في بداية القرن الماضي كانت قد تفشّت المجاعة في جبل لبنان بسبب قساوة السلطنة العثمانية. كان الجبل محاصراً من كلّ النواحي وكان من الصعوبة بمكان ادخال اي من المواد الغذائيّة لأي من تلك المناطق. واذكر عمّي شاهين كيف كان يروي لنا مغامراته عندما كان مازال صبيّاً إذ كان يقطع المسافات ليلاً وقبل بزوغ الفجر لتهريب الخبز من صيدا الى الرميلة لتقتات العائلة!
في ذلك الزمن هجّ من البلاد ّ كل من تمكّن طلباً للقمة العيش. كثيرون قصدوا العالم الجديد في الأميركيتين وكان القليل منهم ممن تعلّم القراءة والكتابة في اللغة الأم ونادراً منهم من عرف التفوّه بأية كلمةٍ أجنبيّة! لم يكن بمقدور العائلات ان تهاجر بمجملها لذا كان يتم اختيار احد أفرادها فتجمع له العائلة قيمة “الناولون ” وهو تكاليف السفرة ويركب البحر في رحلة تستغرق أشهراً للإرساء بعدها في مرفأ مدينة تبدأ فيها حياته الجديدة. وكانت العائلة تطمئن ان من سافر من بينها سيسلم من الإضطهاد السائد بينما ينقص لديها فم من الواجب إطعامه!
بعد الوصول كان يفتش الواصل الجديد عمن يحسن الكتابة بالعربية لإرسال رسالة الى أهله تخبرهم عمّا ألمّ به. وكانت رحلة الرسالة الى البلد الأم تستغرق مدة طويلة وما ان تصل حتى ان يلجأ مستلمها الى من يقرأها له…
من بين من سافر من بلدتنا، كان “مخايل”. وقد حطّ به الرحال في مدينة “بوسطن” الأمريكية وكان يانعاً في عمره حيث تمّ تغيير اسمه الى “مايك” لسهولة اللفظ والمناداة باللغة الإنكليزية وهو الاسم الذي لازمه بعد ذلك.
لم يتزوج “مايك” في بلاد الإغتراب وإن سنحت له الظروف ان يعاشر بعضاً من نسائها. فبعد ان تعب وشقي في تلك البلاد ولم يتمكن من ان يجمع الا ثروة متواضعة، قرر العودة الى الضيعة لتمضية ما تبقى من حياته بين ربعه واهله.
كان في العقد السادس من العمر عندما عرفته. كان معتدل القامة، مربوع الجسد، يمشي مرفوع الرأس وهو يحافظ خلال تنقّله على استقامة ظهره. كان يحمل عصاً خشبيةً لا للتعكز عليه بل كان يحمله بيده اليمنى بشكل يمكّنه من استعماله عند أية زلّة قدم. كان يرتدي ثياباً جاء بها من بلاد الإغتراب غير عابئ بأية موضة! فكان سرواله الكاكي يحافظ على قطر واحد من أعلاه حتى أسفله بينما قميصه المنقوش بالمربّعات لا يخفي طرازه. وما ميّزه اكثر من أي شيئ آخر، كان ارتداءه لقبّعة بيج فاتح مزنّرة بشريط بنّي، موديل الستينات أمريكية ١٠٠٪ وكان يضع على عينيه نظارات هيكلها بنّي على شاكلة ما كان يرتديه الرئيس الامريكي الأسبق “ليندون جونسون”.
كنت اعرفه عن بعد وهو يمشي على طريق جدرا. وكنت أراه من وقت الى آخر واقفاً على الطريق العام بإنتظار مرور بوسطة “الصاوي زنتوت”. كان يحب زيارة الأقارب برفقة أحد من ذويه. وكان كثير الإصغاء، قليل الكلام، في غاية التهذيب، وان تكلم كان ذلك بلكنته الامريكية مع التلفّظ كثيراً بكلمات من معجمه الامريكي: Yes, Alright, Thank you, Nice…
في بداية الأحداث سنة ١٩٧٥ وبعد حادثة عين الرمانة، اشتعل القتال في وسط بيروت وبدأت عمليات قتال وقنص من الميليشيات المتواجدة في المدينة. وكانت المعارك ما ان تتوقف الى حين الى ان تبدأ بشكل أعنف. وكان الكثيرمن الأبرياء يموتون بينما كانوا يتنقلون من وإلى مركز عملهم. وكانت لا تزال الصحف مثابرة على الصدور من “النهار” الى “الأنوار” الى “السفير” الى غيرها… وإذ بِنَا نفاجأ بخبر استرعى انتباه الجميع:
“وحيث ان م. ق. كان يمارس الجنس مع احدى العاملات في المجال، وذلك في السوق العمومي في منطقة الصيفي، وإذ به يقضي نحبه بعد ان اصابته نوبة قلبيّة. ذعرت المرأة وخرجت عارية الى الشرفة وهي تصرخ وتولول. ثمّ تمّ الإتصال بالشرطة التي حضرت و أكملت التحقيق وأصدرت محضراً بذلك”
وإذ تبيّن ان المتوفّي ما كان إلا “مايك” انتشر الخبر بسرعة البرق وأصبح على كل شفة ولسان رغم قلة وسائل الإتصال آنذاك من تلفون وغيره.
وصل الجثمان الى القرية واراد أهل الفقيد القيام بالواجب على أكمل وجه نظراً للمكانة التى كان الفقيد يحتلها في قلوبهم. نعوا كل الاقارب و الجيران والاصدقاء ودعوا مطران المنطقة لترؤس المراسم.
حضرت الجموع الى الكنيسة وحضر المطران الذي اختلى بأقرب الناس للفقيد لسؤالهم عن ماضي الفقيد ليحضر عظته. أخيراً سأل من كان: وكيف مات المرحوم ؟ فأجيب:”في الأسواق”
بعد قراءة الإنجيل وقف المطران والقى عظته عن مزايا الفقيد وتاريخه ثم استطرد قائلاً: “…مات شهيداً…”
وأخذ الجموع يتقهقهون في أحراجهم وبالأخص الرجال الذين يتمنَّوْن هكذا ميتة لأنفسهم عندما تأتي الساعة!…
Tu as vraiment du talent mon cher Bachir… Tu devrais vraiment écrire un beau roman et tu verras combien nombreux seront ceux qui te liront. Yalla ma ba’a badda
Joseph Chbat
أشكرك يا عزيزي الاستاذ الكبير جوزيف شباط على هذا التعليق الجميل والذي يُقوِّي عزمي للمتابعة بكتابة المزيد مما بدأت به.
إلاّ انني اخشى أني اذا غامرت وتوصلت الى طبع كتاب ما ان تصحَّ المقولة “بأننا شعب لا يقرأ” وذلك مع احترامي الشديد للنخبة التي تتابع مقالاتي.