تقييم المرء حسب ملبسه

 

IMG_2636-1

وإن انقرضت عقود مذ كنت في سن المراهقة الاّ أني أذكر تلك الأيام وكأنها لم تمضِ الاّ من عهدٍ قريب! نشأتُ في وسط بيروت، تلك المدينة التي عرفتها بشكلٍ يختلف تماماً عمّا تعرفه الأجيال التي تلت جيلي!

كانت الحياة ساذجة وبسيطة. كانت الخضار والفاكهة تُستهلك في مواسمها فقط بينما تنقطع من الأسواق طوال ما تبقّى من ايام السنة فنلجأ الى المكدوسات والمربّيات والرُب والى ما هنالك مما تمّ تخزينه من منتوجات جرى اعدادها عبر وصفات متوارثة من أجيال تُمَكِّن من حفظ المنتوج الى مددٍ زمنية طويلة.

اما في المنازل فلم تكن طرق الحياة قد “تأمركت” بعد. كانت كلّ وحدة سكنية تحصل على اشتراك مياه حسب مقدورها وحاجتها. وكان التزوّد بربع متر مكعّب في اليوم يكفي عائلة مكوّنة من ستة أشخاص. وكانت مياه البلديّة تصبُّ في برميل حديدي مكشوف رُكّز على تتخيتة الشُّقَّة وزُوّد بفوّاشة تمنعه من ان يفيض بمائه. اما غرفة دورة المياه فكانت تحوي مرحاضاً عربيّاً يُقرفص فوقه من يريد قضاء حاجته. بينما الغرفة الصغيرة التي كانت تستعمل للاستحمام والغسيل فكانت مستقلة. ارضها من بلاط موزاييك مجلي تُزيّن سطحه قطع صغيرة ملوّنة من الحصى منها الأبيض والبنّي وتتوسّط المساحة مصفاة أرضيّة لتصريف المياه. وكانت المياه الباردة وحدها تتفرّع عبر مواسير حديدية لتصل الى حنفيّات موزَّعة في المطبخ والحمّامات. أمّا المياه الحارّة فكان يتمّ تسخينها عند اللّزوم في القازان ( مسخّن المياه) الموجود في غرفة الحمّام وذلك بإشعال “الناريت” والذي كان عبارة عن اكياس ورقيّة تحوي نشارة الخشب ممزوجة بفيول اسود يسهّل الاشتعال.

لم تكن عادة الاستحمام اليومي قد وصلت بعد بل كان الاغتسال مرة في الأسبوع كافياً لمعظم افراد العائلات! في منزلنا كان ذلك يتمّ مساء الخميس. كان كلّ فرد يأتي دوره يدخل الحمام ويلبس القبقاب الخشبي بعد خلع ملابسه ثم يَصبّ ماءً باردة في اللكن النحاسي ويزيدها بضع كيلاتٍ من المياه الساخنة لتصبح فاترة ثمّ يجلس على الطبليّة الخشبيّة ويأخذ اللّيفة الخاصة به والصابونة البلديّة المصنوعة من زيت الزيتون ويبدأ عملية الاستحمام بسكب بعض من المياه الفاترة على جسمه بواسطة الكيلة النحاسية!

في ايام الشتاء الباردة كنّا بعد الحمام نلتف حول منقل الفحم النحاسي التقليدي طلباً للدفء ثمّ نتربّع بعد ذلك على بساط ملون حول طبق القش المستدير والمحاك يدوياً والمزخرف بالالوان وذلك لتناول وجبة العشاء.

خلال الموسم الدراسي كان سروال واحد يفي بالحاجة طوال موسم الدراسة اما الحذاء فكان يخدم مدة أطول بإضافة نصف نعل او كعبيات عند الإسكافي (الكندرجي) وذلك يتكرر حتى يهترئ الملبوس بأكمله. اما سترات الصوف (الكنزات) فكانت تحوكها الأمهات إذ كانت تتبضّع الصوف من أسواق “المعرض” في وسط المدينة وذلك بشكل لفّات كان على احدهم ان يبسط ذراعيه ليفتح اللفة بينما يقوم الآخر بلفّ الخيط بشكل كبكوب كروي الشكل. داومت على ارتداء تلك الستر الصوفية حتى قاربت الثامنة عشرة من عمري عندما اشتريت لنفسي اول كنزة صوف مصنّعة ميكانيكياً!

ولم يكن هناك تمييز بين التلامذة من ناحية المظهر إذ لم يكن الملبس ليدلّ على اي مركز اجتماعي! كانت الطبقة الوسطى تغلب على غيرها من ناحية العدد وكأنَّ الجميع كانوا سواسية!

لدى التحاقي بكلية الهندسة لم تكن قد وصلت بعد موضة لَبْس سراويل الجينز وكيف بالأحرى الممزّق منها كما نجد عند الكثيرين الذين يرتادون الجامعات اليوم! كان الطلاب يلبسون ثياباً مرتّبة وان لم تكن كلها باهظة الكلفة. ولم يكن مستهجناً ان يرتدي الطالب بدلة مع ربطة عنق!

أخذني والدي الى ” سوق الطويلة” لشراء قماش اول بدلة أُخيطها لنفسي. دخلنا الى محل يعرفه. كان متخصّصاً ببيع “الكوبونات” وهي القطع المتميّزة في نقشتها والتي لم يكن وجودها مبتذلاً في المحلات المنافسة. لما رآني صاحب المحل نصحني “بكوبونة” فريدة من نوعها من ماركة “دورميل” Dormeuil). كانت عبارة عن بدلة “سبور” مؤلّفة من قطعتي جوخ مختلفتين واحدة للجاكيت والثانية للسروال وتتناسقان معاً. كان جوخ البنطلون من النوع الناعم لونه زيتي غامق بينما كان قماش الجاكيت اسمك من الأوّل وبلون زيتي فاتح تقطعه مربعات عريضة مرسومة بخطّين رفيعين متلاصقين لون الاول نبيذي بينما الثاني من نفس لون البنطلون. أعجبت جداً بما عرضه عليَّ وقمنا بالشراء وكانت فرحتي لا توصف! ما كان عليّ الاّ ان اجد الخيّاط المناسب!

نصحني والدي “بخيّاط شيك” الأرمني الذي كان محلّه في منطقة “راس النبع” على خط “فرن الشباك” وكان والدي من قدامى زبائنه. قصدت المكان وبعد ان فتحت الباب الزجاجي وضعت القماش على المنضدة الزجاجية وبادرت بالسلام. لم أحظَ بأي رد من الخياط الذي بدا في العقد الخامس من العمر، بدين الجسم، شعره الأسود بات خفيفاً في منتصف راْسه ويرتدي نظارات سوداء مستديرة العدسات وكان يقف بمواجهة طاولة خشبية وكأنه يُفصَّل قطعة قماش. أعدت السلام بصوتٍ عالٍ فالتفت نحوي وتقدم بضع خطوات نحو المنضدة. عرّفتُه بنفسي وأخبرته باني ابن كمال القزي، ثم رفعت القماش بيدي وأخبرته اني اريد تفصيل بدلة. بحلق بالقطعة وسألني: “لمن؟”. أجبت : “لنفسي”. نظر إليّ متفقّداً جسمي النحيل من أعلى الى أسفل ثم قال بلكنة أرمنيّة: “بابا، أنا ما بخيّط منشان انت!” سألته لماذا؟ أجاب: “أنتَ بيريد موديل مودرن وكمان بدّو بنطلون بات ديليفان (pattes d’éléphant )! عجزت وانا احاول إقناعه باني مستعد للقبول بما يفصّله الاّ انه اصرّ على الرفض. فما كان مني الاّ ان عُدتُ أدراجي وبعد استشارة اقرباء قصدتُ خيّاطاً آخر كان مشغله في بناية “ستاركو”.

بعد البدلة المفصّلة جاء دور الحذاء. توجّهت نحو محلات “رد شو” في منطقة “باب ادريس”. وُلعت بحذاء من النعل لونه نبيذي من نفس لون الخطوط الرفيعة المجودة على مربعات الجاكيت بينما شكله كان يشبه ما يسمّى “سْبكتيتور”. لم أتردد كثيراً وقمت بدفع الثمن.

عند استلامي البدلة الجديدة خصّني والدي بربطتي عنق من الحرير الأصلي كان قد تلقاهما كهدية من احد أصدقائه. كانت كل واحدة تمتاز عن الاخرى بالالوان والنقوش التي لم يوفر المُصمّم اي جهد لإبراز مقدرته على الإبداع ! كانت كلّ ربطة مغلّفة ضمن علبة كرتونيّة أنيقة وعلى الغطاء اسم المُصمّم الفرنسي الشهير “جاك فات”!

خلت نفسي عندما ارتديت البدلة لأول مرة وكأني أخطو فوق الغيوم! كنت لا أشعر بحذائي
يلامس الارض! لما وصلت الجامعة بدا الكثير من زملائي ينظرون اليّ بطرف عينهم! اما بعض الفضوليين فكان يتقدم نحوي احدهم ويقول “ما اجمل هذه الربطة!” ثمّ يُمسكُ بطرفها ويقلبها ليرى اسم المصمم ويقول بإعجاب: “آه! جاك فات!”

اما بعد ايام من التبديل بين الربطة الاولى والثانية كان من اللائق ان أغيّر وأرتدي ربطات عنق جديدة! ولم يكن بمقدوري ان اشتري بما هو من نفس المستوى! وبعد السؤال توصلت الى التعرف على احد المشاغل في بناية “اللعازاريّة” القريبة من منزلي! كان يبيع بالجملة والمفرّق ربطات العنق وكان يفصّلها من أثواب حريريّة ملوّنة يستحضرها من الخارج مع حق وضع وسم مصمّميها الذين كانوا اقل شهرة من “جاك فات”! تبضّعت بضع ربطات وكانت تباع بأسعار متهاودة!

في اليوم التالي عقدت احدى الربطات وذهبت الى الكلّيّة! فاجأني احد الفضوليين مجدّداً وقلب طرف العقدة بإعجاب ثم قال:”آه! جاك دنيز!” وكان الاسم الموجود على “الإتيكات”. المهم اني تعلمت ان الكثيرين في البدء يقيسون مستواك الاجتماعي بقيمة ما ترتديه ثم متى وضعوك في خانة معيّنة يقيسون ما ترتديه بالفكرة التي كانوا قد كوّنوها عنك!

 

قياسي

8 آراء حول “تقييم المرء حسب ملبسه

  1. عماد كتب:

    يا ثلج قد هيجت اشجاني ذكرتني بأهلي في لبنان

    قصدت من وراء هذا البيت لا الثلج ولا الأهل ولكن الوصف الدقيق للمرحلة التي عشناها نحن أبناء ذاك الجيل مع ما تحمله من ذكريات جميلة عندما كان معظم الناس من ذات الطبقة الاجتماعية.

    احسنت وصفا ودقة صديقي العزيز

  2. سمير أبو صعب كتب:

    صديقي بشير، كالعادة أتحفتني بدقّة الوصف وسرد الوقائع
    قرأت هذه التّدوينة فحسبت نفسي أمام شاشة السّينما أستعيد من خلال هذه الوقائع ذكريات الماضي البعيد لأنّني
    كنت قد نسيت الكثير من التفاصيل

    وقد تكلّمتَ عن الخيّاط لا أعلم إذا ما كنتَ تتذكّر هذه التّفاصيل
    كان خيّاط القمصان يقدّم لك مجّاناً قبّة وزنود إضافيّة يمكن أن تستبدل بها تلك البالية
    أما في ما يتعلّق بالحذاء فكان بإمكانك أن تطلب من الكندرجي أن يثبّت لك ما كان يسمّى ميّالات حتّى تحافظ على النّعل لمدّة أطول.
    يمكنني أن أقول رزقالله على كل ما ذكرتَ
    لكن لولا التطوّر الصناعي والتّكنولوجي لما تمتّعنا بما نحن فيه الآن من رفاهيّة وسهولة في التواصل ولكنتُ مضطرّاً أن أذهب في هذا المساء المثلج لأسلّمك هذا التّعليق باليد
    صديقك سمير أبو صعب

    • شكراً لك يا صديقي العزيز سمير على هذا التعليق الجميل وتصديقاً لكلامك أورد لك أجابتي على تعليق للسفير مسعود معلوف وكنت دوّنته على صفحة الفيسبوك :
      “وددت ان آصف أيضاً “المّيالات” الحديدية التي كانت تذكّر بنضوات الحصان والتي كانت تّثبّت بواسطة مسامير رفيعة على طرف الكعبيّات او حتى على مقدّمة نصف النعل والتي كانت تحمي النعل من الذوبان! كان من يسمع الخطى يظنّ ان دابةً ما تمشي على الطريق! إنما خوفي من الإطالة بالموضوع جعلني اختزل بالشرح حتى لا يمل القرّاء …”

  3. Joseph daoura كتب:

    Salut Bachir…la description détaillée des faits nous ramène dans un monde serein et riche d’expériences que notre génération a vécu avec attachement et passion. ton style captivant..fluide..et garni du sens des détails vécus l’élève au rang des écrivains célébres..je nomme..Maroun Abboud dans son génie de décrire la vie quotidienne dans les villages libanais .. et dans une autre dimension et mesure..l’écrivain de l’académie française..Henri Troyat qui excella dans les détails des biographies et des moments historiques en Russie…bravo..continue à nous transposer dans la vie d’antan…notre vie qu’on bien vécue au Liban et que nous gardons à jamais dans notre conscience collective..

    • الف شكر لك يا صديقي وعزيزي على هذا التعليق الرائع وعلى هذه التعابير المنسّقة! قد لا أكون استحق كل هذا الإطراء لأني أروي واقعاً عشته منذ سنين ولم أقدّر أهمّيته الا بعد فقدانه! كانت هذه ذكريات الوطن الذي أحببناه والذي لم يخطر ببالنا في حينه اننا سنمضي بقية عمرنا في بلاد تبعد آلاف الاميال عنه!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s