لم يكن اللسع الذي ألمّ بي كافياً ليُثني من عزيمتي! وذلك على الرغم مما ردّده على مسمعي الكثير من أقاربي وأخص بالذكر عمي حليم (رحمه الله) الذي قال: “هالشغلة مش إلك! إلك دروسك وبس”.
بدأت بإتخاذ كل الإحتياطات اللازمة لوقاية جسدي من لسعات الحشرة الجميلة والمؤذية. وللذين لا يعلمون الكثير عنها فإن مهمة العقص تنتهي بالموت المؤكد للنحلة بمجرد ان تغرس لاسعها في الكائن الذي تريد الإنتقام منه. فاللاسع له أسنان تسمح له الدخول ولا تسمح له الخروج من الجسم الذي يدخله. والنحلة أنثى غير كاملة بحيث انها لا تستطيع وضع البيض كما لا تستطيع المجامعة مع ذكور النحل. اما الكائنة الوحيدة التي بمقدورها المجامعة ووضع البيض فهي الملكة إذ إنها الأنثى الوحيدة الكاملة في قفيرها ولا يرضيها أن تتعايش مع أية ملكة أُخرى. إذن، النحلة وجدت لتعمل فقط وتفدي بحياتها الوحدة التي تتبع لها. اما الملكة، فتداوم في دارها ولا تخرج الا لمجامعة ذكرٍ واحد بين الجموع التي تلحقها. أما الظافر منهم فيموت وأما بقية الذكور فيطردون بعد ذلك من القفير! وصدق المثل القائل: “مثل ذكر النحل”
بعد ذلك، كنت لا أوفر جهداً في ارتداء ما يلزم للوقاية. ورغم حرصي الشديد على ذلك ، لم أسلم دائماً من العقص. كان القناع الخاص بتربية النحل يركب من أعلاه على قبعة جامدة لونها بيج لبُّها من الفلّين. وكان يستعمل مثيلاتها المزارعون آنذاك للوقاية من حرارة الشمس. وكان لها ثقبان، واحد عن اليمين وآخر عن اليسار يسمحان للهواء بالتسرب من ناحية الى أخرى بشكل يخفف وطأة الحرارة داخل القبعة. وكان كل ثقب مزنّراً بإطار نحاسي يحفظ القماش المغلّف من التفتت. وكان صغر الثقب يسمح بمرور الهواء دون ان يسمح بدخول النحل. إلاّ أني فوجئت أحياناً بتوصّل بعض النحلات النحيفات من الدخول فلُسعت عدة مرات كان ألعنها مرة في الشفَّة السفلى فأضحت وكأنها حُقنت بجرعة عالية من السيليكون، وثانية في جفن العين التي أقفلت بشكل بيضوي ولم أتمكن من فتحها إلا بعد ثلاثة أيام والاخيرة بالأذن مما حوًّلها الى ما يشبه بوق الفونوغراف القديم.
وحيث ان براعم زهر شجر الليمون تتفتّح على الساحل في أوائل آذار بينما يزهر الوزّال في حزيران في أعالي الجبال، كان من المستحسن نقل القفران الى موقعٍ صيفي بعد أفول الربيع في منطقتنا. وبعد تجربة صيف في مزرعة كفرذبيان قررت ان اصيّف النحل في بعذران الشوف بعد اقتراح صديق للعائلة اسمه عادل باز كان يعمل لدى عائلة جنبلاط بصفة خولي في منطقة سبلين. وكان من المتداول به في زمن سبقني ان تلك العائلة كانت تملك أراضياً من مرمى الثلج الى فقش الموج! اما عادل باز فكان من أطيب ما عرفت بين الناس وله دماثة خلق نادرة الوجود. كان يقود دراجة ناريّة في تنقلاته وكان يتميّز بمهارة لا توصف بقدراته المهنية التي كان يمارسها في أوقات فراغه ببناء أشياء غاية في التعقيد.
استقللت السيارة مع والدي لاستطلاع المكان وكان عادل ينتظرنا في منزل عائلته في بعذران. بعد ان قطعنا مسافة لا بأس بها مرورا بقرى ومدن اقليم الخروب وصلنا الى الشوف الأعلى. فمررنا عبر المختارة وعين مرشد وما ان وصلنا الى عماطور حتى انحرفنا الى اليسار فأخذنا الطريق المؤدية الى بعذران إلاّ انها لم تكن كأي طريق! كان على السيارة عملياً ان تتسلّق جرفاً كان أشبه بجدار تلامس قمته الغيوم وذلك عبر منعطفات حادة تعكس اتجاه السيارة بعد كلِّ كوع وكان صرير الإطارات يدوي تاركاً رائحة مطاط محروق تكاد تسبقنا. وكان والدي يزمّر على كل منعطف خوفاً من ألاّ يتنبَّه له النازل من فوق! وكنت طوال تلك المسافة متمسكاً بباب السيارة في زمن لم تكن أحزمة الأمان متوافرة فيه! وكان المنظر كلما صعدنا خلاباً ومخيفاً في آنٍ معاً وبالأخص لعدم توفّر أية حواجز تردع السيارة من التدحرج الى القاع المميت!
وصلنا بعد ذلك الى هضبة جميلة جعلتنا ننسى مشقّة الطريق. وبعد زيارة آل باز، تفقّدنا المكان الذي وُضع تحت تصرُّفنا للإقامة الصيفية للقفران، ثمّ أخذنا طريق العودة…
مساء الْيَوْمَ الذي انتقيناه لنقل النحل الى المصيف، أقفلت باب القفران وكان لدي نحو خمسين منها. وكان يساعدني عاملان من موظفي المزرعة: وفيق وسليم. وكان كل عامل محصّناً بكل ما يلزم للوقاية. وصل بعد ذلك سائق الشاحنة الصغيرة وكانت من نوع بيجو ٤٠٤ رمادية اللون. أوقفها في مكان قريب من القفران وذهب ليجلس معي بانتظار انتهاء عملية التحميل.
كان السائق من بلدة الجيّة ويدعى الياس. كان في العقد الثالث من العمر، مربوع القامة، ممتلئ الجسد. كان يلبس سروالاً من الجينز وقميصاً ذَا أكمام قصيرة عليه مربعات كبيرة مخطّطة بالازرق وله أزرار من الامام أغفل إقفال أعلاها فبدا شعر جسمه الكثيف الأسود فوق قبّته حيث يمتد حتى رقبته الى ان يقف بشكل طوق حدّه ما حلق من ذقنه التي بقيت خضراء رغم تنعيمه لها. اما ذراعاه فكانتا مكسيّتين بنفس الغزارة حتى أصابع يديه.
ما ان انتهينا من التحميل حتى دخلنا مقصورة الشاحنة لننطلق فوجدنا ان إلياس كان قد نسي أن يغلق النافذة عندما أوقفها! وفِي كثير من الأحيان كنّا نجد ان تلك القفران الخشبية قد يحوي بعضها شرخاً نظراً لمكوثها الدائم تحت أشعة الشمس. لذا كان من الممكن ان تكون بعض النحلات قد تسربت الى الداخل عبر النافذة المفتوحة!
جلست على يمين السائق بينما جلس على يميني كل من وفيق وسليم. وانطلقنا! كانت الطريق مستقيمة في اول كيلومترين الى ان وصلنا الى منعطفات منطقة سبلين وكنا قد بدأنا تنفس الصعداء بأن كل شيء تم على ما يرام… وإذ بالنحلات التي تسربت الى داخل المقصورة قد فاعت فجأة ودوّى طنينها بشكل غطّى صوت محرك الشاحنة وأخذت تطير بشكل جنوني رغم الظلمة لتلدغ أياً من كان في الداخل. فأخذنا نضرب يميناً وشمالاً بايدينا او بالأكف التي كانت معنا لإبعادها وإذ هي تبحث عن اي جسد بالظلمة مُقتادة برائحة أجسامنا! وإذ كان سائقنا قد تعطّر قبل مجيئه اتّجه الكثير منها نحوه وأخذ النحل يغزّ في شعر صدره ويديه للوصول الى “الهبرة”. عندذاك طار صواب صاحبنا وبدأ بالسباب وأفلت مقود الشاحنة غير عابئ بما قد يحصل. اتجهت الشاحنة نحو الهوة فرأيت الموت في عينيّ وكنت اجهل قيادة السيارات فانتفضت وأمسكت المقود من على جانب الياس وأخذت أصارع ذاك المقود يميناً ويساراً الى ان انتهينا من منعطفات سبلين ووصلنا الى كترمايا. عندئذٍ هدأ الجو ولا ادري ما حصل للنحلات الفائعات! هل ماتت كلها أم هدأ طبعها؟
أما نصيبنا من العقص فقد كان أقل بكثير من الرعب الذي انتابنا! المهم اننا أكملنا مشوارنا وأوصلنا النحل الى مقره الصيفي. وكانت المرة الاخيرة التي لجأنا فيها الى خدمات الياس!