خلال ايام طفولتي كنت أقصد دكّان الحلاق بانتظام وكانت المدة التي تفصل بين قصّتي شعر لا تزيد على أسبوعين. ونظراً لصغر سني وقامتي الصغيرة في ذاك الوقت، كان الحلاق يجلسني على لوحةٍ خشبيّة يُركّزها على ذراعي المقعد. وبعد ان يلف فوطة الحلاقة البيضاء حول عنقي كان راسي يصبح بالارتفاع المطلوب. كلفة قصة الشعر كانت ليرة واحدة في بيروت بينما نصف ليرة عند “ابن الأعمى” في بلدة الدامور والذي لم يكن محلّه يبعد كثيراً عن منزل جدّتي!
أما الكبار فكانوا يدفعون للحلّاق مبلغاً شهرياً يغطّي كلفة قَص الشعر للشهر كله كما وحلاقة الذقن التي تستعمل فيها الأدوات التقليدية من فرشاة مصنوعة من وبر حيواني وطاسة من الالمنيوم لرغي الصابون وموسى حادة يتمّ سنّها على سير جلدي بحركة فنية بحيث يشدّ الحلاق طرف القشاط بيده اليسرى بينما يمسّد الشفرة على الجلد من ناحية ثم من أخرى. اما اذا ما شطب بشرة احد الزبائن بالخطأ وسال القليل من الدم فكان يوقف السيلان باستعمال قلم شبّة! اما في أيامنا هذه فقد اختفت كل هذه الأدوات وامتنع الحلاقون عن حلاقة الذقون خوفاً من الملاحقات القانونية!
كان جميع الصبيان يجزّون شعرهم بنفس الموديل. كان الحلّاق يترك الشعر طويلاً بعض الشيء بحيث كنا نرفعه فوق رأسنا بشكل نسميه “شينيون” ونستعمل مساحيق لتجميده تحت اسم “بريانتين”. وفِي احدى المرات بعد ان كانت والدتي قد سئمت من قَص الشعر المتواصل، طلبت مني ان اطلب من الحلاق ان يقصه بشكل “آ لا بروس” (A la brosse) وقالت لي انها “أحلى قصّة”! عندما طلبت ذلك من الحلاق، وكان أخي صلاح يرافقني، سألني بنظرة تعجّب: “أكيد؟” أجبته: “نعم!” وإذ به يعدّل شفرة الألة الميكانيكية ويبدأ بالحلاقة والتي كانت أشبه بالحلاطة! ما ان اجرى اول خط لم يعد بالإمكان ايقافه قبل اتمام العمل. وهذا ما جعل صحابي في المدرسة يضحكون على منظر “قرعتي”!
مرت الأيام وكبرت وكنت احيانا اقصد احد الحلاقين في مدينة صيدا خلال ايام الصيف. كان حانوته على مقربة من ساحة النجمة. وإذ كنت أنتظر دوري سمعته يتكلم مع أحد الزبائن عن قَص الشعر “على الشمعة”. بعد سؤاله عن الموضوع أجابني لتلك القصة فائدة في تقوية بصيلات الشعر. طلبت منه ان يقوم بقص شعري بتلك الطريقة.
أخذ “مفك براغي” من النوع الذي يستعمله الميكانيكيون ولفّ على رأسه الحديدي قطنة ثم غرسها في قنينة “سبيرتو زرقاء” ثم أشعلها بالكبريت. بينما كان يحمل “المشعل” بيده اليمنى أخذ يرفع شعري بواسطة المشط ليحرق طرفه بالنار. أخذ الجوّ يعبق بالدخان وتتصاعد رائحة اللحم المشوي كلما حرق خصلة من شعري. وكدت اموت رعباً حينما تقترب النار من أذنيّ. المهم اني انهيت التجربة دون حروق ولم أَحصل فيما بعد على أية فائدة لبصيلات شعري.
مرت السنون واذ كنت في زيارة رسمية للبنان دعاني مع نخبة مميزة من الرجال صديقي الحاج زهير الى حفل عشاء والحاج هو من أعيان الجالية اللبنانية في مونتريال. كانت الدعوة في مطعم فخم في منطقة المنارة من بيروت وخلال العشاء أخذ يحدثني عن رقابة صاحب المطعم لنوعية الطعام. قال انه يراقب كل طبق قبل ان يقدم وإذا لم يحز على رضائه فإنه يرجع الى المطبخ كل الاطباق الموجودة على الصينية.
وما ان انتهينا من اكل المشاوي حتى تذكرت حادثة قَص شعر حدثت لي في بداية الأحداث المؤلمة سنة ١٩٧٥ . كانت قد درجت موضة الشعر الطويل والسوالف العريضة واستعمال “السشوار” (مجفف الشعر الكهربائي) واستعمال “الفيكساتور” اي المركّز للشعر! وكنت قد واظبت على ارتياد محل للحلاقة في منطقة قريبة من جنينة الصنائع تسمى “الوِتوات”.
أخذت أروي للموجيدين وقائع آخر مرة ترددت فيها على المكان. كانت قد بدأت الأحداث وكانت تهدأ الأوضاع من وقتٍ الى آخر. وإذ وصلت الى جوار المحل وجدت عدداً كبيراً من السيارات المتوقفة من جانبي الطريق على غير عادة. حاولت ان انعطف نحو اليمين من الشارع الذي وصلت اليه فوجدت صعوبة بالانعطاف. كانت سيارة أمريكية سوداء من نوع بونتياك ذات مؤخّرة عريضة موديل تلك السنة متوقفة على ذاك المنعطف. واذ بي احاول المرور والسيارات ورائي تزمّر حتى التطمت بالسيارة. نزلت من وراء المقود لاتفقد الضرر الذي احدثته فالتقيت بسائقي سيارتي تاكسي متوقفتين امام السيّارة التي لطمتها. قال احد السائقين:”ضربت السيّارة!” قلت له: “اعرف ذلك! من صاحب السيّارة؟” قال لي: الريّس زكٌور”. قلت له: “نادِه لو سمحت”. قال : ” لا! انت تذهب له بنفسك! هو نائم! هذا ريّس زكّور!”
ما ان ذكرت اسم الريّس حتى لمعت عينا مستضيفي الكبيرتان وأفرجت شفتاه عن ابتسامة صغيرة تحت شاربيه الكثيفين وأظهر شغفاً في الاستماع للمزيد من القصة!
اكملت حديثي: كنت واثقاً انه لم يكن بإمكاني مغادرة المكان دون ملاقاة الريّس زكور. بدا لي آنذاك ان الجميع يخشى غضبه وبالأخص في تلك الحقبة من الزمن. أشار لي السائق الى البناية الجديدة التي كانت وراءنا وقال لي: “إصعد على الدرج حتى تصل الى الطابق الثاني فالكهرباء مقطوعة. ثم تنحرف على اليمين حتى تصل الى آخر الرواق وهناك تواجه باب الريّس.”
ما ان صعدت بضع درجات حتى كان كل شيء مظلماً. فاخذت أتحسس الدرجات والجدران حتى وصلت الى الطابق وأنا أناشد نفسي:”شو هالوقعة!” بقيت أتحسس طريقي حتى وصلت الى الباب بعد عبور الرواق. قرعت مرة ثم مرة ثانية ثم ثالثة. اخيراً سمعت صوتاً خشناً من الدخل: “من؟”. أجبت: “انا بشير”
فتح الباب. تراءى لي جسم رجل مربوع متوسّط القامة. كان بصيص من النور يدخل من احدى النوافذ ليظهر لي ان شعر رأسه مزعتر بلون فاتح وكان جسمه عارياً تماماً . تمالكت نفسي وشرحت له وضعي. سألني: “هل الضربة كبيرة؟” أجبته بالنفي فقال لي:”روح! (بمعنى إذهب)” فتركت وانا اتطلع للوارء!
ما ان انتهيت من سرد قصّتي حتى قال لي الحاج: “هل تعرف ان الريس زكور هو صاحب هذا المطعم الذي حدّثتك عنه؟” ثم صرخ للنادل: “اطلب من الريس زكور ان يأتي الى هنا!” بدأ قلبي يدقّ خوفاً من ان يتذكر الريس الحادثة ويكون قد استخلص ان الضربة اكبر مما كنت قد شرحته له! المهم انه كان قد غادر المطعم ولم أحظَ بلقياه بكامل هدومه!