كلُّ امرئٍ يعبر تجارب خلال فترة نشأته تجعله أكثر تحضّراً وتأهلاً لمواجهة الحياة المستقبليّة التي تنتظره بدروبها الملتوي
عندما وصلت في دراستي التكميلية الى صف “البريفيه”، وكان ذلك في منتصف الستيناتمن القرن الماضي، قام والدي بتسجيلي وأخي صلاح في تكميليّة عين الرُمَّانة الرسميّة والتي كان يديرها الأستاذ مخايل داغر المتحدّر من بلدة مجدلونا في إقليم الخرّوب والذي كان يسعى جاهداً لجعل مستوى مدرسته يوازي ما كانت تتميّز به المدارس الخاصة. وأذكر ممن قاموا بتعليمي الأستاذ “بركات” للّغة الفرنسية، أما بالنسبة للرياضيات والعلوم فقد كان للاستاذ “حنّا يونس” فضل كبيرفي دفعي للتفوّق في هاتين المادّتين رغم انه كان يلدغُ بحرفين او أكثر كلّما تكلّم
ولا يمكنني أن أعود لتلك الحقبة دون أن أتذكّر واقعةً صغيرة علّمتني ألّا أستعجل في الكلام. فبعد ان تصادقت وأحد تلاميذ صفّي وكان يدعى أنطوان، كنت برفقته في الملعب خلال فرصة الساعة العاشرة. وما كنت استطلع ما كان حولي حتى وقعت عيناي على شاب كان يلعب مع رفاقه في احدى زوايا الملعب. كان نحيل الجسم، مقوّص الظهر، شعره الأشقر مكرب المظهر بعد ان معكته الوسادة التي كان قد نام عليها. أمّا عيناه الزرقاوان فكانتا تبدوان أكبر من حجمهما الطبيعي وراء العدستين السميكتين المركبتين على إطارٍ بُنّي. اما بشرة وجهه البيضاء فكادت تختفي بين حبيبات الصِّبا الحمراء وشعيرات الوجه المبعثرة. أما شفتاه المشقّقتان فكانتا تُفرجان عندما يبتسم عن أسنان كبيرة غير متناسقة وفيها بعض من الإصفرار! نظرت الى صديقي بجانبي وقلت له: “ما أبشع هذا الشاب!” أجابني وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تراوحت بين الانزعاج والإستسلام للواقع ثم قال لي:”هذا أخي!”. صُعقت بما قال وما زلت حتى اليوم لا أسامح نفسي عمّا تفوّه به لساني في تلك اللّحظة
وإذ كنّا نسكن وسط مدينة بيروت كان علينا االمجيء من البلد الى المدرسة في الصباح والعودة في آخر النهار. في تلك الأيام كان ترام بيروت الشهير قد أُحيل على التقاعد ليحلّ مكانه أوتوبيس الدولة وكانت كلفة الرحلة ١٥قرشاً إلا أنه لم يكن يصل الى جوار المدرسة. والخيار الثاني كان استعمال سيارات الأجرة (تاكسي مشترك) وكانت كلها سيارات من نوع مرسيدس ١٨٠ والتي كان لها الفضل الأكبر في رفع اسم تلك الشركة في السنين التي تلت من ناحية جودتها ومتانة صناعتها. وكانت كلفة نقل الراكب الواحد ٢٥ قرشاً
اما الخيار الثالث الذي انتقيناه فكان “بوسطة عين الرمانة” وهي لا علاقة لها بالبوسطة التي حملت نفس الإسم خلال الفاجعة التي وقعت في نيسان ١٩٧٥ وكانت الشرارة التي أشعلت الحرب الأهلية في لبنان. كانت تكلفة الراكب ١٠ قروش وكان موقف الإنطلاق يبعد مئات الأمتار عن البناية التي كنّا نسكنها. والأهم من ذلك ان خطّ مسارها كان يُعرّج من امام المدرسة التي كنّا نؤمُّها
كما اسلفت في مقال سابق كنّا نسكن في شارع المستشفى الفرنسي الذي تمّ بتره بعد ثورة ١٩٥٨ بإنشاء جادة فؤاد شهاب والتي سُمِّيت فيما بعد “بالرنغ”. علماً ان أخي صلاح يصغرني بثلاث سنوات وعدة أشهر كنّا نترافق يومياً الى ومن المدرسة. كان والدي يعطيني خمس ليرات كل أسبوع لتغطية كلفة تنقّلنا وبعض مما كنّا نستحلي شراءه من وقت لآخر ككوب ليموناضة او قرن بوظة لكلٍّ منا من عند الدكّنجي القريب من المدرسة والذي كان زحلاوي الأصل
في مدخل البناية التي كنّا نسكنها كان سمكري اسمه محمّد لطيفاً جداً ويرتدي كل يوم لباس عمل لونه كحلي. كان يحتلّ نصف المدخل وكان يُصنِّع من ألواح التنك أشياء مختلفة بمهارة عالية وكانت تتنوّع من أباريق لسقي الزرع، الى إناءات تستعمل لنقع الغسيل أوغسله الى ما هنالك من أشياء يحتاجها كل منزل. وكان يعرض منتجاته على الطريق عن يمين ويسار المدخل
ما كنا نخرج من البناية حتى كنّا نتوجه نحو جادة فؤاد شهاب عبر ٧ او ٨ درجات تأخذ عرض شارعنا. من هناك كنّا نمشي بموازاة الجادة مسافة حوالي مئتي متر لنصل الى موقف البوسطة والذي كان يقع بالقرب من سينما “الغومون بالاس”
أما البوسطة فكانت من نوع “دودج” وكانت تتّسع لنحو ١٦ راكباً. كان لونها أحمر تتخلله طبقات أفقيّة بيضاء. أما المقاعد فكانت مغلّفة بالبلاستيك الأحمر والأبيض. أما باب الصعود والنزول فكان في الامام عن يمين السائق ويظل مفتوحاً في اغلب الأحيان. كانت البوسطة تنتظر زهاء الربع ساعة لتنطلق بمن فيها وتفسح المجال لبوسطة أخرى تأتي مكانها. وكانت تنطلق صعوداً في شارع بشارة الخوري ثم تنعطف يساراً لتأخذ خط الشام الذي يصبح خط فرن الشبّاك حتى تفرق على اليمين لتدخل عين الرمانة لتسلك مساراً لولبياً مروراً من امام الصنوبرة الشهيرة
في الطريق كان السائق ينحرف بالباص نحو اليمين ليتوقف ويصعد كل من يشير له او لينزل أي راكب أينما أراد. لم تكن توجد مواقف ثابتة للباصات وكان الركاب يستغلّون هذه الحرية لإيقاف البوسطة حيثما يشاؤون
وكان مشهد حركة ذراعي السائق من المناظر التي لا تُفوّت. فبين الإمساك بالمقود وإدارته المستمرة من اليمين إلى اليسار وتغيير السرعة المتتابع بواسطة عصا إختيار السرعة الحديدي والذي كان ملتوي الرأس عند قبضة اليد الكرويّة، الى استحصال التعرفة من كل من ينزل، كان منظره وكأنه بهلواني في خضمّ عرضه على المسرح
في اليوم الأول لصعودي في البوسطة فوجئت بوجود احد رفاقي الذي كان في صف الدراسة معي مذ كنت اتعلَّم في “الليسيه الفرنسي”. كان ذلك قبل اربع سنوات خلت. كان اسمه “إدوار” وكان يمتّ بقرابة للأستاذ الذي كان يعلمنا الدروس باللغة الفرنسية والذي لم أكن المّ له التقدير الذي أكنه لغيره من الأساتذة
جلست بجانب إدوار وأخذنا نتحدّث. علمت انه كان يتعلم في مدرسة “السانت فاميّ” في عين الرمانة والتي كانت قريبة من مدرستي. وإذ كانت مواعيد الدراسة متطابقة في الصباح لمدرستينا قلت له بسرور: حسناً سنترافق كل يوم
وإذ هممت بالنزول مع أخي من البوسطة أمام مدخل مدرستنا قمت بدفع تعرفة إدوار أيضاً فأومأت له بأن الحساب “واصل” فأجابني متشكراً بحركة من يده اليمنى. وكانت العادة ان الكثيرين من الركاب يتداورون بين بعضهم في تسديد قيمة التعرفة. وكان بإمكان صاحبي النزول معي إلا أنه كان يفضّل المكوث في مقعده المسافة المتبقّية لمحطّته وكانت لا تزيد عن ثلاثين متراً إضافيّة! وهذا كان مثالاً للتنبلة اللبنانية
في اليوم التالي التقيت رفيقي في الباص وكان لحظة الوصول يمكث دون حراك في مكانه بينما كنت أسدد التعرفة عند نزولي! وهذا ما حدث خلال ما تلا من أيام
بدأت أتساءل: عشرة قروش ليست بالكثير! ويبدو انه من عائلة كريمة ويتلقى تعليمه في مدارس خاصة! هل يعقل ان ليس بإمكانه ان يوفّر ما دفعته عنه بالأمس ليسدّد عني في اليوم التالي
قلت سأدفع المزيد من جيبي لأتعلم شيئاً في هذه الحياة وأرى اليوم الذي يقوم فيه صاحبي بتسديد الأجرة. إلا ان ذاك اليوم لم يأتِ! بعد أشهر من الإستمرار في تسديد تعرفته، وإذ كنت جالساً بجانبه، تطلع نحوي وقال:” إسمع يا بشير. من اليوم وصاعداً، حتى لا نتخانق، كل واحد يدفع عن نفسه!”
وإذ أروي هذه الواقعة وانا لا أدري ان كان درسي قد أفادني فعلاً في مجرى حياتي، أذكر ما كان قد قصّه لي والدي، رحمه الله، عن واقعةٍ حدثت خلال بناء خط السكة الحديدي على الشاطئ اللبناني. كان مراقبان، واحد إنكليزي وآخر لبناني يترافقان لتفقّد العمل الجاري على الخط. كان الإنكليزي يرتدي لباساً أوروبياً بينما كان اللبناني يرتدي شروالاً تقليدياً أسود تزنِّره شملة حريرية سوداء كانت العادة ان يخفي فيها نقوده
كان المراقبان يستقلاّن مركبة يجرها الخيل. وما ان يصلا الى آخر المسافة حتى يأتي وقت تأدية الحساب، كان اللبناني يبدأ بفك شملته الطويلة ليصل الى النقود. الا ان الإنكليزي لم تكن تستغرق منه لحظة حتى يكون قد سحب الفلوس من جيبه وسدّد الحساب
استمر الوضع على هذه الحال حتى سئم الإنكليزي من الوضع فراح وأوصى لنفسه شملة تفوق بطولها تلك التي يتزنّر بها اللبناني. وعند الوصول أخذ كلٌ من المراقبين يفكُّ شملته وهكذا تمكّن الإنكليزي من ان يأخذ بثأره بعد ان قام اللبناني بدفع الأجرة اخيراً
صديقي العزيز بشير
يا لهامن ذكريات جميلة مدوّنة بأسلوب شيّق كالعادة،، إستوقفتني قصّة البوسطة لأنّني كنت أنا أيضاً أستقلّها من البلد إلى عين الرّمّانة ومن الممكن أن نكون قد تواجدنا معاً على متنها دون أن
نكون نعرف بعضنا
لقد فاتك أن تذكر تفصيلاً مهمّاً وهو التّالي: كنّا نحاول أن نترجّل من البوسطة قبل أن تتوقّف وهذا كان نوعاً من المرجلة. في إحدى المرّات وعند وصولي إلى عين الرمّانة حاولت أن أقوم بهذه الحركة البهلوانيّة مقلّداً بعض الشّباب وكان الباب مفتوحاً فهويت ووجدت نفسي مسطّحاً على الزّفت بينما طارت حقيبتي على بعد عدّة أمتار
صرخ سائق البوسطة وقال: يا إستاذ قلتلّق طوّل بالك. ” شو هالجيل يلّلي ما بيسمع وما بيفهم، كنت خربتلّي بيتي
” وعوّرت حالك
رزقالله على هذه الحقبة من العمر
نحن بإنتظار المزيد من التدوينات والمزيد من الذّكريات الشّيّقة.
بكل محبة
سمير أبو صعب.
دائماً، يا عزيزي سمير، تتميز تعليقاتك بالظرافة والطرافة. اشكر لك انك ازدت معلومات كدنا ننساها كطريقة القفز للصعود او النزول من الحافلة! أذكر ما حدث لي وكنت في الترام الشهير، وذلك قبل ان يُقعدوه، وكنت عائداً من فحص السرتيفيكا. بعد ان توقف مقابل كنيسة مارجرجس على البرج فضّلت ان أبقى فيه للمحطة المقبلة! الا ان الترام اكمل مساره مروراً بساحة رياض الصلح وانعطف على اليسار نحو طلعة البسطا دون ان يتوقف.
خفت ان ابعد عن المنزل فاتخذت قراراً بالقفز. الا أني بدل ان انزل وانا اركض الى الامام، قفزت ورجليّ ملتصقان. فما ان لمست الارض حتى انبطحت على طول جسدي على الرصيف. كانت الحصيلة جروح متعددة على ذراعيّ وركبتيّ أخذت أسابيع لتتعافى!