تنتابني الرغبة منذ مدة أن أدوّن بعض ما عشته في سني طفولتي في بيروت، المدينة التي ولدت وشببت وترعرعت فيها ولي من الذكريات ما يملي مجلدات!
كما اسلفت في مقالٍ سابق أني ربيت في شقة مع والديّ و اخويّ في شارع المستشفى الفرنسي من المنطقةً المسماة بالخندق الغميق. وكان هذا الشارع يتفرّع من شارع سوريا على مقربة من كنيسة السريان بزاويةً مستقيمة ثم ينعطف بعد مسافة الى اليمين نحو مدخل المستشفى الفرنسي الذي أعطى اسمه للشارع ثم يلف الى اليسار الى ان يلتف بشكل نهائي الى اليمين ويصبح موازياً بالاتجاه لشارع سوريا حتى المرور امام البناية التي كنّا نقطنها وينتهي على شارع صغير ينطلق من شارع سوريا وينتهي امام جريدة الحياة.
في احدى الليالي الخريفية وكنت آنذاك في الثالثة من عمري، وكانت والدتي حاملا بأخي صلاح، رافقت أبويّ للذهاب الى زيارة سيدة من آل عون كانت تسكن على نفس الشارع على مقربة من التقاطع مع شارع سوريا. كنت امشي وكأني بين عملاقين لصغر حجمي آنذاك. وكنت استنشق طول المسافة روائح منها الجميل ومنها النتن. أما الجميل فكان ما يفوح من أشجار الياسمين التي كانت تغطي مداخل المنازل القديمة لدرجة تجبر الداخل ان يحني رأسه للدخول الى الباحة. وأما النتن فكان ما ينبعث من أسفل بعض جدران أسوار الحدائق والبنايات والتي سقاها بعض المارة من الرجال الذين كانوا على عجلة في أمورهم وذلك على الرغم من الكتابات التي خطّها اصحاب الملك الذين ضاق ذرعهم بتلك العادة فكتبوا: “يا صاحب الشرف الرفيع لا تبوّل هنا” (وعلى فكرة، هذا نموذج من أرقى ما كان يكتب!).
ورغم عدم طول المسافة، كان علينا أن نمر أمام المستشفى، ثم أمام مدرسة أرمنية جبتها لسنة فيما بعد، ثم أمام دار للأيتام. وما أن وصلنا الى المنزل وكان المسكن في الطابق الثاني حتى رن والدي الجرس ففتحت لنا السيدة باب الباحة الخشبي بواسطة حبل رفيع يمتد من مزلاج قفل الباب الى مدخل الدور الثاني.
وبعد انتهاء الزيارة وفيما كنّا في طريق العودة، أوقفنا نحيب مولود لُف بغطاء قديم ووضع على الدرجة الخرسانية أمام مدخل الميتم. رنّ والدي الجرس مرّات عديدة ولم يأتِ أحد لفتح الباب. آنذاك تبادل والداي فكرة تبني الطفل على الرغم من أنهما كانا ينتظران مولوداً في خلال أشهر! وإلا بقوة قادر، فُتح الباب وظهرت احدى الراهبات التي قامت بلم المولود وأدخلته الى الداخل وأقفلت خلفها الباب…
كانت شرفة الشقة التي كنّا نسكنها بمثابة مقصورة المسرح (لوج). وكان الشارع هو المسرح! فكنت اسمع في ساعات ما قبل بزوغ الفجر أصوات التحضيرات لما سيأتي فيما بعد وكأنها أصوات ما وراء الكواليس. وكان الشارع يحوي مشاهد متغيرة تماما كما نجد في اي مسرحية!
يبدأ الصباح بمناداة بائعي بعض مما يستهلك للفطور: مناقيش بالزعتر محمولة على عارضة خشبية، “سحلب سخن”، قهوة ، ليموناضة الى ما هنالك… وكان الفوّال المتواجد في الشارع في قمة انشغاله لتلبية طلبات من تواجد في محله او تلبية طلبات المنازل! وكان كل صحن فول يصل لطالبه بإناء فخاري مزين ببضع حبات الحمص وبعض أوراق النعناع والبقدونس مرفقاً بالخبز الموضوع على ورقة مشمٌعة ولا ننسى الفجل والبصل الأخضر، وكل ذالك على صينية نحاسية … ولا ننسى زيت الزيتون حيث ان كل زبون كان يطلب: بحبح الزيت، اعمل معروف. ومن بين المشاهد التي لا تنتسى والتي انقرضت رؤياها مع الزمن، كان مشهد طمبر الكاز الذي كان يبيع الوقود لأغلب المنازل التي كانت تقتني بابور الكاز الشهير وذلك قبل توفر المواقد الغازية وقواريرها. اما بائع ألواح الثلج فكان يمر كل صباح في شاحنته ليبيع ألواحه الى معظم أبناء الحي. فكان كل بيت يشتري حاجته من الثلج للحفاظ على مأكولاته وكان البائع يستعمل مخرزا لقطع اللوح حسب رغبة الشاري. وكان كل شارٍ يضع لوحه البارد في علبة صلبة ويغلفه بقطعة من الجنفيص ويحيط ذلك بما تواجد من المأكولات لحفظها. وكان كل مطبخ يحوي “نمليّة” تعلق في السقف لحفظ بعض انواع الطعام ورد النمل والصراصيروالذباب عنها وكانت النملية عبارة عن خزانة لها هيكل خشبي تجمع بين أركانها شبكة ناعمة تسمح بمرور الهواء دون الحشرات.
بعد ذلك تأتي عربات الخضار والفاكهة وكل بائع ينادي على ما يبيعه باصوات عالية مرنمة اذكرمنها: “أصابيع الببّو يا خيار” او “إم قليبانة، حلوة وملانة”… وكان على كل من يهمها الامر ان تأتي لجوار العربة لتشتري او تحارج وتفاضل البائع من على شرفة منزلها وإذا اتفقت معه على شيء تنزل من على الشرفة سلّة مصنوعة من القصب ومربوطة بحبل وكانت تضع الفلوس في قاعها مشبوكة بملقط غسيل خشبي خوفا من ان يحملها الهواء. وكان البائع يضع المباع في السلة في كيس ورقي ويعيد بنفس الطريقة ما تبقى من المال!
اما صاحبة الدكانة “إم سيروب”، الأرمنية الأصل وذات اللكنة المعروفة، فكانت تلبي حاجات الحي بأكمله مما تبيع. وكنا ننزل السلة ونصرخ مثلا “إم سيروب، نصف كيلو خبز، وأوقية بن وعلبة بافرا، إعملي معروف”. وكانت تضع المطلوب في السلة وتسجل المشترى على دفتر. وكان يقوم رب البيت بدفع الحساب مرة في الشهر! ولا أستطيع ان أنسى عندما كانت إم سيروب تحمّص البن في وسط الشارع على بابور الكاز في الإناء الأسطواني الأسود وهي تقوم ببرمه فوق النار من بداية العملية حتى نهايتها، وكان دخان التحميص يفوح كالبخور بعطره فيعم كل الشارع بشكل يفتح الشهوة!
يتبع بعد ذلك باعة الحلوى كالكرابيج مع الناطف الخاص به او بائع السمسمية الذي كان يحمل حلواه الممدودة في طبق نحاسي مستدير على رأسه وهو يمشي مرفوع الرأس بتوازن واحتراف بينما يمسك بيده حاملاً خشبياً ثلاثي القوائم يركّزه بخفة على الارض لدى الحاجة ويستعمله لوضع الطبق عليه على مستوى يسهّل له تقسيم السمسمية الى قطع حسب المشتري. ويجب ان لا ننسى بائع الجلاّب الشهير والذي كان يجوب الشارع عدة مرات في النهار.
أما بعد الظهر فكان يأتي وقت “العصرونية” وهي وجبة صغيرة يتميّز بها اللبنانيون إذ يتناولونها بين وجبتي الظهر والمساء. وكان ملك هذه الوجبة بائع الكعك. والكعكة لها ميّزة بشكلها حيث انها تشبه رغيف الخبز اللبناني إنما مفرغة في وسطها بشكل غير متوازٍ وهي مغطسة بالسمسم. كان البائع يحمل منتوجه على طبق خشبي مستطيل يحمله على رأسه ويحمل بيده سيبة خشبية يستعملها كقاعدة عند البيع . وكانت الكعكات مرتبة بشكل منتظم على عدة أدوار. فكان يصيح “كعك سخن” والشارون يؤمّونه من كل صوب. وعند طلب المشتري كان ينخر الكعكة في بطنها ويدخل بعضاً من الزعتر والسمّاق.
أما الأولاد فكانوا يملأون الشارع بأصواتهم وصخبهم وبالأخص في أخر النهار بعد العودة من المدارس. وكانوا يتنافسون باللعب بالكلل الزجاجية الملونة او بالبلبل وهو عبارة عن قطعة خشبية مخروطية الشكل لها رأس حديدي مروّس. فكانوا يلفّون خيطا بشكل حلزوني إبتداءً من الرأس ثم يرمونه بشكل معين على الارض وهم يُمسكون بالخيط حتى يفلت فيقوم البلبل بالدوران حول نفسه لدقائق عديدة وكانالشاطر من كان بلبله يبرم اكثر من غيره!
Chou hal helou ya Bachir c tellement Émouvant
Merci 7akim!
Tu m’as fait revivre la nostalgie du passé, la belle époque de notre enfance.
La vie était plus belle et plus simple.
Tu as complètement raison, Henri! Le passé que nous avons vécu lors de notre enfance était plus beau de ce que nous vivons aujourd’hui.
My dear friend,
My uncle used to live in Khandak el Ameek (Ghameek). He did not have any children, and I used to visit there regularly and even occasionally stayed overnight as a guest in their apartment. It was a big thrill for me to wake up there and experience the day as you described. When I read what you wrote, tears started to roll down uncontrollably over my cheeks. This is perhaps one of the most moving memories that I have read. You brought back not only the sights and sounds of my own childhood, you succeeded in bringing back even the smells and the tastes.
I know the streets you are describing. I may even actually know Em Serop. But for me, above all, you pay a lasting tribute to a place and time that no longer exists. I wish someone did a film or made a documentary to preserve this precious memory for our children and grandchildren. Until that time, you have done it justice with your keyboard, your wonderful style and your evocative language.
That Beirut and those streets were forever torn out of this physical world by an unimaginable level of violence that was unleashed on a people, a culture, a history and even a civilization. That portion of our past was murdered and erased. I am grateful that is had survived in your mind and that you have shared it with all of us who not only appreciate it, but had lived it ourselves.
Thank you for giving us back what we had missed all these years.
Your friend
Viken
Thank you Viken fir this wonderful comment! I appreciate it more because you knew the area I’m describing. I have a friend who was able to trace back the name of the Armenian school that I frequented back then..
Thank you again Viken, you made my Day!
Chacun de nous a des mémoires qui lui sont spécifiques à lui…mais tu as décrit avec élégance et exactitude le quotidien de tous les libanais peu importe dans quelle ville où village ils vivaient…….
Merci GABI pour ton commentaire. C’est vrai que chacun a ses propres mémoires sauf qu’il y un grand nombre d’entre nous qui ont grandi dans une société beaucoup plus saine que celle d’aujourd’hui et nous partageons beaucoup de similarités dans la façon dans laquelle nous avons été éduqués. La classe moyenne était majoritaire tandis que de nos jours elle est en train d’être anéantie.
Merci Bachir pour cette très belle description , dans les petits details , tous vécus
par notre génération , nous les “Baby boomers”.En fait moi , qui suis un ancien du Collège des Frères à Jemmeyzeh , je me rappelle , a la sortie du collège a 16h00 , le vieux Abou Afif , le marchand de “kaaké”,le marchand des “Karabeej” , qui pour 5 piastres , nous invitait à lancer un dès et de recevoir le nombre de “cornets” de karabeeg , je me rappelle de Ramoff , qui nous vendait le bon Gateau a 15 piastres /piece , Omaira qui vendait des brioches fraiches…
Hélas , le bon vieux temps qui nous pousse à dire , “Si jeunesse savait , si vieillesse pouvait”.
Cheers
Je ne trouve pas les mots pour te remercier, Tony, pour le beau commentaire que tu viennes de laisser. Tu viens de compléter avec beauté l’article que j’avais débuté à écrire. Si chacun de nous, les Baby-boomers, raconte en quelques mots une partie de son vécu ce sera merveilleux. Avec notre génération reposent les meilleurs moments de l’histoire de notre pays.
J’apprécierais beaucoup d’avoir d’autres commentaires qui ressemblent au tien.