كيف تجنبت زواجاً قسرياً في العراق؟

img_1899

كنت في نهاية الشهر الاول من عملي الجديد في مشروع إنشاء مصنع الإطارات في الديوانيّة، والتي كانت تقع على نحوٍ من مئتي كلم جنوب بغداد عندما حدثت تغييرات مفاجئة في مكتب الورشة. كان المكتب عبارة عن مبنى مؤقت مستطيل الشكل مبني من جدران رفعت من بلوكات إسمنتية فوق بلاطة خرسانية. كان للمبنى مدخل واحد يؤدّي الى رواق يتفرّع نحو اليمين ونحو اليسار. أما القسم الأيمن فكان في أقصاه يحوي من ناحية مكتب مدير عام المشروع ويقابله من الناحية الثانية مكتب مدير المشروع وكان كلاهما ألمانيين يحسنان التخاطب والمراسلة بالإنكليزية. الى جانب مكتب مدير المشروع كان يتواجد مكتب المهندس التقني للمشروع وكان هندي الأصل بينما كانت تجلس مقابله زوجته التي كانت تعمل برتبة سكرتيرة للمراسلات باللغة الإنكليزية. من الناحية الثانية كان مكتب مخططات المشروع وكنت أشارك رسّامين هندسيّين إشغاله. اما القسم الأيسر من المبنى فكان يحوي مكاتب المحاسبة ومكتب نقابة العمال ومكتب السكرتيرة للمراسلات العربية والتي كانت عراقية جميلة المظهر وتحمل اسم ياسمين.

اما المفاجأة فكانت فصل المهندس الهندي وزوجته وترحليلهما بيوم واحد وما زلت لا أعلم لغاية اليوم السبب الرئيسيّ لذلك. صدر أمر من المكتب الرئيسي في لندن بتسليمي مهامه إنما لم يكن بالسهل إيجاد بديل عن زوجته. فالعراقيون والعراقيات في ذلك الزمن كان إلمامهم ضعيفاً باللغة الأجنبية. أما إستحضار اجنبي أو أجنبية لملء الفراغ فكان من شبه المستحيلات نظراً للوقت الذي كانت تستغرقه إجراءات التأشيرات! حتى الطابعات الآلية الكهربائية كانت مرفوضة خوفاً من أن تستعمل لأغراض سياسية. أما كل من كان يُرخّص له بالعمل على تلك الآلات الغير كهربائية فكان يتوجب عليه إجراء أختبار يتم خلاله أخذ بصمات طباعته ليتم التعرف عليه في حال نشر اي نصٍّ يتعرّض للنظام الحاكم.

وإذ كان عقد بناء المشروع يتطلب المراسلة باللغة الإنكليزية، كنّا نرسل كلّ خطاباتنا بتلك اللغة موجّهة للمهندس المقيم الذي كان يمثّل الدولة وكان له هو الآخرمكتب في الورشة يبعد نحو مئة مترٍ عن مكتبنا. وإذ كان النظام إشتراكياً بامتياز كان علينا تحرير طلبات الإستيراد مسبقاً وأخذ موافقة المهندس المقيم لتكملة المعاملات اللازمة وكان هذَا الأخير يجيبنا بالعربية وكنت أتولى مهمة الترجمة لمدرائي الألمان.

ذات يوم خميس بعد نحو شهرين من مهمتي الجديدة كنّا في صدد إنتظار ردٍ بالموافقة على طلب استيراد مواد للمشروع لإرساله مع مندوبنا الى بغداد. طلب مني مديري مراجعة المهندس المقيم لاستعجال الامر. لما قابلته اعلمني انه قد وقعه وما كان عليّ الاّ مراجعة السكرتيرات. كان لهنّ مدخل خاص من الخارج في طرف مبنى مكتبه.

كنت أرتدي قميصاً ابيض بأكمام قصيرة فوق سروالٍ كاكي قصير. قرعت الباب ودخلت لأفاجأ بوجود اربع سكرتيرات بدل الواحدة. كنّ يجلسن كل واحدة وراء مكتبها اثنتان في الصدر وواحدة من اليمين بينما الأخيرة من اليسار. ولم يكنَّ يرتدينَ العباءة السوداء اثناء عملهنَّ. كنَّ حسناوات الشكل والقوام ولم يكن بمقدوري ان أتفقد مظهر كل واحدة على حدة خوفاً من مغبّة تصرّف يتعدى الأصول!

عرّفت بنفسي وطلبت ما جئت من أجله لأفاجأ بأنهنّ ينظرن إليّ بعيونٍ تبرق ورموشٍ ترفرف وشفاهٍ تُغري اي امرئٍ بحركاتها. ظننت نفسي وكأني نجمٌ سينمائي حلّ عليهن فجأة ولا يصدقن أنهنّ وُجدنَ منه على هذا القرب! خجلت من نظراتهن مع ان هرمونات شبابي كانت في أوجها وأخذت انظر الأرض امامي خوفاً من ان تتشابك عيناي مع أعينهن! تسلّمت الموافقة الموقعة وعدت الى مكتبي.

وما مكثتُ الا دقائق واذ كنتُ أحدّق بالمكتب الفارغ في مواجهتي حتى رأيت احدى الفتيات الأربع تدخل الى غرفتي وقد غطّت العباءة السوداء جسمها ورأسها فيما عدا وجهها الذي كان بياضه يسطع وسط القماش القاتم. وقفت مرعوشاً وانا اتطلع الى تكاوين الوجه الذي لم تعبث به المساحيق والبشرة الناصعة التي لا يعكّر نعومتها الا آثار جرح قديم وصغير في أسفل خدها الأيسر… اما عيناها السوداوان فكانتا لا تخفيان انجذابها وكأنها وقعت في الغرام من أول نظرة!

قلت لها انه ليس بإمكاني استقبالها في مكتبي لأننا من جهة في ورشة بناء ومن ناحية اخرى لانها تعمل بمنصب أمينة أسرار المهندس المقيم. فيما كنت أكلمها كانت هي تنظر الي بعينين دبلانتين مسحورتين وكأنها لا تسمع ما اتفوه به فيما كانت ابتسامة صغيرة تزيّن شفتيها. وكنت اسمع خلال ذاك الوقت أحاديث رجال في الخارج الى ان ناداها مسؤول نقابة العمال فخرجت ولم تعد.

بعد حوالي نصف ساعة دخلت الى مكتبي ياسمين السكرتيرة وقالت: “ماذا فعلت بالبنات؟ لقد “تخبّلن” مُذ رأينك.” وعلمت منها ان التي زارتني اسمها “رحاب” بينما جاءت اثنتان أخريان، كلّ على حدة، وسألتاها عني.

بعد يومين أرسلت لي رحاب قالب كاتوه صنعته بنفسها إنما يبدو انها لم تنجح في طهيه لان قلبه كان لا يزال عجيناً. وبعد أسبوع أودع لي مرسل ظرف رسالة من النوع الذي كان يرسل جواً لأن محيطه كان مخططاً بأقلام عريضة زرقاء وحمراء مائلة. قبل ان أرى ما في داخله لاحظت ان طرفه ممزوق وقد أعيد إغلاقه بواسطة دبّوس إبرة. سحبت الدبوس وأخرجت الورقة الموجودة في الداخل لأجد رسالة خطّتها رحاب بيدها وبدأتها بالبسملة ثم كتبت: “حبيبي بشير. منذ ان وقعت عيناي عليك لم أعد أستطيع النوم. لا يمكنني تصور العيش من دونك ولو ليوم واحد…” لم أكمل القراءة ثم أخفيت الرسالة وتجاهلت انها وصلتني.

في عطلة نهاية الأسبوع واذ كنت اشتف القهوة مع رفيقي برفقة زوجة أحدهما في المنزل التابع للمجمع السكني الذي كانت الشركة تستأجره وإذ بالباب يُطرق. فتح احدهما الباب لنفاجأ بأن رحاب جاءت لزيارتي. دخلت الصالون وجلست وهي تبتسم. عندئذٍ انسحب الرفاق وخرجوا وكأنهم أرادوا إخلاء الساحة لي رغم إصراري على بقائهم. ارتبكت وأخذت أفتح ستائر واجهات المنزل الزجاجية ليرى من يراقب ان لا شيء مريب يحدث داخل المنزل. قلت لها أني مضطر لمغادرة المنزل ولا يمكنني إصعادها معي في السيارة. وعند استغرابها أعلمتها انه لا يجوز ان تقوم أية علاقة بين اي موظف من شركتنا مع أية فتاة تعمل لدى المهندس المقيم خوفاً من ان تتسرب الأسرار من فريق لآخر.

بعد أيام دخلت ياسمين الى مكتبي لتخبرني ان الإشاعات قد ملأت الأجواء عن علاقتي برحاب. قلت لها انه لا توجد أية علاقة ، أجابت كيف تقول هذا وهي قد أخبرت صديقاتها أنها سافرت معك الى كربلاء حيت مكثتما سوياً ثلاثة أيام وسافرت معك أيضاً الى بغداد حيث امضيتما يومين. أجبتها ان الخبرعارٍ من الصحة!

وكانت المفاجاة عندما قالت لي: “عندنا في العراق، إذا حصلت أية علاقة حميمة بين فتاة وشاب، فما على الفتاة إلا أن تختار اي رجل يعجبها وتعلن انه هو المسؤول. فإما ان يتزوجها وتنتهي المشكلة او تقوم عائلتها بقتله. فانتبه عَلى نفسك! الا تعرف قصة أحمد الذي يعمل مراقباً والذي اجبر على الزواج؟ “. عندئذٍ بدأت أتخيل نفسي في مطار بيروت وانا انزل سلم الطائرة وعلى يميني رحاب وهي ترتدي زيها المعروف!

صُعقت للخبر ودخلت مكتب المدير العام لأقص عليه الواقعة، وكان يدعى “سرج مِلر”. لم يكن بالسهل إفهام ألماني ما يمكن أن يحدث من علاقة بين شاب وفتاة في بلاد الشرق. بعد ذلك رافقني لمكتب المهندس المقيم لأنه كان لا يوجد مجال لإضاعة الوقت.

ما ان فتحنا الموضوع حتى رأيناه يضحك تارة ويقهقه طوراً ثم يعود ليبتسم اذ كان خبر علاقتي برحاب حديث الساعة وكان على كل شفة ولسان. لم يصدق نفيي للإشاعات وكان مقتنعاً أني رافقتها الى كربلاء وبغداد. وأعلمني أيضاً انه كان قد قرأ محتوى الرسالة التي كانت رحاب قد أرسلتها لي. وأخبرني انه كان يرسل أناساً لتتبعي حيث اذهب، الا أني كنت أفلت في كل مرة من ملاحقتهم (كنت اسلك طرقات فرعية لتجنب زحمة السير). بعد أخذ ورد طلب من الفتاة ان تحضر الى مكتبه. فلما حضرت أمامه سألتها: هل صعدتِ معي في السيارة؟ هل لمست بشرتك في اي مرة؟ هل وعدتك بشيء؟ هل…؟ هل…؟ وكانت الإجابة بالنفي.

عدت الى مكتبي مقتنعاً ان الموضوع قد طوي الى الأبد. بعد أسبوعين علمت ان الفتاة تم تسريحها من العمل. أسفت للخبر لأني لم أكن اريد ان أسبّب لها اي سوء.

بعد نحوٍ من شهر دخلت ياسمين الى مكتبي مجدداً لتخبرني أن ثمة إشاعات قد انتشرت بأن أهل رحاب يريدون قتلي لأني تسببت بإساءة سمعتها. وطلبت مني ان أكون حذراً في تنقلاتي.

بعد ذلك لم أعد أخرج الا للضرورة وبرفقة صحاب لي وداومت على ذلك حتى انتهاء مهمتي بعد شهرين من ذلك.

بعد تلك اللحظات التي عشتها في مكتب السكرتيرات لم أحظَ بفرصة ثانية تجعلني اشعر فيها بالتقدير الذي يحظى به النجوم!

قياسي

رأي واحد حول “كيف تجنبت زواجاً قسرياً في العراق؟

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s