي كنت انام عليه. وقد ينزعج بعض القرّاء اذا قلت اني حتى يومنا هذا ما ان اشتمّ رائحة كولونيا “شانيل 5” فإني اعود بذاكرتي الى تلك الصوفا! وكنت أراقب من موقعي جدي وجدتي يحضران برنامج “ابو ملحم” مساء كل ثلاثاء على تلفزيون “جراندك” الذي كانت تقوم الخادمة بتقريب خزانته حتى مدخل الغرفة!

وللموضوع تتمّة…

قياسي

4 آراء حول “ذكريات داموريّة

  1. Samir Abou Saab كتب:

    Cher Bashir,
    Tu as le don de sortir le moindre détail même quand il s’agit de souvenirs de plus de
    cinquante ans.
    J’ai essayé de faire un petit test, j’ai réussi à me rappeler de beaucoup de souvenirs de Damour et de quelques amis d’enfance mais pas les petits détails de notre maison ou de ceux de ma grand mère.
    En attendant la suite que tu nous a promise, je te dis BRAVO
    Samir

    • سأقوم قريباً بتدوين المزيد من ذكرياتي في الدامور علّني أتمكن من إعادة ألذكريات الحلوة لمن خال لهم انهم أضاعوها بسبب مرور الزمن! وشكراً على تعليقك الجميل يا عزيزي سمير!

  2. Elie Kassissia كتب:

    ١٠ عَلى ١٠ يابَشير. اسلوب جميل و سَلِسْ ، هل تتذكر ماذا قراءت فى مربعات ورق الصُحف المَثقوبه ؟

  3. الهامى فرج كتب:

    حدث شيق ممتع تصوير دقيق المكان والزمان مع أنى لم ارى لينان ولكن بعد الانسياق فى هذا الوصف اشعر إنّو زرت هذا الدار و تلك البلده وفِي انتظار البقيه

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s