تخالجني فكرة وكأنّي كبرت اكثر من عمري الحقيقي وان السنين التي تكوّن تعداد سني حياتي هي اقل بكثير من التغيرات التي عايشتها مُذ تفتحت عيناي على ما جال حولي !
تعود بي الذكريات الى الأيام التي نشأت فيها في المدينة التي شهدت ولادتي ألا وهي بيروت. كبرت وترعرت في شقة كانت تقع في الطابق الرابع من بناية تواجدت في شارع المستشفى الفرنسي الذي كان يقع غرب شارع سوريا في وسط المدينة في منطقة تسمى “بالخندق الغميق”. وكان هذا الشارع على بعد خطوات من جريدة “الحياة” الشهيرة والتي شهدت دارتها مصرع مؤسسها ورئيس تحريرها “كامل مروة” في مكتبه سنة ١٩٦٦ وهي ذكرى لاتغيب عن مخيلتي لأن الواقعة هزّت الحي بأكمله !
والمعروف عن مدينة بيروت انها تتحلى بشتاء معتدل فيما صيفها حار جدا وترتفع في الجو نسبة الرطوبة بحيث ان أي فرد يكاد يغرق في عرقه نهاراً فيما يصعب عليه النوم ليلا. فالجدران التي سطعت عليها الشمس تبصق خلال الليل حُمم ما خزّنته من حرارة لتجعل لذة النوم أمراً مستحيلاً علما أن اجهزة التكييف لم تكن قد توافرت بعد.
في تلك الأيام ، اي خلال الخمسينات والستينات كانت بيروت تتميز بوجود نسبة عالية من ذوي الطبقة المتوسطة بين سكانها. وللهروب من وطأة الحر خلال الصيف، كان الكثير من عائلات تلك الفئة يهمّ بإستئجار شقة لقضاء موسم الصيف في احدى البلدات المتواجدة على المرتفعات المطلة على العاصمة. فكان مجرد الإبتعاد مسافة تقاس بعشرات الدقائق بالسيارة والإرتفاع الى الهضاب يفي بالغرض فحرارة الجو تقل بعدد من الدرجات مما يجعل قضاء فصل الصيف في الربوع الجديدة لذة ومتعة لا تفوّتان. فبعد انتهاء موسم المدارس في أواخر شهر حزيران كان يتم الإنتقال الى المقر الصيفي وكل ما يترتب على ذلك وهو نقل الأثاث والأدوات المنزلية الى المقر الصيفي وكل ما يلزم للعيش على أفضل يكون. وكان الوضع الجديد يدوم لغاية أواخر شهر أيلول حيث تتم العودة الى المنزل الشتوي! اما الرجال فكانوا يواظبون على الذهاب الى أعمالهم في المدينة والعودة الى المصيف بعد الظهر.
وكنتَ عندما تسأل احد معارفك عن المكان الذي يمضي فيه صيفه، تسمعه يجيبك بتسمية احدى البلدات التي وقع عليها اختياره كبرمانا، او بعبدات،او بحمدون، او فيطرون، او ريفون، أو عجلتون… إلا الذي لم يكن بمقدوره، لسبب او لآخر، الإنتقال الى مصيف فكان يجيبك “سطيحون”
وما هي “سطيحون” وأين توجد؟
كانت العادة ان نقوم كل صباح لدى الإستيقاظ بفتح الشبابيك وفتح درف الستائر الخشبية وذلك لتهوئة غرف النوم، صيفاً او شتاء. وكان للغرفة التي كنت أرقد فيها مع كل من أخويّ نافذة وباب يدلي على شرفة تطل على الغرب. وكانت الرؤية تمتد الى نحو نصف ميل من الأبنية المتعددة ذات الدور الآحادي بمعظمها وذات السطوح المسطّحة الخرسانية والتي بنيت من ثلاثة عقود من قبل او اكثر. وكان الأفق يصطدم بصف أبنية من ثلاثة او أربعة طوابق يتوسط مرآها جامع لا تزال أذناي ترددان صدى آدانه!
ففي كل صباح من الأيام الحارة التي كان يبدأ موسمها في منتصف حزيران وينتهي في منتصف أيلول ( على أساس ان أيلول طرفه بالشتي مبلول) كنت أتصبّح بمشهد لا يثمّن ولا اغفر لنفسي كوني لم التقط له أيا من الصور! فعلى مرمى النظر كانت السطوح مأهولة من الذين رفعوا فرشهم عبر السلالم وجعلوا من السطح مرقداً لهم طوال الليل. فمع بزوغ الشمس كنت ارى أجساما تتحرك ثم تنزل على السلالم الخشبية لقضاء ما يلزم في البيت قبل الذهاب الى العمل. وكان يتم ترتيب الفرش في مكانها بانتظار المساء من دون اي خوف من المطر، فبيروت لا تمطر فيها السماء طوال فصل الصيف (فيما عدا أيلول كما ورد سابقا)
هذه كانت قصة سطيحون كما عرفت والتي قضت عليها المكيفات الكهربائية…