في سنة ١٩٧٧ ، وخلال السنة الأولى لتواجدي في العراق بداعي العمل، كنت كلّما زرت بغداد أستعلم من أصدقائي الذين كانوا يعملون معي في نفس الشركة حول تجاربهم من ريادة مطاعم المدينة. وكانت تلك العاصمة تتميّز عن الكثير من مثيلاتها في الوطن العربي بتوفّر عدد لا يُستهان به من الأماكن التي لا يخشى المرء الأكل فيها من ناحية النظافة أوالخدمة. وكان التنوّع يبدأ من مطاعم الوجبات السريعة كال”كص” وهو ما يوازي الشاورما عندنا وغيره، وانتهاءً بالسمك “المسكوف” الذي كنّا نجده في شارع أبو النوّاس مروراً بالمطاعم العاديّة المُوَزّعة في أنحاء مختلفة من المدينة وأجملها ما كان منها في وسط حديقة على ضِفاف نهر دِجلة، واذكر منها “قصر الشوق” الذي كان يقع في منطقة “عرصات الهنديّة”. كان هذا المطعم يتميّز “بشيش قصر الشوق” الذي كانت تُستحضر فيه قطع اللحم المشوي مغروسةً بسيف مستقيم يُحمل بشكل عمودي بينما لهيب النار يُكمل الطهي مرتفعاً فوق قبضة اليد
اما في ذلك العهد المتمثّل بالنظام الاشتراكي لم تكن كل البضائع متوفرة في الكثير من الأوقات! حتى المشروبات الكحولية المصنعة وطنيّاً كالعرق المستخلص من البلح وبيرة “فريدة” الفريدة في مذاقها كان عليها الكثير من التقنين. أما كلّ ما كان يُستورد فكان المستهلك يجده حيناً ويفتقده أحياناً. وكان سيّد مراكز التحوّج للبضائع المستوردة ما كان يعرف “بالأورزدي” وذلك تيمّناً بالمؤسس “أوروزدي باك” والذي كانت له محلات في عدة مدن منها في وسط بيروت وذلك على شارع الجمارك. وكانت ما ان تصل بضاعة ما مستوردة ومرغوبة حتى تجد الراغبين بالشراء يصطفّون في طابور طويل بانتظار دورهم. وكان بعض المارة يلزمون الصف قبل ان يعرفوا ما هم بصدد شرائه خوفاً من ان يضيّعوا أفضليتهم! وكانت “الأستكنات” وهي كاسات الشاي الزجاجية المزخرفة من أكثر ما كان يثير رغبة المتحوّجين
وعودة الى المطاعم تبيّن لنا ان مطعماً جديداً كان قد تمّ افتتاحه منذ أشهر تحت اسم “الينابيع”. لا أذكر موقعه بالظبط الاّ أن ميزته الأساسية كانت عمل “البيتزا” بالإضافة الى استحضار بعض الأطباق الإيطالية. والبيتزا لم تكن قد انتشرت بعد في بغداد على الرغم من تعدد الأفران التي كانت منكبّة على انتاج خبز “الصَمّون” الذي كان مرغوباً لدى العائلات. كان هذا الخبز شبيهاً بالخبز الإفرنجي إنما إنتفاخه أقل بينما شكله “لوزنجي” أشبه بشكل السنيورة الصيداوية إنما طبعا بحجم اكبر
وصلت الى المطعم برفقة زميلين لي. كانت الواجهة الخارجيّة مغلّفة بحجر صخري متموّج الألوان وغير منتظم المقاسات إنما تمّ بناؤه بإتقان. اما الشبابيك وباب المدخل فكانت خشبية من نوع “الماهوجوني” البنّي المائل للقليل من الإحمرار وكان الزجاج مقطّعاً بمربّعات خشبيّة ناعمة على الطراز الإفرنجي بينما تمّ زرع بعض الزهور الملوّنة في احواض تحت عتبات الشبابيك
ما ان دخلنا حتى أحسسنا وكأننا انتقلنا الى حي “تراستيفيري” في روما حيث ان الديكور الداخلي تم تصميمه بعناء وذوق. من سيراميك الأرض، الى تلييس الجدران والقناطر على طراز بداية القرن العشرين، الى الديكورات الخشبية في الجدران والسقف، الى الإنارة المنسّقة، الى اللوحات المعروضة على الجدران، الى الطاولات الخشبية والتي وضعت عليها شراشف من قماش يحمل مربعات خضراء وبيضاء، الى الكراسي الخشبية ذات القوائم المربّعة وعارضات الظهر المسطّحة والملوية لاحتواء الظهر، الى طرّاحات الجلوس المنسّقة مع الشراشف وفُوَط السفرة، الى المزهريات التي كانت مزيّنة ببعضٍ من زهور القرنفل، الى الفرن الذي كان يتصدّر بواجهته الحجرية زاوية قريبة من المطبخ والذي كان يستعمل لخبز البيتزا والخبز اللبناني الصغير… كل ذلك جعلنا نشعر وكأن بساط الريح حملنا الى مدينة اوروبّية
علمنا ان الذي قام بافتتاح المطعم إنما هو مهندس معماري لبناني ترك بلاده بسبب الأحداث وقرر الانتقال الى بغداد للابتعاد عن الأجواء المشحونة
ما ان أجلسنا النادل (الشخص المسؤول عن خدمة الزبا ئن) على احدى الطاولات حتى أودع كلاً منا لائحة الأطعمة التي تقدم في المطعم وكانت مطبوعة بشكل مرتّب ضمن دفّتين سميكتين مغلفتين بالجلد الناعم الأسود. بينما اخذنا نتأمّل أنواع البيتزا التي اتينا من اجلها، اختفى خادمنا ليعود ويقدم لنا ثلاثة أرغفة ساخنة طازجة ومنفوحة كالبالونات مع صحن صغير من الزيتون
كلّما اخترت صنفاً من أصناف البيتزا، كان يجيبني النادل انه ليس بمقدورهم تقديمه في الوقت الحاضر نظراً لعدم توفّر المواد في الأسواق كجبنة الموتزاريلا، او الجونبون، او البيبيروني، او السوسيس الإيطالية، او البارموزانو الى ما هنالك… الى ان وصلت الى نوع اسمه: بيتزا سوربرايز “Surprise” أي “المفاجأة”
سألت النادل: ماذا تحوي هذه البيتزا؟
أجابني: لا يمكنني الإفصاح عن المحتويات لانها يجب ان تكون “سوربرايز” أي مفاجأة
طلبت لنفسبي هذه البيتزا بينما عدل رفيقاي وطلبا طعاماً مختلفاً
عندما وصل صحني فوجئت ان البيتزا لم تكن مفتوحة بل كانت مطوية على شكل فطيرة او شكل “كالزون” إيطالي. سألت من كان يخدمنا: لماذا هذا الشكل؟ أجاب : هذه بيتزا سوربرايز وعليك ان تفتحها بنفسك لتكتشف ما في داخلها
وما ان أخذت شوكتي وسكينتي وقطعت وسطها حتى كانت المفاجأة! الذي كان في داخلها ما كان إلا بيضة على طريقة برشت! قلت في نفسي: جئت لآكل بيتزا وانتهيت بأكل خبز وبيض
بعد الانتهاء من الاكل طلبت فنجان قهوة وقطعة كيك إيطالية. اقتطعت بالشوكة قطعة صغيرة وأكلتها ثم أدرت الصحن لأفاجأ بوجود ذبابة مغروسة بالكريمة. صرخت مجدداً لمن كان يخدمنا فحضر على الفور الى جانبي. ما ان أريته الذبابة حتى أخذ شوكة واقتطع حواليها ثم قال: يمكنك اكل ما تبقى من القطعة
كانت هذه اول وآخر مرة أقصد فيها ذاك المطعم
العزيز بشير، انت تتحفنا دائما بمقالة سربرايز وما يتحفنا بكتاباتك هو دقة الوصف بعبارات ومفردات عربية فصيحة وبليغة، ولكن السربرايز الكبرى هي ذاكرتك القوية التي تصف الأشياء بأدق التفاصيل بعد أربعين عاماً!!! وبالمناسبة، ان هذه البيتزا مع البيضة في وسطها هي اكلة تونسية يسمونها
“بريك”
هذا جديد لديّ ان البيتزا مع بيضة في وسطها إنما هي اكلة تونسية! كان الاجدى بأصحاب المطعم ان يعطوها التسمية الحقيقية بدل “بيتزا سوربرايز”!
أشكر لكم يا سعادة السفير تشجيعكم المستمر لما انشره وأرجو ان أتمكن من المتابعة بنفس المستوى لأحظى بالمزيد من تعليقاتكم
أحببت كثيرا كيف تركت لقارئك استخلاص العبرة بعدنا أدخلته بأسلوبك الأنيق الى تفاصيل الحكاية كلّها…
وطبعا وثّقت حقبة زهرية لبلاد ما بين النهرين… تابع بشير في حكاياتك الجميلة التي تدخلنا إلى عوالم غافية في الذاكرة!
الف شكر لك يا سيّدتي العزيزة كوليت لكلماتك الجميلة التي تدفعني للمثابرة على الكتابة في لغة كنت خلت ان ايام الغربة قد انستني إياها!