وقعة غير منتظرة مع المطاوعة

IMG_1955

وإن أخذ المرءُ كلّ حيطة لتجنّب ارتكاب أي مشاب في تصرفاته إلاّ ان تجده يقع أحياناً فريسةً سهلة لمن كان يرصد غيره! فعلى سبيل المثال نجد ان الكثير ممن يتلقّون مخالفة سرعة إنما هم أناسٌ منضبطون يحترمون قانون السير ولا يخالفونه عمداً.

كنت اصطحب زوجتي خلال الأشهر الاولى لزواجنا للتسوّق وتكملة حاجات المطبخ من أوانٍ وادوات خاصة بالطهي. وكانت طنجرة الضغط من العناصر المهمة التي يحتاجها كل منزل. وبعد ان جُبنا مدينة الرياض من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب بحثاً عن إناءٍ من ذاك النوع وبالحجم الذي يرضي رغبة زوجتي توصَّلْنا الى إيجاد طنجرة لها سعة ١٢ ليتراً قمنا بشرائها بعد ان قبلت بها على مضض لانها كانت تُفتّش عن حجمٍ أكبر.

أما في الشقة التي كنّا نسكنها فكان التصميم الإيطالي المودرن يغلب على مطبخها الصغير المنمّق. كانت الخزائن مبنيّة من ألواح ملساء لونها أخضر فاتح بينما مساحات العمل الأفقيّة كانت من لون بُنّي فيه تعريقات خشبية. أمّا الجدران فكانت مغطاة بالسيراميك الأخضر يحمل بعضٌ من قطعه رسومات تزيينيّة. وعند وضع الطنجرة فوق الموقد، كان غطاؤها يكاد يطال مروحة الشفط المركّزة فوقه، إضافة إلى أن ضغط البخار لم يكن كافياً لإشغال الصفّارة نظراً لصغر حجم الطبخة المُعدّة لشخصين. أما جرن المجلى فكان بالكاد يتّسع لاستيعابها لتنظيفها.

قصدنا سوبر ماركت الخزامى القريب لشراء طنجرة ضغط بحجمٍ أصغر من التي كنّا قد استحصلنا عليها سابقاً. كانت زوجتي ترتدي عباءةً حريرية سوداء فوق هدومها وذلك للتحشّم كما جرت العادة في تلك البلاد وتلك الأيام.

داخل السوبر ماركت أخذ كلٌّ منّا جناحاً للتفتيش عن الطنجرة. وما هي الاّ دقائق حتى عادت زوجتي لملاقاتي وهي تحمل بيديها إناءً من النوع الذي كنّا نبحث عنه. ما ان اقتربت مني وبادرت بالتكلم معي حتى ربّت أحدهم على كتفي. التفتّ الى الوراء وإذ بي أرى رَجُلين طويلي القامة يرتدي كلٌّ منهما على رأسه كفيّةً من اللون الأحمر الوطني إنَّما بدون عقال. كانت ذقن كلّ واحد منهما قد ربت بدون عناية ولا تنسيق. وكان احدهما يرتدي دشداشة بيضاء بينما كان لون دشداشة الثاني صحراوياً. وكان كل منهما يحمل بيده اليمنى خيزرانة رفيعة تكاد تصل الى كتفه.

سألني الرجل الذي كان الأقرب لي: “هل هذه الحرمة حقّك؟”. أجبته:”نعم”. قال آمراً: “أعطني إقامتك”. سألته: ” لماذا؟” وأنا أنظر الى زوجتي ولا أرى شائباً في منظرها. أجاب متوعّداً وهو يهزّ بخيزرانته: “لا تفتح تمّك بولا كلمة وإلا تسمع شيء ما يرضيك وتشوف شيء ما يعجبك!” أعطيته بطاقة إقامتي ومن ثم أودعني ورقة معدّة مسبقاً عليها عنوان قائلاً: ” إذهب بعد يومين بعد صلاة المغرب الى جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهناك يمكنك إعادة استلامها.”

سألت فيما بعد عن هذا التصرّف فأجابني أحدهم ان السبب يعود الى ان العباءة لم تحسن زوجتي العناية بها بكيّها بانتظام لذا انكمش قماشها وارتفع أسفلها الى ما فوق الكاحلين.

قصدت المركز في الموعد المحدد وكان يتواجد خلف احد الجوامع. بعد أن خلعت حذائي الى جانب الأحذية المصفوفة في المدخل، سحبت محبس زواجي الذهبي وساعة معصمي التي كان عليها بعض من الطلاء الأصفر وأخفيتهما في جيبي على أساس انه لا يجوز للرجل ان يتزيّن بهكذا معدن. دخلت رواقاً طويلاً أدّى الى غرفة بابها مفتوح كان يجلس فيها وراء مكتب خشبي أحد المسؤولين في المركز بينما كان يجلس في مواجهته على المقاعد الجلدية أحد الموقوفين مثلي الذي عرفت عنه لاحقاً انه لبناني.

كان الجالس وراء المكتب من ناحية اللباس والذقن يشابه كثيراً غيره في الجمعية بالإضافة الى انه كان يرتدي نظارات بنّية الإطار. ما ان عرّفت بنفسي حتى سحب دفتر إقامتي من درجه. كان بإمكانه التمييز من لون دفتر الإقامة، بين اللون البني وبين اللون الأبيض، بين المسلم وغير المسلم.

أخذ يُسائلني ويُوَبّخني في آنٍ معاً وكأن زوجتي تقترف الآثام وانا أُغفِل نظري. قال لي: هذه المرأة “حلالك” يجب ان تحافظ عليها. يجب ان لا تتركها تظهر بهذا المظهر! ثم استطرد سائلاً:”ليش ما تصير مسلم؟” أجبته: “ان شالله بنصير”.

ثم خطّ لي على ورقة تعهّداً طلب مني توقيعه:” نعم انا (….) ضُبطتُ وزوجتي متبرّجة وأتعهد بالمحافظة عليها وبردعها عن التبرّج (…) وذلك تحت طائلة التسفير من البلاد (…)

بعد ان وقّعت على التعهّد أعطاني كتاباً عن “التبرّج” وآخر عن “التدخين”. ثم طلب منّي الجلوس على الكنبة بجانب الشخص الذي كان جالساً في الغرفة قبلي لدى دخولي. فهمت ان حالته اصعب بكثير من حالتي. كان مسلماً اسمه “علي” وقد ضُبط برفقة زوجته التي لم تكن تلبس عباءة في متجرٍ يبيع الثياب النسائية وهو يعمل فيه.

وحيث ان البتّ بأمر “علي” كان يتجاوز صلاحياته فتح لنا باباً وطلب منا الدخول الى مجلس خاص بالجمعية. أجلسنا كلّاً على كرسي بالقرب من الباب الذي أغلقه في مواجهة رئيس المجلس الذي كان يجلس وراء مكتب خشبي كبير بينما بقية الأعضاء وكان عددهم يتجاوز العشرة يجلسون من اليمين واليسار على كنبات بنّية جلديّة. كان بعضهم يعبث بيده بأصابع الرجل التي رفعها الى جانبه وكأنه يمشّط خِصل شعر. أما رئيس المجلس فبدا أنه كان فاقد الرؤية في إحدى عينيه.

تطلُّع نحو “علي” وخاطبه: زوجتك تبيع في المحل؟
أجابه علي: لا، إنما جاءت لزيارتي في موقع عملي.
سأله: كيف تيجي بدون عباية؟
أجابه: جاءت لعندي لأشتري لها عباية.
سأله: وكيف وصلت لعندك؟ (على أساس أن المرأة لا يجوز أن تأتي لوحدها)
أجابه: أوصلها أخوها.
سأله: عندكم في المحل صور موديلات.
أجابه: مُذ قلتم أن ذاك ممنوع نزعناها.
سأله: عندكم موسيقى في المحل.
أجابه: لا، أوقفنا الموسيقى مُذ علمنا بأنها ممنوعة.
سأله: عندكم مرايا.
أجابه: مذ علمنا بأن ذلك مرفوض خلعناها.
سأله: عندكم غرفة لقياس الملابس!
أجابه: لا، هذا حمام.
سأله: وكيف فيه مراية؟
أجابه: قلتم لنا المراية ممنوعة في المحل فأخفيناها في الحمّام.
عندئذٍ انتفض رئيس المجلس وسأل “علي”: فين عقد النكاح حقك؟
قام “علي” وَسَلَّمه صورة عن عقد زواجه. ما ان تفقّد نصّها حتى بدأ يسأل “علي” مجدداً ليتأكّد من أنه لم يحضر عقداً ملفّقاً: ما اسم زوجتك؟ ما اسم عائلتها؟
عندما أعطاه اسم عائلتها انتفض الشيخ مجدداً وفتح أحد أدراج مكتبه وأخذ يبحث داخله الى ان سحب بطاقة إقامة وبادر بالسؤال: هل تعرف فلان من نفس العائلة؟
أجابه: هذا أخو زوجتي.
قال: هذا ضبطناه من ثلاثة شهور بمخالفة ولم يأتِ بعد الى المركز. هل هذا هو الأخ الذي أوصلها إليك!
قال: لا، هذا الأخ الثاني وهو خارج البلاد من ثلاثة شهور.

عندئذٍ طلب رئيس المجلس من “علي” التوقيع على تعهد بإحضار الأخ المسافر الى المركز فور عودته الى البلاد وذلك تحت طائلة المسؤولية.

وهنا انتهت تجربتي وعدت الي بيتي راجياً ان لا تتكرّر…

 

قياسي

رأيان حول “وقعة غير منتظرة مع المطاوعة

  1. محمود غربي كتب:

    ليش ما تصير مسلم؟ اعجني سؤاله واعجبني ادبك في الرد ان شالله بنصير انا استاد بشير مسلم قرات بعضا من كتاباتك قبل يوم فقط اعجبتني انا مهندس مثلك لكن تمنيت انك في يوم من الايام ان تكون مسلما على الرغم من انه لا معرفة لي بك الا من خلال ما قرات من كتاباتك

    • أخي العزيز محمود،
      أشكرك جزيل الشكر على مداخلتك من خلال التعليق الذي أوردته على صفحتي الالكترونية ويطيب لي أن أخصّك بما يلي:

      • إختيار المذهب
      الأكثريّة الساحقة من الناس لم تختر مذهبها لأنها آلت الى نفس الدين الذي كان قد اعتنقه آباؤها وأجدادها. فأنت ولدت من عائلةٍ مسلمة بينما انا ولدت من عائلة مسيحيّة. وقلائل هم الذين تجرأوا على تغيير انتمائهم الطائفي وأما اذا فعلوا فالدافع في أغلب الأحيان لم يكن الاّ لأسباب لا تمتُّ للإيمان بِصِلة!

      • المظهر الديني
      ألا توافقني يا صديقي على ان الكثيرين ممّن يتبوؤون المناصب الدينية او من الذين يتقدّمون صفوف المصلّين إنما هم بالحقيقة ابعد الناس عن الدين لأنهم تنصّبوا من خلال أفعالٍ مخزية أو أثروا بطرقٍ ملتوية؟ قد نجد أحياناً اصحاب لحىً وعمائم متزيّنين بأثواب فضفاضة بينما هم في أفعالهم من دينهم براء؟ كم وجدت في حياتي مسيحيّين اكثر إسلاماً في خُلقهم من الكثير من المسلمين وكما صدفت مسلمين أصدقَ مسيحيّةً في تعاملهم من الكثير من المسيحيين!

      • تداعيات الأديان
      هل الأحداث التي وقعت في شرقنا الحبيب تدفعنا الى ان نطلب المزيد من التعصُّب للاديان؟ أما كان تشريد الملايين باسم الدين من منازلهم وأرزاقهم وقتل مئات الألوف من الأبرياء رادعاً كافياً لكي نقف عند حدٍّ ونعيد النظر في معتقداتنا الروحية؟ أرجو منك يا صديقي أن تقرأ ثلاثة نصوص كنت قد دوّنتها على صفحتي: “الله والعباد” و “يا إلهي… أغفر لي صلواتي” و”واعتباه…”

      • خلاصة
      نشأت في صغري في بيئة مُختلطة بين مسلمين ومسيحيين وتأثرت كثيراً بالأخلاقيات والتربية التي تلقّيتها لمجرّد اختلاطي بهذين العالمين وانا مدين لما اكتسبته وفخور به!

      وقد يكون ثواب من عمل الخيّرات في دنياه أعظم من الذي أشهر دينه وتباهى بصلواته وتجاهر بالنادر من المساعدة التي تحنّن بها على ذوي الحاجة، والله أعلم!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s