تعودت منذ حداثة سني ان احترم قوانين اي بلد أزوره قدر ما كنت على علم بتلك القوانين.
كنت قد امضيت زهاء سنتين في مدينة الرياض عندما حدثت لي تلك الواقعة. مُذ عقد قراني قبل أشهر كنت اسكن مع زوجتي شقةً في منطقة العليّا تقع في الطابق السابع من مبنى ابيض كان يُعرف ببناية البنك الأمريكي نظراً لتواجد الفرع الرئيسي في طابقه الأرضي. وكانت واجهات العمارة تتميّز بشبابيكها ونتوءاتها المعمارية لتذكر الرائي بكرتونة البيض. ولم يكن من الصعب الدلالة عليها.
في ذلك الزمن كانت المدينة في خِضمِّ نشأتها وكانت الشوارع الجديدة تُعبّد بسرعة لا تسمح بالبحث عن اسماء لها. فكانت تسمّى مثلاً “بشارع الستّين” او “شارع الأربعين” او “الثلاثين” وذلك تكنّياً بالأمتار التي كان عرض الشارع يأخذها !
ذات يومٍ وفِي حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر، كنت في طريقي الى مسكني حيث كانت زوجتي تعد الدقائق في انتظاري لتناول وجبة الغذاء. كنت أخالها وقد أعدّت المائدة على طاولة السفرة المستديرة بينما الوجبة الرئيسيّة ما زالت في الطنجرة تُطهى على نار هادئة.
وإذ كنت في الميل الأخير لرحلتي كان عليَّ ان انعطف من شارع الثلاثين نحو اليسار على إشارة ضوئية ثلاثية الإتجاهات. إلا انه لدى وصولي للتقاطع، فوجئت، كما فوجئ غيري، بشرطي يشير لنا باتِّباع الطريق ويمنعنا من الإتجاه نحو اليسار. اكملت الطريق باتجاه منطقة السليمانية الى ان وصلت بعد نحو كلم الى إشارة ضوئية ثلاثية الإتجاهات أيضاً إنما بشكل معاكس للأولى. وكانت السيارات التي لم تفلح مثلي في أخذ المفرق السابق تنتظر دورها للإنعطاف نحو اليسار والعودة بالإتجاه المعاكس. وكانت السيارات تأخذ منحاها بالإلتفاف بأرتال مكونة من نحو من عشر سيارات او أكثر كلما أستضاءت الإشارة بالنور الأخضر.
ما ان جاء دوري وانعطفت بالسيارة وإذ بي أفاجأ بحاجز شرطة مؤلف من شرطييْن اثنين يشيران الى السيارات بالإتجاه نحو فسحة ترابية كبيرة غير منتظمة على يمين الطريق بينما كان أفراد آخرون من الشرطة يطلبون من السائقين إيقاف سياراتهم: “برِّك السيارة هِنا واصعد في الباص”.
كانت ثلاث حافلات كبيرة تنتظر جموع الموقوفين. تم إعلامنا ان مخالفة الإلتفاف الى اليسار عقابها ثلاثة ايّام حبس. وكانت إشارة مرور مبرشة اللون موجودة على التقاطع تشير الى عدم السماح بالإلتفاف. صعدت الى احدى الحافلات واخذت احدّق بمن تواجد. كانوا جميعاً من غير المحلّيّين. أما ابن البلد الذي كان يعرف من لباسه الأبيض وكفيّته وعقاله فكان لا يكف عن مجادلة الشرطي بانفعال وهو ينفض يده اليمنى المفتوحة من أعلى الى أسفل حتى يخرجه الشرطي من الحافلة ويتوارى عن انظارنا.
انطلقت الحافلات نحو السجن. بعد نحو نصف ساعة وصلنا الى باحته. توقفت الباصات. صعد الى حافلتنا مذيع تلفزيوني مع ميكروفونه ومرافقه الذي كان يصور بكاميرته تحقيقاً للأخبار المحلية. أخذ يسأل الموقوفين عن شعورهم وعواطفهم تجاه تطبيق قوانين السير! أخذت انظر جانباً محاولاً ان اختبئ عن أنظاره. ماذا أجيبه لو سألني؟
وقفنا في صفٍّ طويل امام كشك حارس المدخل. كان كل منا يسلم حذاءه وسير الخصر وأي قلم حبر كان يحمله. كان كل قلم يرمى في علبة كرتونية قديمة للأحذية فيما الأحذية والأحزمة كانت توضع على ارف خشبية باخ لونها من كثرة الاستعمال. في زمن لم تكن قد تواجدت فيه بعد الخلويات، سألت عن كيفية الاتصال بعائلتي لاعلامها عن مكان وجودي وكنت أفكر بزوجتي القابعة في انتظاري. أجابني الحارس بوجود هاتف داخل السجن. سألني عن اسمي الاول ودوّنه على دفتر عادي كالذي كنت استعمله في المدرسة ايّام زمان.
دخلت وراء الواجهة ذات القضبان الحديدية عبر باب من نفس التصميم. كان الداخل عبارة عن صالة كبيرة غير منتظمة الجوانب بحيث انه، من ناحية اليمين الأمامية، كان يتواجد ممر بعرض نحو من مترين ونصف وطول خمسة أمتار يؤدي الى باب حديدي مغلق على الدوام تختفي وراءه حجرة الموقوفين الخطرين. اما من ناحية اليسار الخلفية فكان يتواجد ممرّ يؤدي الى غرفة صغيرة يستعملها بائع الشاي داخل السجن.
أسرعت نحو الهاتف المعلق على الحائط وكان قد رُكِّز على مستوى عالٍ. تساءلت : ماذا يفعل قصيرو القامة ؟ وبدا لي ان الجهاز كان قد عانى الأمرّين في ما مضى وقد تغيّر لونه مع الزمن إذ خلت انه كان في الأصل ابيض اللون. كانت الأرقام من النوع الذي تضغط بإصبعك على كل رقم تطلبه. حاولت طلب رقم المنزل ولم أفلح لأن احد الأرقام لم يكن ليعمل!
رجعت نحو الواجهة الحديدية وإذ بي أرى في الخارج عشرات الأشخاص مصطفّين ينظرون إلينا. يبدو أنهم جاؤوا لتفقد أناس يعرفونهم وقد تم سجنهم. وبينما كنت أحدّق في الوجوه وجدت بينهم شخصاً أعرفه. صرخت له وطلبت منه الإتصال بزوجتي لإخبارها بوضعي وبإرسال طعام لي وغطاء للنوم (كانت الوسادات ممنوعة داخل السجن).
بعد ان اطمأننت ان زوجتي ستعلم بما حصل لي أخذت أفتّش عن مكان أقبع فيه. تربعت قرب الحائط الخارجي في الممر القريب من ركن السجناء المتهمين بذنوب أكثر خطورة. أخذت أحدّق بما حولي. كانت الارض مغطاة بسجادة بنيّة اللون من نوع الموكيت الرخيص الذي برِش تحت الارجل في الوسط بينما ملأت البقع المختلفة والمتنوعة الحجم بقيّة المساحات. بعد ان حيّاني جلس بجانبي احد الموقوفين وأخذنا نتحدّث. أعلمني ان بعض “النزلاء” لهم أكثر من أسبوع لأن كفلاءهم لم يحضروا لإخراجهم!
كان تعداد الموقوفين يزداد مع الوقت وكلّما وصلت حافلات جديدة. وقد استرعى انتباهي وصول عاملين من أصل يمني يبدو أنهما كانا يعملان على معدات ثقب الصخور. كان الغبار الأبيض يغطّي جسميهما كافةً من شعر الرأس مروراً بالحواجب والرموش انتهاء بكعب ارجلهما.
زاد امتلاء القاعة بالمساجين لدرجة ان التنقل بين ناحية واُخرى اصبح بصعوبة بمكان. افترشت مكاناً لجسدي على الأرض بالغطاءين اللذين كانت قد أرسلتهما لي زوجتي غير عابئ بما كان تحتي من بقع! ولإفساح المجال للآخرين اضطررنا للنوم رأساً وعقباً!
لا يمكنني ان أنسى تلك الليلة التي تميزت بتنويع من الروائح النتنة وسمفونيات شخير نابعة من أجسام مرهقة!
لم أمكث ثلاثة ايّام في ذلك السجن لان الإتصالات ساعدتني للخروج منه بعد ظهر اليوم الثاني. وعندما خرجت لم أتمالك نفسي من ذرف الدموع…
Don’t go again to these countries.
Don’t go again to such places.