حفلة عرس في داريا

img_1817

في أواخر صيف سنة ١٩٧٢ دُعِي والدي الى حفل عرس في داريا الشوف وهي قرية تتواجد على بعد كيلومترات من بلدة شحيم في أعالي اقليم الخروب. وكان والد العريس “أبو عنتر” قد زارنا وأصرّ على حضور كلٍ من والديّ لمراسيم الحفل.

وبما أن وعكةً صحية كانت قد ألمّت بوالدي ومنعته من مغادرة الفراش طلب مني أن أذهب الى المدينة القريبة لاستحضار سلّة زهور تليق بالمناسبة وانطلق بعد ذلك الى داريا لتمثيله.

استقللت في الصباح سيارة والدي واتجهت نحو صيدا. كانت من نوع أودي ١٠٠ ل.س. سوداء اللون تزين هيكلها تقليمات كرومية بينما كان داخل المقصورة يحوي مقاعد جلديّة ذات لون احمر ساطع. أما تابلوه القيادة الخشبي مع ساعاته المستديرة فكان يعطي رونقاً خاصاً أشبه بما نراه في السيارات ذات الطابع الرياضي.

وصلت الى بائع الزهور وانتظرت زهاء نصف ساعة حتى تم إعداد الطلبية. كانت سلّة كبيرة مستطيلة مملوءة بزنبق مار يوسف اضطررت ان افتح كلي البابين الخلفيين لإدخالها فغطّت كامل المقعد من النافذة الى النافذة بينما كان أعلى الزنابق يلامس السقف ويحجب عن السائق الرؤية عبر النافذة الخلفية.

انطلقت نحو داريا وكنت أسابق المنعطفات متلذذاً برؤية أعناق الزنابق عبر المرآة وهي تلوح يميناً ويساراً حسب حركة السيارة. وبعد ان قطعت وسط شحيم ببضع كيلومترات وصلت الى مفرق على اليسار يؤدّي الى القرية.

وما ان تراءت لي البلدة حتى توقفت لحظات لألقي نظرة عليها. كانت مبنية على هضبة من منازل خرسانية متلاصقة. أسفل تلك المنازل مسكون وكامل بينما أعلاها في قيد الإنشاء. اما الأزقة فكانت ضيقة وملتوية. كان هذا حال معظم القرى القديمة التي كانت منازلها مبنيّة بهذا الشكل طلباً للأمان. وداريا معروفة بالزيتون وزيت الزيتون. وكان يُروى عن تجارها انهم يبيعون أضعاف ما ينتجون من ذاك الزيت!

ما ان اقتربت من القرية حتى صادفت احد المارّين فسألته عن بيت “أبو عنتر”. فأجابني سائلاً: هل تسمع الموسيقى؟ الحق مصدرها فتصل اليه.

بعد ان وصلت رحّب بي أبو عنتر، وكان في العقد الخامس من العمر طويل القامة، عريض المنكبين، له وجه مستدير مائل للإحمرار ويزين وجهه شاربان معكوفان ألمّ بالإعتناء بهما ولا أشك انه لم يقصر في استعمال مكواة خاصة مع وضع بعض من شمع “التِزماتيل”. اما طربوشه الأحمر وبالطريقة التي كان يلبسه على رأسه، فكان يدل على وجهة سيره.

دخلنا المدخل ومن ثم انعكفنا نحو الدرج. أما الطابق الأرضي فكان مخصصاً لإحتفالات النساء فصعدنا الى السطح حيث كانت احتفالات الرجال. وكانت مجموعة عواميد خرسانية تعلو السطح جاهزة لاستقبال الطابق الثاني فيما بعد. وكان قماش من نوع الجنفيص قد افرد فوقها للوقاية من حرارة الشمس. اما الكراسي الخيزرانية فكانت قد وضعت على المحيط لإجلاس المحتفلين ولم يكن يتواجد اي حاجز او درابزين خلف ظهر الكراسي.

اصرّ ابو عنتر على إجلاسي عن يسار العريس حيث كنت أقف مع المحتفى به لأسلم على كل متوافد جديد، وكنت كلما عدت للجلوس أتفقد الارجل الخلفية للكرسي خوفاً من ان تقترب اكثر من شفة الهاوية! وعلى أنغام المِجوز والدربكة كان بعض الرجال يرقصون ويقفزون في وسط الساحة وكل منهم يشابه بحركاته تلك التي يقوم بها من امسك بيده احد اطراف الدبكة.

كنت في غاية السرور والانفراج الاّ انه، في لحظة لم أكن انتظرها، اخرج خمسة او ستة من المحتفين مسدسات من نوع ٩ملم (نوع ١٤) وأخذوا يفرغون حمولتها نحو السماء غير عابئين بالثقوب التي يحدثها رصاصهم في الغطاء الجنفيصي! بعد انتهاء الجولة تفقدت بُعدي عن الدرج وأخذت ألعَنُ في داخلي تلك العادة القديمة التي نمارسها في أفراحنا وفِي اتراحنا سواسية!

بعد ذلك هدأ الجو وعاد الرقص الى ما كان عليه على أنغام الموسيقى. وما ان مضى من الوقت نحو ثلث ساعة الى أن بدأت جولة ثانية من إطلاق العيارات النارية!

قبعت في الكرسي وقلت يجب ان أعوِّد نفسي على هكذا احتفالات. ما هي الا ساعات وينتهي كل شيء… واذ كنت أتفقد ما كان من حولي رأيت رجلاً يعتلي بيت الدرج لمنزل مجاور على مقربة قفزة من السطح الذي كنّا عليه. وكان يحمل بندقية حربية قد تكون من نوع “سيمينوف” نصف آليَّة مشطها يتسع لخمس رصاصات. فكان منه الا ان اسند دبشكها الى كتفه وأمسك بيده اليسرى القابض الخشبي وصوّب نحو السماء وضغط على الزناد فانطلقت اول رصاصة بشكل دوَّت لصوتها الأودية المجاورة! إلا ان الظرف الفارغ (الخرطوشة) فبقي عالقاً داخل الملقّم. فما كان من صاحبنا الا ان انزل فوّهة البندقية بحيت أصبحت مواجهة لأجسام الحضور وأخذ يتصارع يميناً وشمالاً مع الملقّم لإخراج الظرف العالق! أخذ الناس يصرخون ومنهم من انبطح على الارض غير الذين تراكضوا نحو الدرج والذي لم يكن بمقدوري الوصول اليه لبعدي عنه! تمكن اخونا من اخراج الظرف وأطلق عياراً نارياً ثانياً علق هو الآخر، ثم أطلق ثالثاً، ثمّ رابعٍاً، وبالنهاية خامساً وكلها علقت. وكدنا نتنفّس الصعداء الا ان صاحبنا وضع مشطاً جديداً وأطلق عياراً جديداً علِق هو الآخر فأخذ يعالج الملقم مجدداً موجهاً الفوّهة نحو المحتفلين الذين جن جنونهم! عندئذٍ انتفض احد القبضايات وطار صوابه من اصرار اخينا على المتابعة فسحب مسدسه وصرخ: سأقتلك يا اخو ال——-! وإذ كنت أتواجد على يمين “القبضاي” قفز احد الموجودين وأمسك بزند اليد التي كان يحمل في قبضتها مسدسه ليمنعه من إطلاق النار! عندئذٍ ارتعبت اكثر إذ كانت فوّهة المسدس تموج قبالة صدري بينما الهوة من ورائي ولا مجال للهرب. عشر ثوانٍ او أكثر مرت وكأنها دهر انتهت بفرار صاحب البندقية من على درَجِهِ.

ما ان هدأ الوضع حتى قمت وودعت المحتفلين معبّراً عن أطيب التمنيات للعروسين رغم إصرارالجميع على بقائي للغذاء!

 

قياسي

رأيان حول “حفلة عرس في داريا

  1. Viken L. Attarian كتب:

    Mon cher ami, quelle histoire et quelle aventure. Comme toujours, tu me fais penser.

    L’utilisation des tirs d’armes à feu pour célebrer est une pratique tribale et antique qui démontre l’état arriéré d’une société. La vraie faute est la faute de l’état qui n’a pas réussi à éradiquer ces pratiques à travers l’éducation.

    Je suis sur que tous ces hommes étaient au fond des gens de bon coeur, mais, en réalité, c’est cette attitude tribale qui a probablement détruit ce beau pays de notre jeunesse. Une attitude qui donnait l’importance à un groupe, une famille, un clan ou une clique plutôt que la grande collectivité, créant ainsi plus des divisions. Des divisions qui continuaient d’être exploités par des ”politiciens”, qui n’étaient que des chefs de ces clans.

    Le Liban n’a pas réussi à créer des vrais citoyens engagés pour l’amelioration de tout le pays vs. l’amélioration du sort des certains groupes ou communautés. C’est dommage, c’est un pays d’une beauté rare et d’une contribution extraordinaire à la civilisation mondiale.

    Le Liban, mon pays. Un pays des grands génis individuels, mais où la société dans sa totalité n’a pas progressé avec le temps et nous avons tous payés un prix très très dur. Je pleure et je prie pour toi.

    • أشكرك يا عزيزي ڤيكين على التعليق الجميل الذي كتبته وأوافق معك على مجمل ما ذكرت إنما قد اختلف معك على تفصيل بسيط وهو ان أجمل ما في لبنان ليست طبيعته بقدر الأناس الخيّرين والطيّبين من ابنائه. قد ندور بلاد السند والهند ولا نجد امثالاً لهم يستقبلون الغريب بحفاوة وترحيب ويغدقون في إكرامه كما تعوّد شعبنا ان يفعل.

      من ناحية أخرى قد تكون طيبة ابنائه أبشع ما فيه اذ نرى انهم يُقتادون إلى حتفهم كالخراف فنجد الضحية ولا نجد المسؤول عن هرق دمائها لأن المذنب الحقيقي يُمجّد بينما الضحية نعطيها لقب الشهادة!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s