كنت في السنة الثانية لاستقراري مع عائلتي الصغيرة في مدينة مونتريال عندما قررت مع صديق لي ان نبني منزلين متلاصقين لعائلتينا في منطقة “بييرفون”. وكالمثل القائل “رُبّ أخٍ لم تلده لك أمّك” كانت وما زالت تربطني بصديقي نبيل صداقة تعود الى أيام دراستنا في الكلّية العليا للهندسة في بيروت التابعة للجامعة اليسوعيّة.
بعد إنقلاب “الأحدب” في لبنان بتاريخ ١١ آذار ١٩٧٦ وبعد انقطاعي عن التواصل مع أهلي والذين كانوا يتواجدون في المنطقة الغربيّة، اضطررت للمكوث بضعة أسابيع لدى منزل ابنة عمّي هلا وزوجها شاكر في مدينة “زوق مكايل” الكسروانيّة.هناك التقيت بنبيل مجدداً وكان يسكن في بلدة صربا. كان احد افراد عائلة كريمة مؤلّفة من الوالدين وعشرة أبناء وبنات يعيشون في منزل متواضع في منطقة الكسليك. للدلالة على البيت في بلد لا توجد فيها ارقام للمنازل كان يكفي الإشارة الى انه الباب الذي كان مفتاحه مغروساً في ثقبه على الدوام. فلم يكن على القادم إلا أن يفتح لنفسه الباب ويدخل! جميع الأولاد أفلحوا في دروسهم بفضل تربية الوالد الكسرواني الى جانب الوالدة الماردينيّة الأصل.
التقينا بعد ذلك في الرياض حيث كان لكلٍّ منا عمله، ثم بعد ذلك في فلوريدا حيث قام بزيارتي وحثّني عَلى المجيء الى مونتريال فحططت فيها رحالي بعد أشهر وجعلت منها موطني الجديد!
ولنعد الى موضوع بناء المنزلين وإذ كنّا في لقاء بين عائلتينا في شُقّة كان يسكنها في منطقة “سان لوران” غمز صاحبي بعينه واقترب منّي وهتف بأذني وهو يُخفي جانباً من فمه حتى لا يسمعه أحد: “هيّا معي لنذهب لشرب قنّينة بيرة”. قلت: “الى أين؟”. أجابني: “سأُعلِمُك في الطريق.”
كانت الشمس قد قاربت على المغيب في ذاك اليوم من أوائل شهر أيار (مايو). تذرّعنا لنسائنا بأننا بصدد الاجتماع بنجّار معماري وطلبت من زوجتي أن تصطحب ابنتنا وتعود بالسيارة الى البيت. أما زوجة نبيل فطلبت منه ان يشتري ربطتي خبز في طريق العودة.
استقللت مع نبيل سيّارته التي كانت سوداء اللون من نوع هوندا “آكّورد” وانطلقنا. اخبرني اننا نقصد ملهىً للراقصات في منطقة “بوانت كلير”. في الطريق توقّفنا على شارع “سان جرمان” لنأخذ معنا صديقنا “أبو الزوز” إلاّ انه لم يكن قد عاد بعد من عمله. أكملنا الطريق حتى وصلنا الى المكان المقصود.
دخلنا الى داخل القاعة وسط صوت الموسيقى المرتفع والديكور الأخاذ والألوان الجذابة وأجهزة الإنارة التي منها الخافت ومنها المسلّط. ما ان جلسنا حول طاولة صغيرة مستديرة الشكل قريبة من المسرح حتى جاءت احدى المضيفات وسألتنا عمّا نريد ان نشرب ثم اتجهت نحو البار لتحضر ما طلبناه بسرعة البرق وتستوفي الثمن. أخذت استطلع ما كان حولي فكان عدد لا يستهان به من الرجال قد تسمّروا على طاولاتهم وقد أتوا آحاداً او مجموعات صغيرة مؤلفة من اثنين او اكثر. اما الفتيات فكنّ كلهن جميلات ويرتدين ما كاد لا يخفي من أجسادهن الا القليل. وكانت أجسامهن متناسقة وكأن تضرّسات مفاتنهنّ رُسمت بإبداع مابين محيط الصدر ونحالة الخصر وبروز الأرداف. وإن اختلفت أشكالهن ومقاساتهن إلاّ إنهن كنّ كلّهنّ جميلات كما نرى في حديقة زرعت بأزهار مختلفة بينما كلها جميلة وجذّابة. وكانت بعض الفتيات تتنقل حاملة منصّة معدنية خفيفة لتعتليها عندما ترقص امام احد الزبائن مقابل مبلغ خمسة دولارات للأغنية الواحدة.
صعدت المسرح إحدى الراقصات وهي تتمخطر مع كل خطوة لتؤدّي وصلتها. كانت ترتدي قبّعةً بيضاء فوق شعرٍ أشقر يلوح مع كل حركة ونظارات شمسية كبيرة سوداء تتزيّن بوجهها الناصع البياض والأنف المتناسق والشفاه التي لوَّنها الأحمر الذي اختارته فظهرت وكأنها لوحة دعائية تُعلَّق على الجدران في محلات الماكياج النسائيّة. كان عامود نحاسي يتوسّط المنصّة وكانت الأضواء تسطع نحوه.
أمسكت العامود النحاسي بيدها اليمنى فبانت أناملها الجميلة وأظافرها الطويلة والمصبوغة بنفس الأحمر الذي يُزيّن شفتيها واخذت تتماوج وترقص مع الموسيقى وبدأت تتخلَّى عن ملابسها الحمراء والزرقاء قطعة وراء الأخرى مع كل نغمة كاشفة المزيد من جمال جسدها وبشرتها الناعمة الحريرية إنما متمسكة على الدوام بحذائها النسائي الأحمر ذي الكعب العالي. وفِي آخر المطاف أهدرت الستارة عن كنزيها فبديا وهي منتصبة امام العامود وكأن كل كنزٍ يواجه جمهوره!
بعد ان صفّق لها الحاضرون، طلب مني نبيل ان أتصل بالهاتف “بأبو الزوز” وأطلب منه ملاقاتنا الى الملهى! فهذه المشاهد هي شيء لم نعهده بعد، نحن المشرقيّون!
وفِي زمنٍ لم تكن توجد فيه الخليويّات توجّهت نحو الهاتف العمومي والذي تضع فيه قطهة ٢٥ سنتاً ثم تطلب الرقم. أما “أبو الزوز” فكان جهوري الصوت، رياضيّ المظهر، طويل القامة، له شاربان كثيفان يكادان يغطّيان شفته العليا تحت أنف يدل على شخصيته المميّزة. تخيّلته جالساً باعوجاج على الكنبة البيج العريضة وقد وضعت له زوجته أنواع الطعام التي اعدّتها على طاولة الصالون الخشبية وهو يشتفّ كأساً من الويسكي محاطاً بكلٍ من زوجته، وبناته الثلاث، وأمه وأخته اللتين كانتا قد حضرتا من البلاد لقضاء شهرٍ في ضيافته.
طلبت الرقم وإذ “بأبو الزوز” يرد: “آلو، مين عم يحكي؟”
قلت له: “بشير”. قال: “بشير؟ أش هالضجّة عندك؟” وكان يسمع الموسيقى الصاخبة في الملهى. فسكتُّ.
ثم قال بصوت مرتفع: “بشير، انت مع من؟” أجبته : “انا مع نبيل”. قال: “مع نبيل؟” قلت:”نعم”
ثم سأل:”إنتم وين؟” أجبته:”على بولفار هايموس”. ردّ ورائي بصوت مرتفع:”بولفار هايموس؟”. قلت: نعم
ثم سأل مجدداً: “شو اسم المحل؟” أجبت:”لا سورس دو سكس”. ردد ورائي:”لا سورس دو سكس؟”. “La Source du sexe”
عندئذٍ تمنّيت لو ان الأرض تبتلعني لان “أبو الزوز” فضحنا أمام النساء! ثم قال: “انا اليوم تعبان وليس بمقدوري ان الاقيكم!”
عدت الى مقعدي وقد احمرّت أذناي واصفرّ وجهي ولم أعد استطيع الكلام او مشاهدة ما يجري حولي.
وعندما رجعنا الى منزلينا كانت النساء قد تخابرت فما كان علينا الا ان ندفع غالياً وعلى أسابيع ثمن مغامراتنا المشؤومة!
“أَمَّا ٱلشَّهَوَاتُ ٱلشَّبَابِيَّةُ فَٱهْرُبْ مِنْهَا، وَٱتْبَعِ ٱلْبِرَّ وَٱلْإِيمَانَ وَٱلْمَحَبَّةَ وَٱلسَّلَامَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ٱلرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ.”
تِيمُوثَاوُسَ ٱلثَّانِيةُ 2:22
صديقي بشير
أظن أن المغامرة الّتي قمت بها مع صديقك نبيل لا تستحق هذا “القصاص” خاصّة إذا كانت كما زعمت، المرّة الأولى
كثير من الّلبنانيّين قاموا بهذه الزّيارة العزيزة على قلوبهم، وكانت تحصل تلبية لرغبة أحد الأصدقاء الوافدين من لبنان. منذ عشرة أعوام، زارني أحد الأصدقاءآتياً من لبنان، كنت في استقباله في المطار وفور خروجه من حرم المطار، وبعد الإطمئنان عن الصحّة chez paré سألني متى سنذهب الى
فطمأنته خيراً ووعدته بالزّيارة. في المساء أخبرت زوجتي بالأمر وقلت لها: صراحةً، هيدي آخر شغلة طالع عابالي أعملا، ما بحب روح على هيك محلّات فما كان منها إلّا أن شجّعتني قائلةً: يلّلا ما عليش روح معو حرام شو إنت كل يوم عمبتروح. لا أعلم إذا كان في جوابها براءة أم لا. قمنا بهذه الزّيارة وعند رجوعي إلى المنزل أخبرتها بأن المناظر فعلاً مقرفة ولا تستحق هذه الدّعاية. نسيت أن أذكر لك بأنّ صديقي كان يبلغ من العمر السّابعة والسّتين وعلمت لاحقاً أنّه كان يذهب بإنتظام طيلة زيارته إلى مونريال ( كان يذهب وحيداً )لأنني رفضت أن أرافقه مرّة ثانية. لو كنت أعرفك في ذلك الحين لكنت علّمتك هذه الحيلة ووفّرت عليك القصاص.
بكل محبّة
سمير أبو صعب
بالحقيقة يا صديقي سمير كانت هناك بعض المفارقات بالنسبة لما تفضلت بذكره:
أولاً- كنّا في ذلك الوقت في ريعان شبابنا وكنا بعيدين عدة عقود عن عمر صاحبك.
ثانياً- كانت تجربتنا الاولى في تلك الملاهي ولم نكن ننتظر ما شاهدناه.
ثالثاً- لم تكن المشاهد مقرفة قط بل على العكس من ذلك ولم يكن بوسعنا حتى الكذب بأنها لم تستحوذ على إعجابنا.
رابعاً- ذكّرتني بتلك النكتة التي تروي قصة ابو العبد الذي أخذ يبصق في الارض عندما شاهد هكذا مناظر فسأله احدهم: هل تبصق على ما تراه؟ فأجاب : لا بل ابصق على ما عندي ( هذا مع بعد الشبه عن واقعتنا هذه لأن نساءنا كنّ وما زلن حتى الساعة من الجميلات)